من المؤكد أن مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في شرق الولاياتالمتحدةالأمريكية وغربها تعد مصانع السياسة الخارجية الأمريكية.. ولن تقف اطلاقاً أمام تصريحات رسمية من البيت الأبيض او البينتاجون تنادي بعدم علاقات تلك المراكز وبيوت الخبرة بالمؤسسات الرسمية الامريكية.. وكما هو مألوف ومتوقع فإن هذه المراكز تعمل في إطار عمليات متسلسلة تهدف في نهاية المطاف الى تهيئة صاحب القرار الى القرار المناسب وفق مصالح معينة تحددها قوى الضغط او أجندة الأحزاب. ومن المعروف -كمثال استشهادي فقط- ان احد هذه المراكز «أمريكان انتربرايز» كان قد فرض اجندته اليمينية على الحزب الجمهوري في عهد الانتخابات التي خاضها الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان عام 1980م.. وبعد تسلم الرئيس مهامه استعان بأكثر من ثلاثين شخصية مرتبطة بهذا المركز بمن فيها وزير الخارجية في رئاسته شولتز. وبكل بساطة لا تعمل هذه المراكز من فراغ، بل انها تستند إلى واقع ملموس وتجارب محاكاة.. فمثلاً ينبغي ان نعرف ان الهيئات الاستشارية لهذه المراكز تمثل اصحاب قرار سابق او اصحاب خبرات ثرية او اصحاب نفوذ اقتصادي كبير وتشكل هذه الهيئات الاستشارية العقل الذي يفكر لهذه المراكز والذي يضع لها إطارها العام والحدود الدنيا والقصوى التي ينبغي السير فيها.. اضافة الى كون هذه الهيئات تمثل خلية جاهزة ومرشحة الى أي فراغات تنفيذية في أجهزة المؤسسات الامريكية السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية لملئها بالأشخاص الذين يكونون قد تشبعوا بالفكر والسياسة التي تدربوا عليها.. وعندها يكون الفكر المتطرف قاب قوسين او ادنى من مرحلة التطبيق العملي. اذن هكذا هي مراكز الدراسات وبيوت الخبرة في الولاياتالمتحدة المعنية بمناطق العالم ودوله، فهي عبارة عن مصانع للسياسة الخارجية تفكر وتبدع وتخطط وتقنع وتجهز ثم تقوم اخيرا بدور التطبيق من خلال احد برنامجين.. اما برنامج تقديم المشورة الى الاجهزة التنفيذية كما هي الحال مع مركز راند الذي قدم تقريره الشهير عن المملكة الى البينتاجون بحضور كبار الشخصيات المدنية والعسكرية هناك.. او من خلال برنامج تجهيز الكوادر لتطبيق مثل هذه البرامج والسياسات كما هي الحالة دائماً في استعانة المؤسسات الحزبية بشخصيات فاعلة في مثل هذه المراكز.. وتقوم هي بتطبيق هذه السياسات مباشرة.. وينبغي التوضيح مرة أخرى في سياق الحديث عن هذه المراكز انها تسعى دائماً الى تسريب إعلامي عن فحوى هذه التقارير والدراسات وذلك لسببين أولهما انه ربما هذا التسريب يعطي بعدا دعائياً عن المركز وارتباطه بمؤسسات القرار الامريكي.. وثانيهما ان الاجهزة التنفيذية داخل مؤسسات القرار الامريكي تعمد في اكثر الاحيان الى مثل هذه التسريبات الإعلامية لهدف أساسي وهو تشكيل قوة ضغط على الدول ذات العلاقة المعنية بفحوى القرار والتلويح بمضمون هذا التقرير او تلك الدراسة كموجه جديد للسياسة الخارجية الأمريكية.. وربما يتحقق هدف آخر في هذا الخصوص وهو ان التسريبات الإعلامية هي جزء من بالونات اختبار يطلقها أي من الطرفين «المراكز او مؤسسات القرار الرسمي» لاستكشاف تفاعل الأطراف المعنية بالموضوع مع تلك القضية او ذلك التوجه او تلك الافكار المرشحة لأن تكون سياسات مطبقة.. ثم يتم من خلال تلك المراكز او داخل دوائر مغلقة او اجهزة استخباراتية تقيم ردود الفعل وتفاعلات الأطراف، ومن ثم وضع آليات معينة للتعامل مع مدى وحجم التأثير المتوقع من تلك السياسات.. وقد يتم تبنيها حاليا او ارجاؤها او تعديلها الى مستوى معين من القبول التكتيكي في إطار استراتيجيات عامة غير معلنة. كما يمكن التوضيح هنا ان مثل هذه التقارير وتوجهات السياسات الجديدة قد تأخذ وقتا معينا، وقد لا تستطيع إدارة رئاسية حالية تنفيذها على أرض الواقع، بل تأتي إدارة جديدة وتجد لديها أجندة جاهزة تختار منها ما يكون مناسباً لاستقطاب دعم قوي الضغط ومؤسسات الحزب الحاكم..وتدفع هذه المراكز وبيوت الخبرة الأمريكية هذه الأيام بكثير من تقاريرها ودراساتها حول منطقة الشرق الأوسط وعن العالم العربي والإسلامي.. وكلها تقف في صف واحد تسعى من خلاله الى اعادة رسم خارطة المنطقة بما يتوافق مع المصلحة الأمريكية كما هي تدعي، ولكنها تصب كذلك في مصلحة اسرائيلية واضحة.. وتسعى بعض هذه التقارير الى رسم سياسة جديدة تماماً للمنطقة، والبعض منها يطالب بقلب انظمة الحكم في بعض الدول، وبعضها الآخر يرى تفكيكاً مرحلياً لبعض الأنظمة وإعادة دمجها في أنظمة أو نظام اقليمي واحد.. وهكذا اتاحت الظروف الحالية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فرصة مواتية للإبداع الأمريكي لأن ينفرد برؤية ابداعية منفردة لوضع الخطط والتوجهات لصياغة العالم العربي والإسلامي بطريقة جديدة وبخارطة جديدة.. مثلما فعلت كل من بريطانيا العظمى وفرنسا مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين بعقد اتفاقية سايكس بيكو التي تم فيها رسم خارطة حدودية تقسم العالم العربي وتوزع المصالح بين القوتين العظمى في ذلك العهد. وعلى الرغم من كل هذه المؤتمرات والخطط العسكرية والأهداف السياسية التي تعمل من خارج المنطقة، إلا انه يغيب عن عالمنا العربي نماذج لمثل هذه المراكز وبيوت الخبرة التي تقدم خدماتها الى أصحاب القرار العربي، والمملكة ليست مستثناة من هذا التعميم.. فلا توجد لدينا مؤسسات دراسات وبيوت خبرة ذات قيمة استراتيجية تضيف لصاحب القرار وتدعمه وتهيئ له المناخ العلمي والظروف الكاملة لاتخاذ القرار العام سواء اكان داخليا او خارجيا.. واذا وجدت بعض هذه المراكز فتقف على استحياء وعلى مستوى متواضع في الامكانات والطرح، وغير مرتبطة بمؤسسات القرار العليا. (*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلوم الاتصالات أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود