يعد الشاعر ورجل الدين جون دون John Donne؛ الأشهر بين شعراء ما وراء الطبيعة قاطبة، ومن له قصب السبق في التأصيل الفني للشعر الميتافيزيقي. ويمكن أن نجمل السر وراء ذلك في أمرين مهمين؛ الأول، إن دون هو المؤسس الحقيقي لشعر ما وراء الطبيعة. وهو الباعث الحقيقي لهذه المدرسة الشعرية أو هذا التيار الأدبي الذي أعده نقاد الأدب العالمي؛ حدث تجديدي في الممارسة الشعرية الأوروبية والعالمية على المطلق. فهو – أي دون – قد عمد لاستحضار قضايا ميتافيزيقية وعدة تساؤلات ما وراء طبيعية ، ثم عمد لتوظيفها في قوالب شعرية ماتعة. تاركاً لفكر القارئ ولعقليته الفاعلة ؛ أن تتشارك معه في البحث عن الإجابات. والآخر، إن الفلسفة عامة، وفرعها الممثل بالميتافيزيقيا؛ هي من أكثر المعارف تعقيداً في الفهم لدى العامة، بل ومن الفلسفات العصية على الإحاطة المعرفية. فما بالك بالإدراك الشمولي لها ولمنطلقاتها ولأبعادها التفسيرية والدلالية. لكن مجمل ذلك قد تم تجاوزه وتم كسر معادلة التعقيد التي كانت غالبا ما تواجه القارئ بفضل جهد جون دون وجهود باقي الشعراء الميتافيزيقيين. وتمثل ذلك في نقل تساؤلات وقضايا الفلسفة الميتافيزيقية وتقديمها لهذا القارئ الافتراضي في قوالب شعرية جاذبة واضحة الطرح إلى حد ما والتناول. وهذا الصنيع من جون دون يعد بعدًا إيجابيًا لممتهني الكتابة الشعرية الما وراء طبيعية. كونه قد قرب الفلسفة الميتافيزيقية بقضاياها الشائكة، وتساؤلاتها الجدلية العصية في الغالب على الفهم والتناول للقارئ الهدف، وسهل عليه فهمها وإدراك مآلاتها. وذلك عبر توضيعها في النصوص التعبيرية الشعرية ؛ وخاصة إذا ما علمنا أن الشعر هو ديوان القارئ عموماً وهو كذلك أقرب الفنون التعبيرية إلى ذاته وأناه. ولقد استعان شاعرنا جون دون بجملة من الوسائل التي أعانته في تحقيق معادلة النجاح هذه، وذلك عبر تبني منهجية تحوي سلسلة من الأداءات والأفعال الإجرائية، من أبرزها: العمل على انتقاء ألفاظ شعرية واختيار تراكيب تعبيرية تتسم بالبساطة والوضوح، و تحميل هذه التعابير بالتساؤلات الميتافيزيقية ومن ثم عرضها للقارئ في صورتها النهائية لمطالعتها والتأثر بمحتواها ومن ثم التماهي مع الشاعر وجدانيًا وعقليًا تجاهها، من خلال التأمل والتفكير والسعي للبحث عن إجابات ناجعة لها أو إصدار الحكم إزاءها إن لزم الأمر. إن جون دون كرجل دين وقارئ جيد للاهوت، ملم بشروحات ومحتوى العهدين الجديد والقديم، قد كان من المفترض أن تشكل له الحتميات الحياتية ومنها « الموت « مساحة ضيقة من اهتماماته الحياتية واليومية، ومحيطه الاجتماعي الذي كان يتسم بالمحدودية والضيق نظرا لكون الرجل قد كان يقضي جل يومه في الدير بين العبادة والمطالعة والتأمل العميق للشأن الحياتي والإنساني على المجمل. وعليه فمن المنطقي أن تكون الرؤية الذاتية لدون حيال حدث الموت، هي إدراجه تحت مظلة السُنّة الكونية والأطر الطبيعية لذلك الحدث الحياتي. لكن يبدو ومن خلال مطالعة شعره الميافيزيقي وتحديدًا قصيدته الشعرية الخالدة؛ «خطاب معلن للموت «، بأن الرجل قد كان يعايش هاجسًا يتعلق بفراقه المستقبلي لمحيطه الآني المعاش. يؤكد ذلك ما روي عن إنه ذات مرة بعد أن أبلَ من مرض شديد، عمد لكتابة سطور مشهورة في مذكراته، ورد فيها: ( ... إن موت أي رجل يهد من عزيمتي ويحطم كياني ويشعرني بالضعف. وذلك عائد لكوني جزء من نسيج المجتمع ومتشابك في علاقتي به إلى حد بعيد. ولذا فما أن أستمع لصوت النواقيس حتى أركن لذاتي، ولا أعمد لإرسال فرد للاستفسار عمن تنعيه هذه النواقيس، لأني أعدها تنعاني أنا وليس أحد آخر). ومن هنا فصرخته المعلنة في وجه الموت كحدث يأتي في إطار السنة الكونية للخلق وللحياة، هو في الواقع عبارة عن ردة فعل انعكاسي، لإخفاء قلق داخلي يتسم بالاستمرارية والاطراد. وذلك من خلال إظهار عدم الشعور – الزائف - بالقلق من القادم بكل ما فيه من وجل ومغادرة أحبة وأهل وأصدقاء ومفارقة للاعتيادية المكانية التي حفلت بالعديد من الذكريات على الامتداد العمري المعاش. ولنطالع النص الشعري الأشهر في مسيرته الشعرية، الذي كان إيذانًا بولادة الشعر الميتافيزيقي، وهو عبارة عن نص شعري كتبه جون دون وفق القالب الشعري الإنجليزي الأشهر المسمى بالسونيت. أي أنه سونيت مقدسة Holy Sonnets ، تمثل خطاباً معلناً للأَجَلْ عنونه دون ب « أيها الموت لا تفخر بذاتك Death, be not proud «، وهي أيضًا تلك قصيدة التي قال الناقد الإنجليزي الشهير دكتور جنسون متحدثا عنها وواصفًا قائلها بأنه قد: ( ... تحدى الموت. وهو يصفر في الظلام). أيها الموت لا تفخر بذاتك وإن سمَّاك البعض منا بالجبار، ووصفوك بأنك المُهْلِك فحريٌّ بك ألا تغتر أو حتى تتكبر، فأنت مهما تعاليت لن ت عدو قدرك *** فحتى من ظننت مهلكم حقيقة – هم - لم يموتوا وهأنذا -هاهنا- قائمًا أتحداك بأنك لن تستطيع قتلي، فهل رأيت كم أنت ضعيف؟! *** صورك الصغرى من نوم و راحة هي أنماط لذة دنيوية لنا نحن بني الإنسان، فهل لديك جديد؟! *** أعي يا موت إنه عما قريب برفقك سيرحل الأخيار منا، سيريحون أجسادهم وسيسلمون أرواحهم فالأمر ليس بجد كبير. *** أنت .. أنت.. أعي من أنت، عبدًا للصدفةِ ..عبدًا للقدرِ عبدًا للملوك والسادة والبائسون *** أعلم سكناك ومقامك، هو في الحرب .. وكذا في السم، وتتنزل علينا في المرض. *** أيها الموت.. هل تعلم؟ أن المخدر وحتى تمائم السحر تفعل بنا فعلك إن لم يكن أكثر، فتغادرنا مستغرقين في النومة الآنية، فعلام أرى منك هذا الغرور؟! *** إن هي إلا هجعة سرعان ما تنقضي لنصحو كي نعيش الأبدية وكيف لا ؟! وأنت حينئذ تكون قد مت أيها الموت. ** **