ذات يوم استشارني أحد الزملاء وهو يعمل رئيسًا لإحدى بلديات المحافظات عن أنجع الطرق لنشر ثقافة أنسنة المدينة التي يتولى إدارتها، وكان يرغب في أن يكون ذلك من خلال فكرة إبداعية وفريدة وغير مسبوقة، ونصحته حينها بأن يُحضر قطيعًا من «الفيلة»، وينشرها في الفراغات العمرانية العامة بمختلف أرجاء المدينة، ويترك الناس يراقبونها، ويتفاعلون معها، مع مصدر للمياه بهدف الترفيه؛ لكونها أكثر الحيوانات التي تتمتع بعادات وسلوكيات وأخلاقيات رفيعة جداً، تمنحها القدرة على خلق ارتباط معنوي عميق لمحيط المكان الذي توجَد به، خاصة مع الأطفال واليافعين. كانت هذه النصيحة ناتجة من اهتمامي ومعرفتي بالفيلة ومتابعتها منذ زمن، ولإيماني بأن نشرها داخل المدن ما هو إلا استعادة لطبيعة التجمعات العمرانية والمستوطنات البشرية التي نشأت على فلسفة الحياة المشتركة مع عناصرها، ومنها الحيوان. ولأن ذلك سوف يساهم في تعزيز بُعدها الإنساني بطريقة غير مباشرة، بالرغم من أن هذا الزميل رأى أنها نوع من السخرية، وتجاهلها، وعاد إلى أدواته القديمة، وبدأ ينشر الانترلوك والأرصفة الأسمنتية والنوافير والأشجار والألعاب في كل مكان بحثاً عن «الأنسنة المفقودة» التي لم يستطع الوصول إليها حتى الآن، ولن يصل. تاريخ الفيلة حافلٌ بالعلاقة مع الإنسان؛ فهي على مر العصور كانت - وما زالت - تشارك الحياة اليومية مع الناس. الباحثان «آنا سميت» و»ريتشارد بيرن» من جامعة سانت أندروز البريطانية أثبتا في دراستهما أن «الفيل قادر على فهم إيماءات الإنسان وحركاته، وهو حيوان قادر على بناء علاقة تواصلية مع البشر، ويتميز عن بقية تلك الحيوانات بأنه يفهم إرشادات الإنسان الإيمائية فهمًا فطريًّا؛ وربما يعود ذلك إلى أن نظام تفكير الفيلة شبيه بالطريقة التي ينهجها البشر في التفكير». قطيع من صغار الفيل سيكون الأنسب لاقتنائه من قِبل بلديات المدن؛ إذ إن تكلفة الفيل الواحد لن تتجاوز 120 ألف دولار، أي إن عشرة فيلة صغيرة يمكنها منح الحياة داخل الحدائق والفضاءات العمرانية المفتوحة بشكل استثنائي وجاذب، وستكون تكلفتها أقل بكثير من مساحة خرسانية ميتة وغير نابضة بالحياة، لا تتجاوز 10 آلاف متر (تحت مسمى حديقة)، ولا يرتادها أحد، مقارنة بالأثر الإنساني التي ستمنحه تلك الفيلة للمدينة. أنسنة المدن مفهوم عميق جداً، وهو نتاج منظومة متكاملة من تفاعلات وظائف المكان، وليست مجرد صناعة مكان من أجل تحقيق قدرة المدينة على الإيفاء باحتياجات سكانها معنوياً وحركياً. الأمر أبعد من ذلك بكثير؛ فالحاجة تقتضي من مُسيّري المدن التفكير «بلاحدود» للوصول إلى مدن مؤنسنة.