«سهيل» و «أبو سهيل» نجمان أولهما يطوف في السماء البعيدة يستمد من وهج الشمس ضوءه.. وثانيهما يطوف في الأرض يستمد من وهج شعوره شعره ونثره.. كلاهما يحلق.. وانما بصور متفاوتة.. ولأن سهيل النجم ما زال غامضاً لم تكتشف خبايا أسراره بعد.. فإن أبا سهيل يحلق في مدار الكلمة بجناحين هما صدقه.. وانتماؤه.. ولا يمكن لطائر، ولا شاعر، ولا ناثر أن يسمو على أرضية الواقع دون ترفع مالم تكن رسالته رسالة صدق.. وما لم يكن خطابه خطاب انتماء.. «أبو سهيل» الصديق، والزميل، والأستاذ أبحر بنا.. ولنقل حلق بنا معه في فضاءات رحبة عبر ديوانه «خفقات قلب» والقلب حينما يخفق فإنما يحب.. والحب دائرته واسعة، حب الروح، حب الجسد، حب الوطن، حب الإنسان، حب الحرية، حب الجمال.. وأحياناً حب الذات وهو أكثرها سوءاً لنرجسيته وأنانيته.. بدايته أتت مع «الحياة الجوفاء، أو كاذبات الأماني» لعله كان يعاني كما يعاني غيره من بعض صور شوهاء تصبغ الحياة بسوادها.. ومدادها القاتم: «سعيت عمري حثيثاً أريد جاها، ومالا» ليس المال وحده.. بل تجاوز طموحه المال إلى الأعمال، والآمال، إلى العز والفخر والرفعة والكمال.. طموح يدخل في دائرة المحال لأن الكمال لله وحده.. ولن نصدق مقولة ذلك الشاعر الذي وضع الكمال بضاعة متاحة بين يديه حين قال: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على الكمال.. يتساءل أبو سهيل مع نفسه: «فهل بلغت مرادي أم كان سعيي ضلالا؟» ويبدو أنه استشعر الحقيقة الغائبة.. أدرك حجم الطاقة والسعي والعمل للوصول الى المتاح منها: ادرك مكانه ومدى مقدرته.. الكلمات وحدها لا تصنع الأمنيات: بهذا الوعي.. وتلك الصراحة رجع إلى نفسه قافلاً يبحث عن بداياتها: «قد ترى في اهابي المغضر شيخاً كان فيما مضى بشرخ الشباب طاف في نفسه خيال الثعالي وهو لم يَعْدُ حفنة من تراب..» حسناً هذا الادراك.. ماذا بعد؟ وهو يستعرض شريط حياته وذكرياته: «رُب يوم رأيت فيه فقاقيع تصورتها بشكل القباب» ألسنا يا صديقي جزءاً من عالم يضخم الأشياء، ويجعل من الحبة قبة؟ بلى.. انه بالنهاية بعد أن أُجهدت خطاه سعياً يصل إلى نهاية: «وتلمست ما حصلت عليه فإذا بي أسعى بأرض يباب خدع كلها، وألوان اغراء تُضل الحصيف وجه الصواب» الحصيف تحميه حصافته من أن يضل إلا إذا كانت غير محصنة وضعيفة.. إلى أين سيأخذنا شاعرنا في تحليقه؟! «المظهر والمخبر» من خلال رؤيته لذاته.. هل انه مائل باسم أم ماذا؟ ان حيرته تشده إليه بين غبطة منظورة وعظة مستورة.. بين الاحتياج وخطورة ما تفضي إليه، ومن تساؤلاته يسرع خطواته نحو «الدوحة الفينانة» ذات الأغصان.. والوجدان، والأشجان، وما يطمح إليه الإنسان: «هاتيك باريس فيها كل ما طلبت نفس من العلم والآثار والصور» باريس أمرها ليس غريباً.. الغريب هذه المرة ذلك الذي يئن ويتوجع بعد أن ذاب من فرط شوقه وجدانه لأنه يعتمر الغربة وطناً وسكناً: «وتذكرت في البعاد بلادي وتذكرت في النوى اخواني وتصورت بلدتي وضحاها وهواها وطيب تلك المغاني» انه الحب الذي يتجاوز المفاضلة بين شيئين لا وجه لشبه المفاضلة بينهما مهما كانت درجة الاشتياق لاهبة وجارفة.. انه حب الانتماء أكثر من حب النماء.. لنستمع إليه: «يا بلادي سئمت من كل شيء غير ذكراك انها في لساني».. وكأنما كان في أعماقه يردد مقولة الشاعر: لا يعرف الشوق الا من يكابده ولا الصبابة الا من يعانيها لقد وقف بين شيئين قد يقبلان المفاضلة وقد لا يقبلان اختار في الأول فماذا عن الثاني في مقطوعته «بين صورتين»؟! لقد نظر إلى مرآته ذات يوم.. إلى صورة وجهه المدنف الذي وخطه الشيب ورسم خطوطه البيضاء الناصعة.. مشهد انكسرت عيناه لشكل وانكرته.. ولكن هل يجدي الانكار.. الحقيقة الحتمية أمر لابد من الاعتراف به.. إلا أن انكاره لشيخوخته ان هو إلا استذكار لفجر عمره الذي طوته السنون وهي تجري: «وليس هذا كبرا.. وانما اراه فجر الأمل الكاذب» حسناً لو كان «الغارب» ربما أعطى اجابة أكثر.. ولأن الحياة مسرح كبير شاعرنا الجهيمان احد اللاعبين على خشبته مثلي ومثلك لابد له من دور يعبر عنه: «على جنبات هذي الأرض نمشي زماناً، ثم ندفن في ثراها ويأتي بعدنا قوم وقوم يعيشون الحياة كما نراها» ليس بالضرورة أن تكون رؤيتهم لها مشابهة لرؤيتنا.. قد نشترك سوياً في السراء والضراء إلا أننا نختلف في معايير الرؤية.. وفي صدق الصورة والقدرة على البوح بها.. ولا تنجو الفتاة اللعوب من رصد عدسته: «ماست بقد كله فتنة واقبلت في حسنها الفالق قد سترت من جسمها نصفه ونصفه تبديه للوامق وازينت بالحلي في جيدها واطيبت بالعنبر العابق» لابد أنها غاوية تهوى الاغراء.. وصيد الضحايا.. الذين استرعت انظارهم بسحرها.. وهم يتظاهرون بعدم مبالاتهم: «الناس في الجهر يعادونها عداء شخص خادع مادق وهم لدى السر يوالونها ولاء ذلك المدنف الغارق» وإذا كان الفقر ليس عيباً رغم انه مصيبة فان له كبوات في نظر شاعرنا الجهيمان أهمها وأخطرها، دواعي السرقة ودوافع التسول.. «سكرة وفكرة» واحدة من محطاته التي لا نقدر التوقف عندها لأنها خارج حسابات القاطرة المسرعة.. ومثلها «وصف الصورة» التي وصفها في مقطوعته السابقة «بين صورتين».. وبعد «الصورة» يأتي دور النخلة التي تغنى بها فأجاد: «يا نخلة قد سمت للأفق هامتها وارسلت في الهواء الطلق عسبانا تلين من نسمات الريح قامتها والخوص يلقي اغاريدا والحانا» انه يتغنى بها كمعشوقة هيفاء، يداعب النسيم خصلات شعرها المسترسل خلف جيدها.. بقيت لي ملاحظة أهمس بها في اذن صديقي هي أن الريح لا تعرف النسمات وانما الهبوب الصاعق الذي يتساقط معه الثمر.. وتهتز على اجتياحه غصون الشجر..النسمات شيء آخر خارج دائرة الريح.. وإذا كان السقام للجسد اشبه بالريح للنخيل لأنه يوجع.. فإن الشفاء نسيم يداعب الروح وينشطها: «شفاء ليس يعقبه سقام وابلال به فرح الانام خفيتم عن نواظرنا فصرنا كأن على نواظرنا ظلام» هكذا جاءت فرحته بالبرء.. لمن يستحق التهنئة والمعافاة.. هذه المرة لم يكن صوته صوت مفاضلة.. ولا مجاملة.. وانما مغازلة اداتها فنجان قهوة: «ألا فاسقنيها قهوة عربية بكف صبيح الوجه مستملح الشكل يفوح اريج الهيل من جنباتها وتبهج رياها ذوي الفكر والعقل» لماذا كل هذا الغزل في القهوة.. ترى لو أن فنجانها مد بأيد خشنة.. وملامح قميئة هل كان سيتغزل بها..؟! لا أظن.! انه يستعيد في غزله المثل القائل «اياكِ اعني واسمعي يا جاره» ومع آمال نفسه مرة ثانية يسرح إلى البعيد: «نفسي تنازعني ما لست أرضاه وتبتغي من مناط العز أغلاه تريد جاها عريضا يُستظل به ومركزاً شامخاً في الخلق مبناه» لستَ وحدك يا صديقي الذي تنازعه طموحاته..وتدغدغه امانيه انها طبيعة البشر وسنة الحياة.. والعاقل من يستفيد من تجارب غيره وعظاته.. ألستَ أنت الواعظ؟! «كن قوياً فإن أي ضعيف عرضة للخطوب والارزاء وتفكر في حادثات الليالي فهي حبلى بنعمة وشقاء» مقطوعته «نحن أولى منك» جاءت معبرة في سياقها وجمالياتها: «أيها الورقاء ما هذا الأنين؟ حدثيني انني جد قمين لكِ صوت هو للصب عنى وهو للخالي سرور ومجون» ولما لم تجبه سارع بالحاح يناشدها الاجابة: «حدثيني واصدقيني انني جد مشتاق إلى ما تخبرين فأجابت: ليس هذا عن هوى بل هو الحزن على القلب الحزين انما ابكي على فرخ ذوى من قديم الدهر بالظلم المبين» اتجاوز الكثير من المقطوعات ربما لتشابه افكارها.. وربما لخصوصيتها.. وربما لظروف مساحة التحليق مع أبي سهيل في أجوائه الشعورية المتقلبة.. والمتفاوتة قوة وضعفاً.. وبالذات ما كان منها يمثل مرحلة زمنية وقتية قد لا تضيف للقارئ مادة شعرية جديدة قابلة للبقاء. استاذنا الجهيمان تعتمر في دواخله الامنيات وتسكنه رغم انها في جلاد دائم معه، مرة ينتصر عليها.. وتارة تنتصر عليه.. إلا أنه لا ييأس.. «ألا ليتني في ناضر الروض بلبل ارفرف في افيائه وأغرد أروح واغدو في هناء وغبطة وفي عذبات الدوح آوي وانشد» ليس هذا فحسب.. ان حبوب الأماني فرطت من حبلها وتناثرت.. وتكاثرت عليه الظباء فما يدري ما يصيد.. وكر بين احبته وأهله يداعب هذا وينتقد هذا! نسيم عليل يسري عن النفس ويبعث الأنس. ازهار تعبق بريحها مختلفة الألوان، جميعها بعض من أمانيه التي لا تتوقف..! في هذا الجو المخملي الرومانسي من الأماني لابد له من غادة يتغنى بسحرها وجمالها: «يا غادة تتهادى في غلالتها كأنها في جمال الخلق حوراء، قد أكملت في سجاياها وخلقتها وشكلها فلها في العين لألاء جاذبتها طرف الانباء مختبراً لما تقول. ولي في القول اصغاء وجدتها بجميل القول ناطقة فصيحة زانها صوغ وانشاء» لم تكن تلك الغادة التي عشقها وتغنى بسحر جمالها امرأة.. كانت مدينة المدن حيث يوجد مسجد الرسول وقبره.. انها طيبة الطيبة.. لا أدري هل كان فراقه لها أو لغيرها هو الذي رسم لنا صورة فراق تتحرك طيوفها وتنصهر: «لا رعاكَ الله يا يوم الفراق أي كأس فيك مرهوب المذاق كم اذقتَ الصب سما ناقعا واسلت الدمع في تيك المآق رُب مسرور بغابات المنى في نعيم بين أكناف الرفاق قد كواه البين كيا لاذعا وتولاه بما ليس يطاق» وعن تجربته الحياتية مع الذين جمعت بينهم وشائج صداقة بعضها متجذر.. والآخر متحدر كانت قصيدة «ورب صديق» الذي اختتم بها ديوانه.. واختتم بها مسيرة رحلتي السهيلية السهلة معه: «وصديق اصطفيته كل ودي ناصعاً من تعاوني، ولجيني أنا اسعى لكي يعيش سعيدا وهو يسعى لذلتي ولحيني» ويمتد خيط عتبه وشكواه الى درجة المصارحة وجهاً لوجه: «قلت يوماً لصاحبي ويك دعنا لنعيش الحياة عيشاً رخيا وليكن ودنا تعاون خير لا نرى فيه مُنهكا وقويا واذا ما تكالبت قوة الدس وقفنا لمن يدس سويا غير أني رأيت أن صديقي ليس يبدو في رده أخويا» يا أبا سهيل.. الكبار تتسع قلوبهم للعذل بقدر ما تتسع للعتب: إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب لتكن نهاية مطافنا معك نهاية حب لمن جافاك.. وبداية صداقة لا تقبل الاساءة لمن صافاك.. أما أنا.. فإنني سعيد سعيد.. لقد عرفتك مخلصاً.. وقرأتك من خلال أمثالك. وأساطيرك، وقصص أطفالك.. وتجربتك الصحفية والأدبية الثرة.. إلا أنني بهذه الرحلة اكتشفت الجهيمان الشاعر.. الذي حلق في الكثير.. وأخفق في القليل ككل الشعراء حين ينفعلون تارة، ويفتعلون أخرى.. لك مني كل حب.. وحياة هادئة هانئة.. تعطي لك المزيد من العطاء.. السطوة في عالم متغير كتاب جديد ل «د. ليلى زعزوع» علاقة الولاياتالمتحدة مع العرب أصبحت مثاراً للاضطراب، والتذبذب، وكل ما يكشف طبيعة هذه العلاقة التاريخية، والمتينة من جهة، وما تتعرض له في مواضيع مقالاتها، قدمته د. ليلى صالح زعزوع ضمن كتاب جديد لها. وقد ضم الكتاب مختارات مواضيع مقالاتها التي نشرتها الصحف، وتقول د. ليلى إنها طرحت كتابها للتداول والطرح بغرض إثارة الرأي الاجتماعي حولها، لأن القارئ سيكون بحاجة ملحة للتعرف على حقيقة هذه العلاقة، وطبيعة الخلافات حولها، والمصالح المشتركة، وكيفية الحفاظ عليها لحفظ مصالح القضايا العربية والإسلامية، ودون التفريط في سيادة الأرض والقرار، واستقلالية السياسة الخارجية، في معادلة موزونة ودقيقة تراعي المصالح ولا تفرط في القرار.