* محمود الحليبي * 140 صفحة من القطع المتوسط الوَرد رمز أمل غصنه مدبب بالأشواك.. الوِرد رمز حياة كي نصعب من مائه لابد من ان نجهد الجياد.. الحرية رمز كرامة للحصول عليها لابد من جهاد واستشهاد.. لا شيء بدون شيء.. استسهال الأمور يؤدي الى فشلها والوصول اليها.. والحصول عليها.. لا تحسب المجد تمراً انت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا دون معاناة لا حياة.. ودون كدح لا حصيلة.. ودون عرق لا محصلة.. وشاعرنا الشاب الحليبي أدرك من خلال عنوان ديوانه الحقيقة.. ليطرحها شعراً.. لا يخلو من أشواك..وأيضا لا يخلو من أشواق حياتية تحتضن الأمل.. هكذا أتصور.. جادة هذا الشوك.. وهذا الشوق بدأت مع سيرته عبر رسالة اليها تحمل من العتب بقدر ما تحمل من الحب. إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ ويبقى الود ما بقي العتابُ أيهما ينتصر على الآخر في معركة شعرية شاعرية تقودها الكلمة.. ويحرك دولابها نبض القلب..؟ «حزني بنفسي وسلوي فيك سيدتي وأنت بابي الى أنسي. ونافذتي وأنت ان نكس التهمام لي علماً - من السعادة - راياتي وألويتي». ماذا ابقيت يا شاعرنا لنفسك.. طرحت كل أوراقك.. لم تبق شيئاً تفاوض عليه في معركة الحب.. المعشوقة يا صديقي تكره الاستسلام وان كان الغزل يداعب عواطفها.. ماذا كانت النتيجة بعد كل هذا الاغراق في التوسل والتسول العاطفي.. لا شيء.. لقد ظلت صامتة.. والصمت أحياناً ليس بحكمة.. ولا نعمة في قاموس الجنس الناعم.. لقد انتهى به المطاف دون قطاف.. «فلا تجزي حبال الود راحلة ولا تضني اذا جاوزت في صلتي لو كان لي في الكلام العذب صاحبة لكنت بعد كلام الله صاحبتي» الكلام لا يكفي.. هناك ما هو أهم.. الفلوس. وسيارات الشبح. والدارات الأنيقة، والخدم والحشم. والرحلات انها مفاتيح حب عالم اليوم.. من لا يقدر عليها يكتفي بشعره.. وبأشواك أشواقه.. «أحلى حكاية» قصيدته الثانية لها طعم ومذاق مختلفان لأن الحب فيها لا يشترى ولا يباع.. انه حب الغصن لأصله.. حب النماء للمطر.. حب الضوء للفجر.. حب الأبن لأبيه.. «أبي حنانيك تهتز اليراعة في يدي من العجز عن إحكام لوحاتي مساحة المدح في عيني واسعة ما عدت أعرف بدءاً للبدايات» وهكذا وبهذا العجز العقلاني اغلق الأبواب.. كل الكلمات في فمه لا تفي بما في دواخله.. أبيات أربعة اخالها قصيدة تحتاج الى اضافة وزيادة الخير خير.. نحن المنتسبين لمدرسة الشعر بما فيهم كاتب هذه السطور نكرر أنفسنا كثيرا.. المضامين تكاد تكون واحدة. أما العناوين فمختلفة.. هل ان شاعرنا الحليبي شذ عن هذه القاعدة وهو ان تم شذوذ يحمد له ويحسد عليه.. لنر ماذا أضاف من صور ابداعية في قصيدته «أشواك على طريق الأمل» التي تحمل عنوان ديوانه.. لنر: «قالت بنَّي زرعت الشوك في كبدي وهرولت دمعة من جفنها السهد» البداية مشبعة بالأمل.. إلا ان شطرها الأول في حاجة في قولها الى قوسين يفصلهما عما بعده.. «احسست ان دمي قد ضل أوردتي وان قلبي طير فر من جسدي.. دارت بي الأرض. واسترخت مخيلتي وسافر الصبر عني وانتهى جلدي» عن ماذا كان يبحث.. لابد ان شيئاً في دواخله يعتمل.. ويبحث عن مخرج.. «ورحت ابحث عن شيء اطارده علِّي بذلك أنسى صفعة الكمد» ويسترسل شاعرنا في بوح طرحه اللذيذ.. لقد تراجع عن اعذاره.. وعن اعتذاره: «وقلت: عفوكِ عني أنتِ يا خلدي» وهل يقدر واحد منا على ألا يتراجع أمام طاعة أمه.. مَن كالأمل حبيبة.. ومعشوقة.. وسيدة موقف؟! «أمي الحبيبة يا نبعا جرى عبقا يروي بكل معاني الحب روض غدي» ليس روض الغد وحده.. وليس روض اليوم وحده.. وليس روض الأمس وحده.. انه روض كل الفصول.. حسنا قلت.. واجدت فبررت بمن تستحق البر.. «عزام» احدى محطاته و«لو كنت ادري» محطة أخرى لا تتسع مساحة الرحلة الزمنية للتوقف أمامها.. فالمحطات كثيرة والسرعة أكثر.. في مشهد دراماتيكي يذكرنا بالأجل الذي عاجل حلمه على غير انتظار.. كيف قُتِل؟!. «قالوا: طماحك أصبحت في وقتنا شيئا على درب الحياة بلا بريق قالوا: حبيبك خان وعدك فاستمع للنصح. إن سواه بالسلوى خليق» وراح يسرد لنا تقولات غيره له.. ويبدو انه استجاب دون تفكير وتمحيص لما قالوا.. آه من كلمة قالوا: «إني وحلمي توءمان فإن يمت سأموت غما بالزفير بلا شهيق» ماذا يضيرك يا صاحبي لو مت بهما معا.. الطعنة القاتلة لا يضيرها طعنات مماثلة.. أليس في الأمثال الدارجة «الشاة لا يضيرها سلخها بعد موتها»..وآنت لست شاة.. وإنما شهيد حب ظلمه الآخرون وقالوا عنه ما قالوا.. إن أضعف الحب الذي تكفي هبة من الريح لاقتلاعه.. وليت انك قبل ان تئد حبك استجمعت شجاعتك ويقينك قبل ان تحكم عليه بالاعدام.. غيرك لا يهمك أمرك في معظم الأحايين.. هل استعاض عن حبه القتيل بعصفورين يزقزقان ويتراقصان في شرفة غرفته؟! «غردا.. يفتح الصباح كتاباً صافح النور حبره فاستجابا غنّيا يرقص النسيم طروبا يتهادى تدللا وانسيابا» لمن اطلق عليه حب الحرمان قبل ان نكتشف معا نهايته.. لعله انتزع من عصفوريه براءة مفقودة هو في أمس الحاجة اليها: «أسمعاني صوت البراءة محضا لا نفاقا مهذبا. لا ارتيابا» ومفردة «محض» ثقيلة السماع.. الأنسب منها «صدقا» ولأنه يتعشق البراءة طالب عصفوريه ان يعزفا له لحن السعادة وان الحياة رياض. وغناء. بل وطالبهما بالمستحيل اعادة مشيبه الى شبابه. وجاء الرد من واقع تجربة الطيور.. عمر الانسان بحر كبير يملؤه السكوت والصخب.. الراحة والتعب.. والكبرياء والآباء.. هكذا قالوا له: «إنما تعتلي الطيور بأرض حين تغدو ثعالبا وذئاباً» نصيحة لا تجدي ولا تنفع ولا تشفع لأنك يا شاعرنا لا تملك أجنحة كالطير تحلق بها.. قد تحلق بأفكارك ولكن في قبضة أقدارك.. «رمادية الاردان» تكتسي لونا لا يشجعنا على التوقف.. الوضوح في اللون وحده هو الذي يكشف ما بداخله.. والظمأ في فم شاعرنا أمام سحر الوجود قد يزيدنا عطشاً ونحن نحتاج الى الماء في رحلة السفر.. الشموخ في بحر الغربة أكثر جاذبية وانجذابا للتوقف «على بحر غربتيَ، الأغبر أجدّف بالساعد الأسمر أمامي المنى ساحقات الرؤى وخلفيَ عزم غدي يشتهي» الى أين قاده عزمه؟ وهل حقاً انتصر في شموخه في بحر غربته رغم الأثباج والأمواج؟! لا أظن فمن كانت ليلته شمعته فلن يستشرف معالم دربه: «أسافر والليل لي شمعة أراها تشاركني رحلتي» إلا ان شاعرنا يستدرك الأمر.. يستعيض عن ليله بنهاره.. عن دجنته بضوء صبحه.. وحسنا اختار: «وارحل والشمس لي عزمة تغذ خطاي الى القمة» القصيدة كما أراها وقد أكون على خطأ تقريرية مباشرة تتحكم فيها المفردة والسرد اللفظي أكثر من جماليات الرسم الشعري الذي تعودنا عليه.. وعودنا عليه في محطات شعرية توقفنا عندها فزودتنا بأطايب الطعام الشعوري. و«أراك تشتعلين» لمحنا لهيب نارها عن بُعد.. ولأن الاحتراق يخيفنا وتجفل أمامه مطايا سفرنا ادلجنا سريعاً الى محطة جديدة لا اشتعال بين جدرانها.. ولا «حديث للعبرات».. ولأن صوت الحدث يشدنا لا فرحا به وإنما خشية من تداعياته.. ترجلنا هذه المرة عند «مسرح الأحداث» «جاءت تهرول في اقدامها العجل واقبلت تشتكي من روعها الوجل تقول: ويحيَ هذا سيدي شَجِن وركب دمع على خديه يرتحل لهفي.. ولهفيَ ما يبكيك يقتلني إني أراك.. وهذا الهم ينهمل» كل هذا المدخل الشعري استغرقته افهامنا.. لابد وان نلج الى صلب الحدث الذي أثار كل هذا الشجن.. واستثار تلك العواصف من العواطف.. أين هو؟ «ماذا دهاك. واشقاني وحيرني؟ أرح فؤادي. قل لي أيها الرجل» وهنا يتحدث الرجل.. ولكن في وجل بعد ان استجمع أنفاسه الحبيسة داخل صدره: «فقلت: أواه هذي أمتي مرضت الليل فيها سقيم. والضحى ظلل واحسرتاه على عهد خريطتنا به تزاحم فيها الناس. والدول جيحون، والصين كانت من مشارقنا وأرض اندلس حل.. ومرتحل» بكائية شعرية يسترجعها شاعرنا في مرارة.. وألم.. لا يجديان.. اللين المسكوب لا يمكن استرجاعه.. ما لنا والصين؟ والأندلس وجبال البرانس؟ الأحداث حول عقر دارنا أكبر وأكثر.. الماضي ذهب ولن يعود.. الحاضر ما يجب الحفاظ عليه من هيمنة الطامعين فيه.. تلك هي الحقيقة.. وهذا هو الواقع.. «القادمون» لا يحتاجون اكتشافاً.. نراهم رأي العين بخوذاتهم لن نحتاج الى تذكير بهم.. وإنما الى تسخير لقدراتنا الحية في مهاجمتهم.. حتى لا يخنق الكسوف وجه شمس مجدنا.. «ومزقني. وثار على جنيني عدو حقده بدمي شغوف يمثل بي. وطفلي. أين قومي؟ فؤاد عن محبتنا صدوف ويسخر بي. وبالإسلام ويحي ولا جند ترد.. ولا سيوف». نعم يا صديقي كل هذا نحسه ونلمسه في عصر العولمة والسيطرة المادية لسبب بسيط كشفت عنه في شطرك الأخير.. وأضيف اليه التشرذم. وعدم الاحساس بالمسؤولية.. وما يجري على أرض فلسطين أكبر شاهد على الهزيمة لأمتنا العربية والاسلامية مع الأسف. «نشيد رياح النصر».. أُتخمنا نشيداً.. ثم أين هو النصر كي نغني له.. لا أرى نصراً.. وإنما انكساراً.. لن أقف عند محطة نشيد يشيد بالانكفاء.. وحدها أنشودة الحجر التي سنرددها معك.. «من أصداء الحجر انتفضت صيحات الحق العلويهْ من غزة. من أرض الأقصى يتنفس فجر الحريهْ يتفجر بركان ضار من كف صبي ثوريهْ» قصيدة صاعقة كأطفال الحجارة الذين يدافعون عن وجودهم في وجه المحتل.. ويدفعون الثمن دماً زكياً وذكياً وحدهم.. بضع محطات لابد من ان نختصرها.. حتى لا تزحمنا وتسلمنا الى متاهة الاستقراء.. إلا ان صرخة مدوية في زنزانة الألم استوقفتني.. وآثارت لدي فضولا طفوليا كما لو كنت شيئا من عالم آخر لا توجد به زنازين.. ولا تضج في سمائه صرخات معذبين: «هزي كياني. وأغري القلب واتقدي وفجري الألم المشحون في كبدي وسافري في ربى جنبي وارتحلي» لقد عرّفنا عليها في مقدمة قصيدته.. امرأة ذات جاه وكرم اقعدها المرض.. وراحت تتألم وتذوي كما تذوي الأغصان أمام غضبة الخريف.. «كانت جميع خبايا الدار تعرفني إذ كنت من فرحي كالبلبل الشرد واليوم ألزم طول الوقت زاويتي بين الوسائد. والادواء والرصد». الأدواء يا صديقي نافرة.. الآلام أكثر دلالة.. والتصاقا بالحالة.. أليس كذلك؟! «تذكرة سفر» نحملها معنا دون شباك.. و«إخاء جريح» مررنا عليه وهل أكثر جرحاً مما يعانيه اشقاؤنا العرب والمسلمون في كل مكان.. لقد ذقنا مرارته عن قرب وبعد.. دون ان نمنح الإخاء أكثر من ارتخاء.. شاعرنا الحبيب الحليبي ما إن تقتله قصيدة حتى يهب واقفاً لتجهز عليه أخرى.. ان لشعره أكثر من روح مقاومة. قتله الحلم.. والآن يقتله الهجر.. وفي كلتا الحالتين لعله من ذلك القتل اللذيذ الذي لا يزهق روحاً. ولا يسيل دما وإنما دمعاً سرعان ما يخف ويجف.. وفي مقطوعته الختامية «يقتلني الهجر» أصطفي منها هذه الأبيات: «قتلت نفسا بهجر منك ما زالا ما كنت أحسب هجرا منك قتّالاً خبأت حسنك عن عينيَّ يا أملي وكان حسنك يمشي فيَّ مختالا خذي يديَّ الى كفّيكِ وانطلقي نحيل إدبارنا في الحب إقبالا» ألم أقل ان قتله من ذلك النوع اللذيذ الذي تحدث عنه أحد شعرائنا القدامى المبدعين؟: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا ابداً يا شاعرنا الحليبي أنت حي بنبض شعرك ودفق مشاعرك.. لك الحب والرجاء في عطاء أكثر شمولاً وشموخاً. (*) الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338