شاء الله – تعالى- أن يكون مقالي اليوم امتداداً لما حرّرتُه عن خرافاتٍ وأوهامٍ حول اللغةِ العربية؛ فقد قرأتُ في هذه الصحيفة المبدعة في العددِ ذي الرقم 17577 مقالاً بعنوان: (متى تتحررُ العربيةُ من أسْرِ النّحاة) للدكتور جاسر الحربش. وقد ذكر فيه معطياتٍ حول حال اللغة العربية، وأسباباً لتراجعها، وقدّم اقتراحاتٍ تحتاج إلى وقفةٍ للمناقشة الجادّة في رأيي المتواضع. بدأ الدكتورُ احتجاجَه بسؤالٍ قال فيه: (هل ينكر أحدٌ أن هذا الربطَ الفقهيّ النحويّ للغة بقيودِ الماضي يعد من أهمِّ عوامل تعطيل العربيةِ عن التجديد والتحديث لتكون قادرةً على استيعاب العلوم الحديثة؟). والسؤالُ الملحُّ عن تأخّر العربية في استيعاب التقنية مهمٌ وضروريٌ، ولكنه أبعد النجعة في الجواب. فمن شأن اللغةِ أن تعبّر عن كلّ العلومِ الشرعيةِ والأدبية والحديثةِ، ولا أرى العربيةَ مكبّلةً بالفقه بحالٍ من الأحوال!! وانتقادُه للربط النحوي أعجبُ وأغربُ؛ لأن كلّ لغةٍ في العالم لا تتحقق آليتها وتركيبها بدون ارتباطها بالنحو والصرف. وهل هناك لغة بلا نحوٍ وصرف؟، لا يوجد هذا على ظهر هذه البسيطة أصلاً. ولكنّ كل لغةٍ لها نحوٌ وصرفٌ مختلفٌ. ثم قال آسفاً: (أصبحت اللغة العربية اليوم عجوزاً هرمةً ينفرُ منها أبناؤها وبناتُها من الأجيال الشابّة..) وأوافقه في نفور الأبناءِ والبناتِ اليوم من اللغة العربية لسببٍ سأذكره، وأخالفُه في أنها عجوزٌ هرمةٌ، بل هي -والله- فتاةٌ جميلةٌ رائعةٌ يتجدّد شبابها كلّ يوم، وقد ذكرتَ في مقالك – دكتورنا العزيز – أنك جاوزت السّبعين من العمر، فلعلّ نظرَك قد ضعُف! فاقتربْ منها لترى جمالَها الآسر، وحمرةَ خدّيها المورّدين كالشفق، وسوادَ عينيها السّاحرتين، وجبينها الساطع كالفجر، وذوائبها التيي تحاكي سوادَ اللّيل صديقِ العشّاقِ، وحليفِ أصحاب الشجن... وتأملْ في روعةِ قرآنها السامي؛ فهو منها بمنزلة الوالدِ الراعي الحافظِ لها، وتذوّق لغتَه التي ترقّ لتصبحَ ألين من الحرير مسّاً، ثم تشتدُّ لتصبح أقسى من جلاميد الجبال ملمساً، وبين ذا وذاك تتدفق كالنهر الباردِ المروي للأكبادِ العطشى... اقتربْ ومتّع ناظريك. أما نفورُ أبنائنا منها فسببه سوءُ تعليِمنا لها، وضعفُ مناهجِنا وضعفُ تأهيل كثيرٍ من معلّمينا. ولتعلم أن الإنسان لا يجيدُ لغةً ما إلّا إذا أحبّها، بل عشقَها! فهل نشّأنهم على عشقها؟! ونقل المعلمون هذا العشق والذوق في تعليمهم؟ لم نفعل ذلك إلا قليلاً. وعدَّ الدكتور من أسبابِ تأخّر العربية وجودَ (الصعوبة البنيوية المتوارثة للغة العربية)، وذكر أنّه بعد أن تخطى السبعين - أمدّ الله في عمره– وما زال يعاني صعوباتِ اللغة، خاصة في الفاعل والمفعول، وحروف الجر... ويؤسفُني ذلك الحال! ولكنّك رجعتَ إلى ما ذكرتُه! وأجزمُ أن الدكتور درسَها دراسةً مدرسيّةً على النّحو العقيمِ الذي عليه أكثرُ مدارسِنا في تعليم العربية، فحقّت عليه هذه الجنايةُ العلميةُ، كما حقّت على كثيرٍ من الشبابِ من المحيطِ إلى الخليج.. هذا سبُبُ الصعوبة التي نجدها بلا مجاملةٍ ولا مداراةٍ! وصديقُك من صدَقك لا من صدّقك. وقال الأستاذُ ما معناه إن جميعَ المؤاتمرات التي تدعُو إلى الاهتمام باللغة، وتمدحُها وتثني عليها إنما هو بكائياتٌ حسرَى على اختفائِها من العلوم... وأجدُ أنا أن هذه البكائيات كما سماها ضروريةٌ لعلنا نستيقظُ من غفلتناِ، فننظرَ في أمرنا، وقد تحركت قوافلُ العلوم لنلحق بها، كما لحقنا من قبل. وقال: (القصورُ العلميّ والبحثيّ والإبداعيّ عند أهل العربية جزءٌ من أسبابِ الشيخوخةِ التي حلّت بلغتهم). ومع أن اللغة نفسها بريئةٌ من هذا القصور، من حيث هي لغةٌ، لكن الذي أحدثهُ هو قصورُ مؤسساتِ البحثِ العلميّ في عالمنا العربي، وضعف تمويلها، وتعقيدُ آلياتها، وسطوةُ بيروقراطياتها، وضعفُ استقطابها للعقول المبدعة من أرجاء هذا العالم العربي. ثم اقترح الدكتورُ لإبقاءِ اللغة العربيةِ على قيد الحياة أن يجتمع اللغويّون وعلماءُ العلوم التطبيقيّة لتشذيبِ وقصِّ الزوائدِ والترهلاتِ من لغتنا؛ وليخرجوا لنا بقواعدَ وتصريفاتٍ أسهل فهماً ونُطقاً، لتتحرر اللغة ثم ننقلها إلى التعليم. وفي هذا السياق حطّ مما سماه (جمع المثنى المذكر والمؤنث وجمع التكسير، والمذكر السالم، والمؤنث السالم، والمفعول به ومعه ومن أجله؛ لأنها لم تعد صالحةً لمواكبةِ العصرِ كمنافسٍ للغّةِ الإنجليزيّة). ومع أنني لا أعرف ما جمع المثنى؟ إلا أنّني أقول ما البديلُ عنها؟ وكيف نثني الكلمات؟ وكيف نعبّر عن المفعول به؟ وكيف نجمعُ الكلمات، أرجو ألا تفكّر في إضافة حرف (س) تأثراً بالإنجليزية!! حسناً لنتركها كما تقول! ما البديلُ ياصديقي! يذكّرني هذا القولُ – مع تنزيه أستاذنا الدكتور- بقولٍ قاله البابُ الشيرازيّ حين ادّعى المهدويةَ، ثم النبوّة، ثم الألوهيّة، وقدّم لأتباعِه كتاباً سماه (البيان) على أنّه بديل للقرآن الكريم، فقرَعه علماءُ الشّيعة في إيران حينها بالحجج والمناقشات الحامية. ومن جملةِ ما قالوه: إن كتابَك ملئٌ بالأخطاءِ اللّغوية؛ فكيف يكونُ منافساً للقرآن؟ فقال لهم ما معناه: إن الحروفَ والكلماتِ اشتكت إليه من ضوابطِ النّحو والصرفِ، فرأى بما حباه الله من النبوّة أن يُنعم عليها بالحريةِ من القواعدِ، ويتركَها تتجوّل كما تشاءُ. أي والله هكذا! أما اجتماع اللغويين والتقنيين الذي اقترحَه فصحيحٌ، ولكن لعلّ الدكتور لا يعلمُ أنّهم قد اجتمعُوا، واجتمعوا سبعين مرةً، واصطلحوا، وألّفوا وكتبُوا! وقدموا لنا أكثرَ من مئةِ معجمٍ لمصطلحات العلوم التطبيقية الحديثة حتى العلوم الرقمية، ولكن المشكلةَ هي أننّا لا نُصغي إليهم. المشكلةُ -ياصديقي- هي في الوزاراتِ الرسميّة المختصّة بالتعليمِ والثقافةِ والإعلامِ والجامعات وكفى! هذه الوزاراتُ والجامعاتُ لا تنقلُ ما تنتجُه المجامعُ اللغويةُ إلى المناهج الدراسيّة، ولا تتتبناه الإذاعاتُ والتلفزيونُ ولا تُلزم به الناس في التاليف والبرامج والمكاتبات الرسمية! هذه باختصار هي المشكلةُ وهذا هو الحلّ ، وهذا ما تصنعُه اليابان وألمانيا وإسرائيل لتدرس العلوم بلغاتها، وتطوّر لغاتها. وبدون هذا الحلّ تصبحُ أعمالُ مجامعِ اللغة ومؤتمراتُها صيحات استغاثةٍ في مقبرة كما يقول المثل الشعبي...والحديث ذو ذيولٍ. وحماكم الله من كورونا ومن غيره من البلاء، ولكم تحياتي الصادقة. ** ** - د. أحمد بن محمد الدبيان