يحتل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، مؤلف هذا الكتاب، مكانة اجتماعية رفيعة، ولعل من أهم ما أبلغه هذه المكانة ما قام به من مساهمة فعّالة في إدارة الحرس الوطني تحت رئاسة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي عهد المملكة العربية السعودية، النائب الاول لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني, على ان ما يهم، هنا هو أن الشيخ الجليل صاحب قلم سيَّال لو لم يكن من نتائج مداده إلا كتاب في أثر المتنبي لكفى, وهو بالاضافة إلى ذلك متفتح الذهن، صديق للكتَّاب، متعاطف معهم ومشجِّع لهم كلما حانت فرص لإظهار ذلك التعاطف وهذا التشجيع, وكان من تشجيعه لكاتب هذه السطور ان بعث إليه رسالة عند صدور كتاب معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد البلاد أثنى فيها عليه ثناء كان مما ورد فيه: لو كنت رجلا حسودا لحسدتك,, لو كنت رجلا يغيظه نجاح الرجال لمت حسرات على نجاحك في هذا الكتاب , وكان ذلك الثناء من مثله مكانة على من هو مثلي موقعاً أمراً أمدَّني بشجاعة كادت تصل إلى حد الاعجاب بالنفس، وهو أمر بعيد كل البعد عن أن أستحقه، وبخاصة أني ممن يرجو رحمة الله لمعرفته قدر نفسه, ولكنه اللطف المعهود من الشيخ عبدالعزيز سلَّمه الله وحفظه. وصدر كتاب الشيخ: لسراة الليل هتف الصباح,,, وهو كتاب يختلف نوعاً ما عما سبق ان صدر له من كتابات بحيث ابتعد قليلا عن ميدان الأدب، الذي تقصر باعي كثيراً عن الوصول إليه، وتخشى نفسي عبور طرقاته، ودخل في ميدان التاريخ الذي اقتصرت معرفتي المحدودة عليه، أو على الاصح على جزء محدود منه، على ان هذا الدخول لا يعني بعده عن حبه العذري الاول للاديب, فالمسحة الادبية الجميلة واضحة فيه، ابتداء من عنوانه الذي جاء أوله تعبيراً أدبياً يكاد يكون عنوان رواية، وإن جاء آخره تعبيراً علمياً يفهم منه أنه دراسة بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى أكاديمي, لكن كأني بشيخنا الجليل يردد: ما الحب إلا للحبيب الأول, وكان من لطف الشيخ وكرمه ان أهداني نسخة من كتابه الجديد, فكتبت إليه رسالة شكر قلت فيها، وصدى رسالته التي أثنى فيها عليَّ عند صدور كتابي معارك الملك عبدالعزيز مازال يتردد في ذهني: اعلم أني غير قادر على التعبير عن شكري الجزيل لمعاليكم على إهدائي نسخة من كتابكم الوثائقي عن جوانب مهمة من تاريخ الملك عبدالعزيز رحمه الله، غير ان مما يخفف من وطأة شعور التخوّف لديَّ معرفتي بأن لطفكم المعهود سيقيل عثرة تعبيري. أتى كتابكم القيم متحدثاً عن السراة، وكان سراكم، أنتم بالذات، محمودا, أولجتم السير عبر فيافي تاريخ هذا الوطن، تفكيراً وكتابة، فحمدتم ذلك الادلاج وأنتم ترون المشاعر، التي لبثت من عمرها سنين تراود مخيلتكم، ماثلة بيراعكم المتدفق عطاء أمام أبناء أمتكم وبناتها حروفاً تنبض بالحياة، وسطوراً تعبر عما في الوجدان، وآراء تؤيد بموثق البرهان, وحمد القرّاء عامة، والمهتمون بسيرة البطل المؤسس خاصة، إدلاجكم وهم يرون ثماره يانعة، وقطوفها دانية. لقد وفقتم في انتقاء ما انتقيتموه من وثائق تؤيد ما أردتم طرحه من آراء حول المسيرة الوطنية لهذه البلاد، ووفقتم في عرض تلك الآراء والتعبير منها, وما ذلك كله بعزيز على من وهبه الله قدرة مثل قدرتكم. ولعلّ مما يوضح حرص الشيخ عبدالعزيز على انتشار كتابه وهو كتاب جدير بالقراءة والانتشار أن عهد بنشره إلى دار الاستاذ رياض الريس، التي اشتهرت بنشاطها التوزيعي الجيد، واشتهر صاحبها بكتاباته السياسية التي منها ما هو واضح التحامل في نظري على المملكة العربية السعودية، ومما يوضّح، أيضا، حرصه على انتشار الكتاب أنه دعا الاستاذ محمد حسنين هيكل إلى ان يكتب مقدمة له, والاستاذ هيكل في نظري أيضا أعظم كاتب صحفي منذ خمسينيات القرن العشرين الميلادي، اطلاعاً، وقدرة تعبير، وحسن عرض، وعمق تحليل, وإن كان من غير المسلّم به أن تكون كل آرائه وأحكامه مقبولة صحيحة, ولقد عبّر الأستاذ هيكل في مقدمته القصيرة عن رأيه في الملك عبدالعزيز، رحمه الله تعبيراً واضحاً، وكان اختتامه للحديث عن ذلك البطل العظيم ما يأتي: لعلّي أقول: إن الملك عبدالعزيز آل سعود قضية متفق عليها ودور معترف به, فهو بكل المعايير شخصية تاريخية كبيرة ضمن مؤسسي الدول والنظم في هذا العالم العربي وفي ظروفه وأحواله . وعبّر عن رأيه في عمل الشيخ عبدالعزيز بقوله: على أني أشير إلى أن الشيخ عبدالعزيز التويجري لم يزعم لنفسه أنه يقدم بحثا في التاريخ, ولعلّه جمع بين منهج البحث وبين فن الأدب، فقدم رؤيته لإنسان ولمحارب ولرجل دولة، وقدّمها مدعمة بوثائق من التاريخ, ولكن الكتاب في حقيقته قصيدة حب من أول نظرة كما يقولون, فالمؤلف عاشق لبطله من لحظة ظهوره على مسرح الحوادث، ومشجع له في كل وقفة عند كل مشهد، ومتحمس له مع نزول الستار على كل فصل، وواقف معه حتى بعد نزول الستار, كأنه وقد انتهت أحداث القصة على المسرح أخذ البطل والأحداث وساحتها الكبيرة جميعا معه وجعلها حياته، وذلك في حد ذاته موقف انساني مؤثر ونبيل . وللمرء ان يستخلص من كلام الاستاذ هيكل المالك لناصية البيان ما يستخلص، لكن المهم هو أنه قدّم للكتاب، وتقديمه له بحد ذاته عامل من عوامل انتشاره خارج المملكة العربية السعودية على الأقل. ولو قُبل كلام الاستاذ هيكل بأن كتاب الشيخ عبدالعزيز عن الملك عبدالعزيز: قصيدة حب فإنني وأنا العاشق للقصيد في طليعة من تسرّهم هذه القصيدة، وبخاصة ان من تتحدث عنه وتشيد بمنجزاته مؤسس كياننا الحاضر، زاده الله ثباتاً وتقدّما، وأدام توفيق ولاته للقيام بمسؤولياتهم الجسام خير قيام. على أن الشيخ عبدالعزيز، مؤلف الكتاب، نفسه قد عبّر، إلى حد ما، عن رؤيته الخاصة لما قام به قائلا (ص9): يوم خطرت لي فكرة كتابة هذا الكتاب ترددت كثيرا وتساءلت: أمن الممكن ان يكتب من سيقال عنه: إنه غير محايد؟ لكنني وقد حاولت ان أشد بأخطمة الأحداث أو بشيء منها، وأنيخها في طريق المارين بها عبر الأجيال اعتمدت على الله، ثم على توثيق شيء من الأحداث في مسارها مع الملك عبدالعزيز وأخبار شعبه، رحمهم الله, وكان دوري في ذلك كدور حامل البريد . وبمثل هذه العبارة الأدبية الرائعة جاءت مقدمة الشيخ وتعليقاته، وهي عبارات تنسجم تماما مع اول عنوان كتابه، وإن لم تنسجم مع آخره الذي ينص على ان عمله دراسة وثائقية, لكن ما أروع السحر الحلال في كتابات الشيخ الأديب الجليل. يتكوّن الكتاب المتحدث عنه، هنا والذي طُبع كما ذكر سابقاً عام 1997م، من اثنتين وستين وثماني مائة صفحة، ويشتمل على كلمة موجهة من مؤلفه إلى القارئ الكريم ضمّنها تعريفاً موجزاً بنفسه، ثم مقدمة من ست صفحات للاستاذ هيكل، فمقدمة من ست صفحات، أيضا، للناشر، الاستاذ الريس، ثم مقدمة للمؤلف بعنوان ما قبل الكتاب مكوّنة من اربع عشرة صفحة, وبعد ذلك تبدأ فصول الكتاب، وعددها ثلاثة عشر فصلا، تتلوها كلمة ختام، فقائمة بالمراجع، ثم فهرس للأعلام والأماكن. وطباعة الكتاب جميلة جدا، صفا، وورقا، وإخراجا، وقلة اخطاء، ولاشك ان هذا عامل اضافي يدعم ما يشتمل عليه الكتاب من مادة غنية أُحسنت صياغتها، أسلوباً وعرضاً. لقد أبدع الشيخ عبدالعزيز القول في كتابته، وهذا الابداع ليس بغريب على من تملكت نفسه محبة الأدب، وهام قلمه بإشراقة الحرف، ولعل مما يميز منهجه في كتابة بعض ما كتبه انه أورد الوثائق وأكثرها إن لم تكن كلها لم يسبق نشرها ثم تلا إيرادها بتعليق جميل منه يعبر عن وجهة نظره في الاحداث التي ذكرت في الوثائق او الشخصيات المشار إليها فيها, على انه ضمّن الفصل الاول من الكتاب اقتباسات من كتب مختلفة، وجعل الفصل الأخير كله اعادة لنشر كلمات او قصائد كتبت ثناء على الملك عبدالعزيز، الذي هو أهل لذلك الثناء. وإذا كانت كلمة دراسة الواردة في عنوان الكتاب تفهم علميا بأنه فعلا دراسة أي ان كاتبه قد قارن بين المصادر المختلفة وحللها، ثم خرج بما يرى انه الاقرب للحقيقة التاريخية فإنها لا تنسجم مع اكثر ما عمل في الكتاب، بل ان المؤلف الكريم نفسه أشار (ص9) إلى صعوبة كونه قادراً على الحياد في كتابته، وأن دوره في عمله كدور حامل البريد, على ان ما قاله عن دوره متواضعاً ليس مما يسلم بصحته, ذلك ان دوره جاء دوراً واضح المعالم بالغ الاثر يختلف تمام الاختلاف عن مجرد دور حامل بريد, وان كتابه لمفيد جدا للباحثين، وبخاصة الوثائق الواردة فيه، والتي ستضيف الكثير الى المعرفة التاريخية إذا قورنت بالوثائق الأخرى والمصادر المتنوعة, ولو لم يكن من عمل الشيخ عبدالعزيز أمد الله في عمره إلا هذا لكان كافيا لإحلاله مكانة هو جدير بها لدى الباحثين في تاريخنا الوطني. وبداية من الحلقة القادمة إن شاء الله ستبدأ التعليقات على الكتاب، فصلاً فصلاً, وهي تعليقات لو قبلت لزادت هذا العمل الجيد في نظري جمالا وحسناً.