نعم الله على عباده لا تعدُّ ولا تحصى، وأنا واحد من هؤلاء العباد، الذين أنعم الله عليهم بما لم يحتسبوا، ومن هذه النعم التي لم أحتسبها ما حدث لي في ميدان التاريخ؛ دراسة وتدريساً وإنتاجاً علمياً، ولقد رأيت مناسبة منحي جائزة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز؛ رائداً من روَّاد كتابة تاريخ الوطن، فرصة سانحة كي أتحدث عن قصة واحدة من تلك النعم. والأمير سلمان - كما هو معروف لدى الكثيرين - حجة في تاريخ وطننا العزيز، وعاشق له، وأحد صناعه عملياً، وإنشاؤه الجائزة التي تحمل اسمه خطوة نبيلة مباركة لم يكن إلا الجدير والكفؤ للقيام بها. وقصتي مع التاريخ بدأت قبل خمسة وأربعين عاماً حينما كنت في السنة الأولى من كلية الآداب بجامعة الملك سعود، في تلك السنة كان أستاذنا في مادة الأدب الجاهلي الدكتور أحمد الحوفي- رحمه الله-. وكان في تدريسه يحاول الرد على نظرية طه حسين في ذلك الأدب، وكنت حينذاك معجباً بعميد الأدب العربي، وكثيراً ما كنت أجادل أستاذنا الحوفي وأحاوره في طرحه، وكانت حماسة الشباب قد دفعتني إلى كتابة مقالة في صحيفة اليمامة أنتقد فيها الطريقة التي يدرِّسنا فيها أساتذتنا الأجلاء، فكان في مقدمة الغاضبين عليَّ. المصرين على فصلي من الجامعة، الدكتور أحمد الحوفي- رحمه الله-. وفصلت منها، لكن الفصل اقتصر على ثلاثة أسابيع أُعدت بعدها، وتلك قصة يطول شرحها. ولأني كنت أتوق إلى الإعادة بعد التخرج، وبالتالي إلى الابتعاث بإكمال الدراسة العليا خشيت إن أنا التحقت بقسم اللغة العربية التي كانت حصيلتي العلمية فيها جيدة نتيجة دراستي في المعهد العلمي الديني، أن يُتخذ مني موقف يحرمني من الإعادة والابتعاث، ولم يكن أمامي من خيار إلا أن ألتحق بقسم التاريخ؛ مكرهاً لا بطلاً. وهكذا كانت إرادة الله {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. وبات عليَّ أن أتكيَّف مع الوضع الذي أصبحت فيه، والصبر على عزم الأمور. على أن طائفاً من نسيم عطر سرعان ما هبَّ، فأنعش ذلك التكيَّف. ذلك أن أستاذي الجليل، الدكتور عبدالعزيز الخويطر الذي كان أول سعودي ينال درجة الدكتوراه، والرائد في تدريس تاريخ المملكة، والكتابة الأكاديمية عن بعض مصادره، أصبح يدرسنا هذا التاريخ الوطني، وكانت طريقته العلمية المنهجية الرائعة هي ذلك الطائف المنعش، وبذلك وجدت نفسي أكثر قبولاً لدراسة التاريخ، فله فضل الريادة، وله عليِّ بالذات فضل إدخال ذلك الإقبال على نفسي. هكذا كانت قصة التحاقي بقسم التاريخ في جامعة الملك سعود باختصار، وتكيفي مع الدراسة فيه تحملاً، ثم تقبُّلا، وماذا عن تخصصي في تاريخ وطننا العزيز: المملكة العربية السعودية؟ كان قرار ابتعاثي للدراسة العليا في بريطانيا قد نُصَّ فيه على ألاَّ يكون موضوع دراستي هو التاريخ السعودي، والسبب؟ كان زميلي الكريم وصديقي العزيز، الدكتور محمد الشعفي قد قطع شوطا في كتابة أطروحته للدكتوراة عن الدولة السعودية الأولى، ورأى المسؤولون في الجامعة حينذاك أن يكتفى به في ذلك المجال، على أني بعد أن التحقت بجامعة أدنبرا، عاصمة اسكتلندا، واجتزت السنة التمهيدية للدراسة العليا فيها، نصحني المشرف عليَّ البروفيسور مونتجمري وات، أن يكون موضوع أطروحتي الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فاستحسنت نصيحته، واستعنت بالله، وهكذا بدأت أول خطوة في ميدان دراستي لتاريخ الوطن العزيز. ومضت السنتان التاليتان لحرب عام 1967م، وأنا أمشي الهوينى في البحث والدراسة، وذلك لانشغالي - كما انشغل كثيرون من أمثالي - بالدفاع عن قضية أمتنا الأولى قضية فلسطين التي كانت المجادلات حولها نشطة جداً خلال السنتين المذكورتين، ثم كان (لابد مما ليس منه بد)، فكثَّفت جهودي حتى قدمت الرسالة في شهر سبتمبر عام 1972م، وعنوانها: Muhammad ibn Abd al-Wahhab: The Man and His Works أي محمد بن عبدالوهاب: الرجل وأعماله، وهي أول دراسة أكاديمية تشتمل على إيضاح لأوضاع نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً ودينياً، وعلى تبيان مفصل عن حياته ودوره في الدولة السعودية الأولى التي ناصرت دعوته وانتصرت بها، وعرض تحليلي لكتبه ورسائله، وإيراد محايد دقيق لآرائه هو وأنصاره وآراء معارضيهم في مسائل التوحيد وما يتصل به، ثم كتبت أربع مقالات بحثية موسعة في مجلة الدارة عن أوضاع نجد قبل بداية دعوته. وفي عام 1399ه أصدرت بالعربية كتابي عن الشيخ محمد بعنوان: (الشيخ محمد بن عبدالوهاب: حياته وفكره. وأعيدت طباعته بعد ذلك، وهو معتمد بدرجة كبيرة على أطروحتي للدكتوراه. وتوالت كتاباتي عن التاريخ الوطني حتى بلغ عدد ما صدر لي حتى الآن سبعة عشر كتاباً؛ عشرة منها تأليفاً، وأربعة ترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وثلاثة دراسة وتحقيقا، ويضاف إلى ذلك تأليف أربعة مقررات دراسية في مراحل التعليم العام؛ ثلاثة منها تتناول تاريخ المملكة، وواحد عن السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، وإلى جانب هذا وذاك ألقيت بحوثاً ومحاضرات في مؤتمرات وجامعات داخل المملكة وخارجها باللغتين العربية، والإنجليزية ولم تنشر بعد، ومن الجامعات الخارجية التي ألقيت فيها تلك البحوث والمحاضرات أربع جامعات أمريكية بينها جامعة هارفرد، وثلاث إيطالية بينها بولونيا. وإذا كانت كتابتي عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب بالصفات التي ذكرتها فإني سأشير إلى ما له ريادة في كتاباتي أو له شهرة نابعة من الانتفاع به، فمما له ريادة كتابي عن نشأة إمارة آل رشيد الذي أصدرته مشكورة جامعة الملك سعود عام 1401ه. وهو أول دراسة علمية منفردة عن تلك الإمارة معتمدة على مصادر متعدِّدة بينها الوثائق وكتب الرحالة الأجانب والشعر غير الملتزم بقواعد اللغة العربية المسمَّى لدى البعض بالشعر النبطي، الذي كان من أبرز قائليه الأمير عبدالله بن رشيد وأخوه عبيد، وبعد صدور تلك الطبعة وجدت من تشجيع بعض من قرأوها ما أجلُّه وأقدِّره، وكان من مظاهر ذلك التشجيع إمدادي بما يملكونه من معلومات، كما أفدت كثيراً من الملحوظات القيمة التي أبداها لي طلبة الدراسات العليا وطالباتها، ومن الوثائق التي يسر لي الاطلاع عليها المسؤولون في دارة الملك عبدالعزيز ومركز الوثائق في أبوظبي، وكانت نتيجة ذلك كله أن أعدت كتابته بحيث ظهر في طبعته الثانية عام 1411ه في 277 صفحة بدلاً من 127 صفحة في طبعته الأولى. وفي العام نفسه الذي صدرت فيه الطبعة الثانية من كتاب نشأة إمارة آل رشيد صدر لي كتاب: العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت، وهو أول دراسة تحليلية موثقة في موضوعه، ويلقي ضوءاً على ما كان ملتبساً على البعض عن تاريخ نشأة الكويت، كما يوضِّح ما ورد في بعض الدراسات غير المستقصية من خلل. ومن بين الكتب التي صدرت لي كتاب تاريخ المملكة العربية السعودية الذي صدر الجزء الأول منه عام 1404ه، ثم تكررت طباعته بحيث كانت آخر طبعة له هذه السنة هي الثالثة عشرة. أما الجزء الثاني منه الذي لم أكتبه إلا بعد سنوات من كتابة الجزء الأول، فصدرت الطبعة السادسة منه عام 1425ه. وقد ترجم بجزأيه إلى الإيطالية جامعة باليرمو، وأصدرته قبل خمس سنوات، كما ترجم إلى الألمانية، وهو معدٌ للإصدار مترجماً إلى الانجليزية، ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أعبِّر عن شكري الجزيل لزملائي وزميلاتي في جامعات المملكة وكلياتها على نصح الطلاب والطالبات بأن يكون بين الكتب التي يُرجَع إليها، وإن هذه الثقة التي أوليتها لتاج أضعه على رأسي، وسعادة لا تحدّ؛ إذ أشعر أنه قد انتفع به الآلاف من أبناء الوطن وبناته. أما في مجال الترجمة فقد رأيت عدم الاكتفاء بترجمة النصوص من الإنجليزية إلى العربية، فقمت - إلى جانب ذلك - بكتابة مقدمة إيضاحية لكل عمل مترجم، والتعليق على ما رأيت أنه يحتاج إلى تعليق، وكان أول ترجمة هو ما كتبه الرحالة السويسري بوركهارت تحت عنوان: مواد لتاريخ الوهابيين، وقد صدرت ترجمتي له - وهي اول ترجمة له إلى العربية عام 1405ه، وكان آخر طبعة له عام 1425ه، وكان ذلك الرحالة في الحجاز عندما كان محمد علي باشا والي مصر هناك محارباً للدولة السعودية الأولى، وما كتبه عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصاره من آل سعود وأتباعهم يتَّسم بالحياد إلى درجة كبيرة، كما يتَّسم بالجودة والاشتمال على كثير من المعلومات المفيدة التي لم توردها المصادر الأخرى؛ مؤيِّدة أو معارضة. ومما ترجمته ما كتبه جون (عبدالله) فيلبي بعنوان بعثة إلى نجد، وهو أول كتابة يكتبها عن الجزيرة العربية، ومن المعلوم لدى المهتمين بتاريخ المملكة بكل جوانبه ما قام به ذلك الرجل من كتابات كثيرة مفيدة لكل باحث في ذلك التاريخ أو راغب في معرفة جوانبه المختلفة، وفي كتابته بعثة إلى نجد الكثير من المعلومات التي لا غنى عنها لمن يريد معرفة ما كان يدور في جزيرة العرب، وما حولها في زمن تلك الكتابة من أحداث ذات أهمية قصوى. وأما في مجال التحقيق، المشتمل على دراسة ما حقق والتعليق عليه، فكان أول عمل قمت به في هذا المجال كتاب كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، لمؤلف ما زال اسمه مجهولاً حتى الآن، وإن كان من الواضح جداً أنه من أهل نجد المتحمسين لدعوة ذلك المصلح الكبير، وقد كُتب إبَّان حياة الإمام عبدالعزيز بن محمد ثاني حكام الدولة السعودية الأولى، وفيه من الفوائد والمعلومات عن غزوات قادت تلك الدولة والأماكن والقبائل التابعة لها ما لم يذكره ابن غنام أو ابن بشر أو غيرهما من مؤرخي تلك الفترة، وقد أصدرته مشكورة دارة الملك عبدالعزيز أول مرة سنة 1403ه، ثم أعيدت طباعته سنة 1414ه. وآخر إنتاج لي في مجال التحقيق كتاب لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب، لحسن بن جمال الريكي، الذي كان معاصراً للدولة السعودية الأولى، وقد أصدرته مشكورة دارة الملك عبدالعزيز في شهر رمضان الكريم من هذا العام، وكان الدكتور أحمد مصطفى ابو حاكمة قد حققه وعلّق على بعض ما ورد فيه، وصوَّب بعض كلماته؛ إملاء ونحواً، فله فضل الريادة في إخراجه إلى القراء، لكنه لم يكن دقيقاً في عمله ولا في حكمه على موقف مؤلفه. ثم حققه وعلَّق عليه الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ، - رحمه الله-، وأصدرته دارة الملك عبدالعزيز سنة 1394ه، وأرجو أن يكون فيما قمت به من دراسة لهذا الكتاب، وتحقيق له، وتعليق على ما ورد فيه نفع لمن تتاح لهم فرصة الاطلاع عليه. ولا أملك في ختام هذا التحدُّث بنعمة الله إلا أن أحمد الله وأشكره على هذه النعمة التي أعانني على القيام بها، وأرجوه - سبحانه - أن يوفق الجميع لما فيه السداد والصواب.