الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام الأتمّان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. في يوم الثلاثاء، الثلاثين من شهر يوليو، لعام ألفين وتسعة عشر ميلادي (30/ 7/ 2019م) وهو يوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام ألف وأربعمائة وأربعين للهجرة (27/ 11/ 1440ه) تلقيت وغيري نبأ وفاة أستاذنا الإعلامي والمثقف الكبير الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي -رحمه الله-. تعود علاقتي بالدكتور الراحل أبي طلال -رحمه الله- لأكثر من عشرين عامًا؛ حيث لقيته في مناسبات عدة، تطورت هذه المعرفة إلى علاقة وصداقة. كنت أحرص دائمًا على أن ألتقيه وأهاتفه وصارت لي معه مواقف عديدة وأحداث كثيرة سوف آتي عليها في هذه المقالة. كنت من أوائل من حرص على تكريمه والاحتفاء به، وكان ذلك في عام ألف وأربعمائة وستة وعشرين للهجرة (1426ه)، حيث استضافته الثلوثية متحدثًا عن حياته وتجربته إلا أنّه اقتصر في الحديث آنذاك على نشأة إذاعة الرياض ومشاركته الأولى، سواء كان في إذاعة جدة أو إذاعة الرياض لاحقًا. امتدت العلاقة والصداقة مع الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله-، فكنت لا أدع مناسبة يكون عندي فيها بعض الضيوف إلا ويكون على رأس المدعوين الدكتور عبدالرحمن الشبيلي لأسباب عديدة أهمها؛ سمته، ووقاره، ولطفه، وخلقه. وثانيها: ما يتسم به مجلسه من فوائد ولطائف يأتي بها بكل سكينة ووقار. ثم تتابعت العلاقة عند إنشائي لدار الثلوثية للنشر والتوزيع، وكان من أوائل المبادرين إلى أن تكون كتبه متوفرة في دار الثلوثية، ودارت بيني وبينه معركة في هذا الجانب، وملخصها أنّ الدكتور عبدالرحمن الشبيلي دفع إليَّ العديد من عناوينه المبكرة ودراساته المنشورة والمطبوعة عن الإعلام السعودي والتراجم والسير، وقال: إنَّني أدفعه إليك ولدار الثلوثية. بعد ذلك طلبت من الدكتور أن يأتيني أو يوافيني بفاتورة الشراء لهذه الكتب؛ لأننا سوف نبيعها، فامتنع ورفض رفضًا مطلقًا. في المرة الثانية أحرجت من عدد من رواد دار الثلوثية وبعض الباحثين أن يطلبوا كتب الدكتور عبدالرحمن، وتمنعت في الاتصال عليه؛ لأنَّني أعلم أنه لن يقبل مبلغًا ماديًّا مقابل هذه المجموعات التي يرسلها، وفي النهاية عزمت على أن أتصل به وأطلب منه بعض المؤلفات وأعرض عليه عرضًا لعله يقبله؛ وهو أنني سوف أزوده مقابل ذلك بإصدارات دار الثلوثية، وبعض الكتب والعناوين التي آتي بها من المعارض العربية التي أشارك بها أو يطلبها مني. وقال: إنني أقبل منك أي كتب ترسلها لي، وهذا لا مانع، أما مبالغ مالية فإنني لا آخذ على كتبي شيئًا من ذلك. الحقيقة أنني فرحت بهذا التوافق بيني وبينه؛ لأنني أرغب في أن تكون كتب الدكتور عبدالرحمن الشبيلي متوفرة في دارنا، وأن تكون أحد المنافذ الكبرى والهامَّة لمؤلفاته وإصداراته، لكنني في ذات الوقت لا أريد أن أخسره وأن أحمِّله فوق طاقته. انتهينا إلى هذا الاتفاق واستمرّينا عليه سنوات عدة، بأنني أزود الدكتور بالعديد من العناوين والإصدارات التي تصدرها دار الثلوثية. ولسائل يسأل أين يضع هذه الكميات من هذه الإهداءات التي تُرسل إليه منّي ومن غيري؟. والجواب على ذلك واضح معلوم لمن زار الدكتور عبدالرحمن الشبيلي واطّلع على جلسته ومجلسه. الدكتور عبدالرحمن له استقبالات عديدة للعديد من المثقفين ومحبيه وروّاد مجلسه، وعلى رأسهم جلسته الأحديّة، ضُحى يوم الأحد؛ حيث يزوره العديد من زملائه في مجلس الشورى، ويلتقون أسبوعيًّا في دارته، حيث أصر - كما ذكر ذلك العديد من زملائه، وأوضح ذلك في العديد من كتاباته - على أن تكون الجلسة عنده في بيته. ودعاني ذات مرة إلى هذا المجلس الضحوي، وقال: إنني أريد أن تلتقي ببعض الزملاء ونتحدث في بعض الجوانب الثقافية. وكان ذلك قبل أكثر من سنتين؛ حيث حضرت لأكثر من مرة مجلسه الضحوي، والذي كان يحضره ما يقارب العشرة أو أزيد من أعضاء مجلس الشورى الذين زاملوه في دوراته السابقة. كانت الطاولات تمتلئ بالكتب الجديدة التي تنهال عليه لقاء علاقاته الكبرى والواسعة مع المثقفين والكتّاب، وإهداءاته له التي كانت ترد مني ومن غيري من الزملاء الذين يعرفون سجاياه وخلقه ونبله وعشقه وولعه بالكتاب والإصدارات الجديدة. تعاقبت اللقاءات مع الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مناسبات عديدة، وكان الاتصال الأسبوعيّ لا ينقطع؛ حيث كان يوافيني بعديد من رسائل «الواتساب» إصدارات جديدة، أو معلومة ثقافية مهمّة، أو يسأل عن كتاب جديد. أذكر من هذه المواقف أننا عندما شرعنا مع شيخنا العلامة الشيخ محمد العبودي في إصدار معجم «أُسَر عنيزة» طلب مني الشيخ محمد أن نخصص يومًا أو أيامًا عديدة مع الدكتور عبدالرحمن لإطلاعه على ما كُتب عن أسرته وعن بعض الأسر التي له علاقة بها. فعلًا، ضربنا موعدًا مع الدكتور عبدالرحمن الشبيلي وحضر عدة أيام، وكان من أهمها ذات يوم من بعد صلاة المغرب إلى حوالي الساعة الحادية عشرة ليلًا، حيث جلس جلسة مطوّلة مع شيخنا لإطلاعه على العديد من الوثائق الهامّة والجديدة عن أسرة الشبيلي. ومن لطائف تلك الزيارة أنّ الشيخ محمد العبودي فاجأ الدكتور عبدالرحمن الشبيلي بوثائق قديمة لم يطّلع عليها سابقًا تتعلق بأسرته وإقامتها في بريدة قبل انتقالها إلى مدينة عنيزة قبل أكثر من مائتي وعشرين عامًا. وداعب شيخُنا الدكتورَ عبدالرحمن الشبيلي قائلًا: إن أسرتكم انتقلت من بريدة إلى عنيزة، ونحن نطالب الآن بعودتها إلى أصلها وأن تعود إلى بريدة. وكانت جلسة لطيفة فيها من الفوائد الثقافيَّة والعلميَّة والتعليقات، فأمسك بتلك الورقات التي كتبها شيخُنا عن أسرته، وهي حافلة ومطولة تزيد عن ثلاثمائة صفحة عن أسرة الشبيلي فقط؛ لأنّ فيها من الشخصيات والأعيان والأعلام من الرجال والنساء من يستحق الكتابة عنهم، وإبراز تراجمهم. ولذلك خرجَت ترجمةُ أسرة الشبيلي من أوفى وأدقّ وأجمل التراجم في معجم أُسر عنيزة لعناية الدكتور عبدالرحمن الشبيلي بها -رحمه الله-، وتمحيصه وتدقيقه، وأيضًا ثنائه المطلق والمتوالي والمتعاقب على شيخنا، وما أبرزه من وثائق جديدة لم تكن لدى أسرة الشبيلي. الدكتور عبدالرحمن الشبيلي تربطه كذلك علاقة وُدّ واحترام وتقدير لشيخنا العلامة محمد العبودي، وكان يزور لِمامًا مجلسه بعد المغرب في الاثنينيّة، ويحضر هذا المجلس بين الفينة والأخرى. من المواقف التي مرَّت عليَّ مع الدكتور عبدالرحمن الشبيلي؛ أذكر أنني منذ أكثر من ست أو سبع سنوات كنت في كل لقاء أطلب منه أن يكتب وأن يدون سيرته وأقول له معاتبًا: إنك دائمًا تكتب على السير والتراجم، وتلقي بالعتب واللوم على من لم يكتب سيرته أو يدوِّن شيئًا من تاريخ حياته. وأذكر أنه أسِف أسفًا كثيرًا وبالغًا على الشيخ إبراهيم العنقري -رحمه الله- حينما علم بأنه مزَّق بعض الأوراق المتعلقة بسيرته، وأنه ابتدأ وشرع، ثم تراجع وأتلف ما كتب، وغيرهم من الشخصيات التي كان لها إسهامها الكبير في بناء الدولة السعودية المباركة. وكنت ألقي عليه هذا العتب بين الفينة والأخرى، وقبل ما يقارب سنة في مناسبة عندي في بيتي حضر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي وكنت بجواره على طاولة العشاء، وأسرَّ لي وقال: إنَّني في الفصل الأخير من كتابة السيرة، وكان هذا خبرًا مفرحًا، وقلت له: إنني فرح جدًا بهذا النبأ والخبر الجميل الذي زفّه إلينا عن قرب صدور سيرته الذاتية. ألحَق هذا الخبر الجميل بخبر آخر ماتع وهو أن الشيخ جميل الحجيلان أيضًا كتب سيرته وكانت كتابة الشيخ جميل بإلحاح ومتابعة علمتها واطَّلعت عليها من الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله- الذي تربطه علاقة حميمة وصداقة متينة مع الشيخ جميل منذ بداية عمله في وزارة الإعلام بصفة الشيخ جميل أول وزير للإعلام. قال: إنني اطّلعت على سيرة الشيخ جميل، وأنها على وشك الصدور، وأنَّ الشيخ جميل قد أنهى غالب فصول سيرة حياته. ومما يتعلق بالشيخ جميل أنه بعث إليّ قبل تقريبًا أسبوعين أو ثلاثة إبَّان سفري وإجازتي برسالة في «الواتساب» يقول: إنَّ ذكريات الحسُّون سمع عنها الشيخ جميل الحجيلان، وأنه يرغب في نسخة منها، ويطلب مني إيصال تلك النسخة إلى الشيخ جميل الحجيلان، فأجبته بأنَّ ذلك سوف يتم، وسوف أبعث بنسخة إلى الشيخ جميل الحجيلان عن مذكرات الأستاذ إبراهيم الحسُّون -رحمه الله-. ومن المواقف الجميلة التي أتحفني بها -رحمه الله- أنه فور صدور كتابه «مشيناها» بعث لي بنسخة عليها مهر إهدائه بكلمات طيبة نبيلة، وسمَها بقوله: «صديق الكتَّاب والمؤلفين»، وهذه كلمات جميلة أعتزُّ وأفتخرُ بها كونها تصدر من مثل قامته ومكانته. إبَّان معرض الكويت الدولي للكتاب في العام الماضي اتصل بي وقال لي: هل سوف تشاركون في المعرض؟ قلت له: نعم، فقال: إنني سوف أبعث إليك ببعض النسخ من كتاب «مشيناها»؛ لأنّ البعض يسأل عنها. وأعطاني أيضًا بعض النسخ الخاصة للإهداء للدكتور عبدالله الغنيم، وللأستاذ الشاعر عبدالعزيز البابطين، وبعض الشخصيات الكويتية هناك، وقمت بإيصالها إليهم. بعث إليَّ بنسخة خاصة أخرى إلى شيخنا محمد العبودي، وقال: ليته يقرؤها ويعطيني بعض الملحوظات على ما ورد منها، وإبداء رأيه فيها. وكان دائمًا يَسِمُ نفسه بالتواضع التام، ويُبدي لمحبيه وأصدقائه كتاباته، ويرغب منهم دومًا إبداء رأيهم وملحوظاتهم. مشاركة الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في الوسط الثقافي من أمتن وأقوى المشاركات العلميَّة، دأب -رحمه الله- على أن يُصدر في كل عام أكثر من كتاب أو كتابين أو ثلاثة، وذلك عبر محاضرات يلقيها؛ لأنَّ محاضراته كانت تُعتبر بحثًا من البحوث العلمية، يُنهك نفسه في تأصيل المعلومة والبحث عنها وتحقيقها وتمحيصها، ويكتب محاضرته مكتوبة ويدونها، ومن ثَمَّ تكون جاهزة للنشر. لذلك حرص -رحمه الله- على أن تكون محاضراته جميعها مطبوعة، يقوم بتوزيعها أثناء المحاضرة وبعدها، وهذا من اللطائف التي انفرد بها عن غيره -رحمه الله-. أعتقد أنَّه دائمًا في كتاباته عن الأَعلام والسير والتراجم يبحث عن الشخصيات المغمورة التي لم يُكتب عنها، أو التي لا يوجد عنها أيّ معلومة دقيقة، فتراه يُنبِّش ويبحث ويسأل ويسافر ويحقق ويبحث عن مظانِّ المعلومة التاريخية حتى يجدها. ومن اللطائف التي جمعتني بالدكتور عبدالرحمن الشبيلي أنني حينما أهداني كتابه «مشيناها» كتبتُ تغريدات عديدة عن المعلومات التي وردت فيها، ولا شك أن الجميع قابلوا هذه السيرة بعظيم الترحاب، والاحتفاء، وكانت مثالًا لأجمل فصول السير الذاتية الحديثة. طلبتُ منه في اتصالٍ هاتفيٍّ جمعنا أيضًا أن نخصص ليلة عن كتابه «مشيناها» في الثلوثية، واعتذر وقال: أعدك أن يكون هناك موضوع هام آخر غير «مشيناها». وكان - كما يعلم من خالطه واقترب منه- أشدّ ما يكون بُعدًا عن الحديث عن الذات، أو المديح والإطراء، لكنَّ سيرته امتزجت بالعديد من التقاطعات الاجتماعية والثقافيّة والإعلامية والرسمية، وإذا كان البعض يوغل في الحديث في تفاصيل عديدة عن الأعمال والمنجزات الشخصية فإن الدكتور عبدالرحمن الشبيلي استطاع أن يصطحب معه القارئ إلى أعماق حياته وسيرته بدءًا من أسرة الشبيلي وأعلامها وشخصياتها ثم والده ثم قصة والدته ثم دراسته والعديد من الملامح العامة عن مجتمع عنيزة الأول الذي عاش فيه طفولته ثم الحديث عن المحطات الأخرى التي التحق فيها سواء كان في التعليم العالي، وقبله في وزارة الإعلام، ثم في مجلس الشورى. كان حديثه حديثًا ماتعًا بعيدًا عن الفضائحيّة، لكنه لم يكن كتومًا في بعض أحاديه وشؤونه وشجونه. عقد فصلًا عن هذا البيت الباريسيّ الذي سقط فيه من شرفته وكأنه يقول في كتابه هذا: «هذا هو الفصل الأخير عن قصة بيت باريس، وقصة شرائه» ثم هوى من شرفته -رحمه الله-. لم تكن سيرة الدكتور عبدالرحمن الشبيلي سيرة عاديّة لكنه استعجل في كتابة سيرته ونشرها لأنه يبدو قد شمَّ من بعيد قرب أجله وقرب رحيله. كانت هذه بعض الكلمات التي رغبت أن أبوح بها في حديثي عن هذا العالِم الجليل والمثقف الكبير والإعلامي الرائد المميّز. رحم الله أبا طلال، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في جنات النعيم، وجزاه عنَّا خير الجزاء. ** **