تجتاح العالم اليوم موجة عارمة من التغيرات الاقتصادية والسياسية لابد من متابعتها واستيعابها والتكيف معها والاستفادة من إيجابياتها في صياغة النظم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتطويعها لخدمة أهداف الأمة العربية والإسلامية.. بدون إخلال للبناء الاجتماعي والتقاليد الوطنية السائدة. فمن يستقرئ سياسة المملكة في هذه المرحلة، يلمس أنها تعيش تحولاً نوعياً في الجوهر والمضمون والشكل، بدأت مرحلة انفتاح إعلامي وسياسي على العالم، في الفترة الاخيرة تحدث سمو ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني لعدد من وسائل الإعلام المقروءة والمرئية الأجنبية والعربية، كما قام سموه الكريم بزيارة العديد من الدول الصديقة وأصبح للمملكة حضور في كل محفل وجهد يستهدف تعزيز الأمن والاستقرار والسلام العالمي وفتح آفاق التعاون الإنساني بين كافة الأمم والشعوب. سجل المملكة الناصع حافل بالإنجازات المشهود لها في معالجة أزمات ومشكلات دولية في المسرح العالمي. جميع دول العالم يشهد بإسهامات وجهود المملكة في حل الأزمات واحتواء ومعالجة الخلافات والنزاعات بالحكمة والتعقل. لقد عاش الكثيرون من دعاة الإصلاح والتطوير في عصرهم، وتمتعوا فيه بالتقدير البالغ والشهرة الذائعة والعظمة والتفرد، ثم جاء عصر بعد عصرهم، كشف حقيقتهم، فقد غير التاريخ والمؤرخون نظرتهم الى كثير من الأحداث والعديد من الأشخاص عندما زالت الظروف التي تعطي الأحداث أو الأشخاص أهمية زائفة أو بطولة كاذبة. الشخصيات التي تتخذ قرارات مصيرية وتاريخية تحتاج إلى مؤهلات وسجايا ذاتية، تملكها قلة في كل زمان ومكان. إن الأحداث تتصل بالأشخاص، والكتابة عن صناع التاريخ وإنجازاتهم وأثرهم في حياة الأمم ليس بالعمل السهل، الكتابة عنهم اعتراف بفضلهم ووفاء لهم وشكر لله لتوفيقهم. لقد ظلت أنظار العالم مشدودة إلى مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بيروت في الشهر الماضي في تحسب لما سينتج عنه، وتعلقت أنظار العالم كله بالأمير عبدالله بن عبدالعزيز حيث برز الأمير عبدالله رجل دولة حجز له مكانا في الصف الأمامي من المؤثرين إقليمياً ودولياً، ولقد مر هذا المؤتمر بجو مختنق من شد الأعصاب ومناخ مكهرب بالمفاجآت والمواقف وتضارب التوقعات وتصاعد التكهنات والاجتهادات مما أدى إلى هاجس الخوف وتوقع فشل وانهيار المؤتمر، وفجأة تغير جو المؤتمر. استطاع الأمير عبدالله أن يعالج اسقاطات هذه السلبيات التي ألقت بظلالها على أجواء المؤتمر وذلك بهدوء وعقلانية واستخدام كنز التجارب والخبرة والواقعية العملية، واستطاع بالروح الإيجابية أن يتغلب على كثير من السلبيات التي كادت تفسد جو المؤتمر. شهدت قمة بيروت تحولات في المشهد العربي السياسي لم يخطط لها أحد وإنما نبتت وبشكل طبيعي من تربة المشاركين في المؤتمر خففت من الأضرار اللاحقة، كان سمو الأمير عبدالله هو مهندس هذه التحولات الجريئة والاستراتيجية وكان المستفيد الأول منها هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. إن الكتابة عن شخصية الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ليست بالأمر اليسير وذلك لعلو هامته فهو شخصية صادقة في نواياها وصادقة في حقيقتها، ليس لديه شخصية مختلفة أمام الكاميرات والميكروفونات، لقد تجاوز المحلية والاقليمية إلى العالمية في مواقفه السياسية والدبلوماسية، مما يجعل الكتابة عن سموه الكريم مزاحمة لكبار الكتاب باختلاف جنسياتهم ولغاتهم وذلك يجعل الكتابة تحتاج إلى مقومات من أدوات المعلومات ومهارات الإبداع قد لا يملكها الكاتب، لكن بحب كبير لسموه الكريم عزمت أن أجرب الكتابة عن سموه لأن الكتابة عنه فيها متعة حاولت من خلالها أن أشبع رغبة في النفس، ولا أبرئ نفسي من التعصب لسموه، فذلك شيء يمليه الحب وتغذيه المشاعر الصادقة. هذه محاولة للتقرب إلى بعض سمات شخصية سموه الكريم وفضائله وإنجازاته على صعيد الأمتين العربية والإسلامية والدولية. المتابع والمراقب لتحركات سموه حفظه الله يلمس أن سموه محط أنظار واحترام متزايد من قادة ومفكري العالم، زعيما بذكائه السياسي وفطرته السليمة وإيمانه النقي لا يعرف المناورة والخداع، لا يمكن إلا أن يكون صريحاً وواضحاً، في صراحته ووضوحه وإخلاصه لأمته وتفانيه في خدمة دينه ومرضاة ربه لا يخشى في الصدع بالحق لومة لائم، شخصية تاريخية لها حساباتها، مواقفه وسياسته وجهوده نقية وبعيدة عن المصالح الذاتية ومجردة من أية رغبة في مكاسب سياسية أو الاهتمام بتصفيق الجماهير، غايته خدمة الأمة العربية والإسلامية، حقق أبعاداً سياسية في المحيط الدبلوماسي له تأثيرات استراتيجية أدت إلى تهميش الكثير من المداخلات المنفعلة وتقزيم الأصوات المتحمسة والمنفعلة، معروف بمواقفه الإسلامية والإقليمية ومناصرته لقضايا العرب والمسلمين، ولمواقف سموه صدى واسع على الصعيدين الإسلامي والدولي، وأجمع على احترامه حتى أولئك الذين يختلفون معه، لقد أصبح سموه عنصراً وركناً في معادلة السلام، لا يبرم شيء يهم الأمة العربية والقضية الفلسطينية في غياب سموه، يستطيع المراقب أن يسجل مواقف تفرد بها سموه لفتح آفاق من التعاون البناء مع جميع الدول الصديقة. يتفرد سموه بعمق التجربة وبحكمة وحنكة ودبلوماسية وحرص شديد على قضايا أمته، لا يستطيع أحد ان يستدرجه إلى قرار ليس في صالح أمته، يسعى لتوظيف القوة التي تملكها المملكة وثقلها السياسي المؤثر من أجل حل عقلاني وواقعي لخدمة القضية والشعب الفلسطيني. في قمة بيروت استمع العالم إلى الأمير عبدالله بلغة أكثر وضوحا وتحديدا في مناخ شديد التأزم وبالغ الخطورة، وتحدث ببساطة وعمق، شرح أسباب تقدمه بالمبادرة. كانت مبادرة الأمير عبدالله هي المحور الرئيسي للمؤتمر، حصلت على تأييد جماعي يعبر عن موقف موحد أظهر وأثبت حرص العرب على التضامن وتحقيق السلام الشامل كخيار استراتيجي. جاءت هذه المبادرة من شخصية معروفة باعتزازها بجذورها العربية وأصالتها الإسلامية التي شكلت عناصر القوة للمبادرة، لم يكن سهلاً أن يعرض سموه التطبيع مع إسرائيل مقابل الانسحاب الكامل، لكن الواقع العربي والإسلامي والدولي لن يعيننا على غير ذلك وكما قال سموه «مكره أخاك لا بطل»، حكمة وحنكة قيادة المملكة تتحرك في الوقت المناسب وبالإجراء الواقعي حتى يكون للتحرك فاعلية ويحقق الأهداف، وهي قادرة على القيام بدور القيادة وتوحيد الاجماع العربي، المملكة مشهود لها بالحكمة والتأني في إلقاء التصريحات أو الآراء وإذا اطلقت أمراً فلابد وأنه قد مر بكثير من مراحل الدراسة والفحص والتمحيص فلا عجب أن تحمل المبادرة معاني كثيرة وغزيرة وعميقة واستراتيجية، فهي تمثل رؤية اتسمت بالمواقف العقلانية والمصداقية والواقعية والرغبة في السلام والحصول على الممكن والمتاح في ظل الواقع والظروف الموجودة والتخطيط والانطلاق بعد ذلك لأهداف أخرى. جاءت المبادرة في وقت وصل فيه عجز وشلل المجتمع الدولي ووصلت القضية الفلسطينية إلى نقطة ضعف وأصبحت معزولة ووحيدة في الساحة لظروف وملابسات غزو العراق لدولة الكويت، كادت تؤدي إلى نهاية الانتفاضة وتوقف القضية، وهذا أجبر الفلسطينيين على الذهاب إلى أوسلو، عندما قبل العرب الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، كان لكل دولة عربية وجهة نظر معينة، لذلك بدأت إسرائيل تعمل على تفتيت وحدة الصف العربي، وتركز على مناقشة ومفاوضة كل دولة على حدة وذلك بهدف الاستفراد بالدول العربية لمنع التقارب العربي العربي وتقف ضد تحقيق التضامن العربي وإبعاد العرب عن بعضهم. وفي ضوء وعي الأمير عبدالله بحقيقة الصهيونية وأهدافها وبحكمته وفراسته ورؤيته الاستراتيجية لنتائج الأحداث في المستقبل، رأى أن الوضع يحتاج إلى تدخل من خارج النزاع المباشر لتجاوز هذه المرحلة ولذلك طرح أفكاره عن مبادرة السلام. كان دافع مبادرة الأمير عبدالله هو حرص سموه على وقف طوفان الخراب والدمار الذي يهدد أمن واستقرار المنطقة بل والعالم، وإخراج الفلسطينيين من هذا المأزق الذي وضعتهم فيه السياسات المرتجلة وتمزق العالم العربي. أتت هذه الأفكار أو المبادرة نتيجة معاناة كبيرة وقاسية شعر بها سموه عندما يشاهد ما يحصل للشعب الفلسطيني من ذبح وتشريد وعندما شاهد أشلاء الأطفال والشباب من الجرحى على أسرة المرضى في مستشفيات المملكة ولأن تجربة العنف عبر خمسة عقود لم تنتج سوى مزيد من العنف والدمار، ولقد راهنت إسرائيل على الحرب ولم تحقق شيئا رغم تفوقها العسكري، لذلك طرح الأمير عبدالله أمام العالم ورقة عمل واضحة ومحددة كمنهج للقضاء على جذور العنف والإرهاب ووضع النقاط على الحروف ووضع الشعب الإسرائيلي على المحك أمام الرأي العام العالمي. لقد وضعت المبادرة المملكة في إطارها وعمقها العربي التاريخي لأن المملكة طوال الصراع العربي الإسرائيلي كانت مواقفها وتجاوبها مع مبادرات التسوية العادلة، ولم تخرج يوما عن الصف العربي، لقد وحدت هذه المبادرة الإجماع والتوجه العربي نحو السلام الشامل.