لكل شعب من الشعوب رموزه الوطنية ممن صنعوا أو ساهموا بصنع تراثه الحضاري والثقافي والوطني، ويحفل التاريخ وتختزن ذاكرتنا بأسماء بارزة عديدة على مر العصور ساهمت في صناعة أو طانها. وفي حالة الشعب الفلسطيني لم يعد الفرد يمثل أسطورة، أو نموذجاً متفرداً، بالرغم من حالات البطولة الفردية المذهلة التي برزت من خلال ملحمة الجهاد والنضال الفلسطينية المتواصلة منذ أكثر من قرن من الزمان، فالفرد هنا أصبح نموذجاً لظاهرة عامة، نموذجاً متوحداً في ذاته مع مجموع السكان في مواجهة الغاصب، والتحدي الحضاري والثقافي والنضالي الفلسطيني أصبح النقيض للمشروع الإسرائيلي الصهيوني بمجموعه فالبطل في مواجهة عصابة القتلة، والشعب الفلسطيني هنا هو البطل الجماعي. لا نسوق هذا الحديث من موقع العصبية الشوفينية، بل من واقع المعاناة اليومية بكل جزئياتها للإنسان الفلسطيني أين وجد.. في المنافي والشتات، أوعلى امتداد مساحة الوطن الفلسطيني أو ما تبقى من هذا الوطن في ظل هذه الهجمة الصهيونية البربرية التي يقودها مجرم الحرب «شارون» ضد كل ما هو فلسطيني..!! فالجسد الفلسطيني الطاهر يلقى بظلاله الآن على كامل مساحة الوطن العربي، بل على مساحة الكرة الأرضية كلها، وشلال الدم الفلسطيني لا يزال يتدفق منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً على تراب هذا الوطن لينبت شقائق النعمان الفلسطينية..!! ففي رام الله، وخانيونس، وجنين، ورفح، وبلاطة، وجباليا، والخليل، ودير البلح، وبيت لحم، وبيت لاهيا، ونابلس، والقرارة، والقدس، وغزة كما في طولكرم وقلقيلية وكل قرى فلسطين، كذلك في كل المخيمات، سيما مخيم جنين البطولة، وبلاطة الصمود، نموذج حضاري واحد لشعب يقاوم أعتى هجمة تطهير عرقي لم يعرف لها التاريخ الحديث مثيلا..! هكذا يتحول الإنسان الفلسطيني في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة إلى صخرة صلدة، صلبة منزرع في أرضه بوجه آلة الدمار والحرب الصهيونية. ففي مخيمات البطولة والصمود على أرض الوطن حيث تسقط الشمس كل يوم من عليائها فوق الأزقة الضيقة وأسطح البراكيات، وبيارات الليمون، تنبت معها عشرات ومئات السواعد التي تقاوم هذه الهجمة الصهيونية الشرسة، ولم تعد الهموم الذاتية هي الهاجس، فقد توحدت الهموم الذاتية مع الهم الأكبر، والمهمة الأعظم وهي التصدي للعدوان الصهيوني وطرد الاحتلال، فلا حلول للمشاكل الذاتية بصورة جذرية، ما دامت المسائل الوطنية لازالت عاصية عن الحل، والفرد ملتحم مع الكل. لقد انتصب الإنسان الفلسطيني كماردٍ عملاق، وانتصبت المخيمات الفلسطينية كسور الصين العظيم، وتحولت البراكيات إلى متاريس من المقاومة التي لا تهزم، ودبت الحياة في زنود الكهولة، وعقصت صبايا المخيم جدائل شعرهن، واحتللن بجانب الرجال مواقع البطولة والفداء. بالزجاجات الحارقة والطلقة والسكين والأحزمة الناسفة شعبنا يقاتل، ويقاوم، في جنين وبلاطة وقباطية ونابلس ورام الله وبيت لحم وبيت جالا ورفح وطولكرم وقلقيلية. لقد أصبحت أسماء المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية أسماء لأبطال ساهموا بصنع الملحمة الفلسطينية. لقد حولت السواعد الفلسطينية حجارة المخيمات إلى عنوان كبير للنصر، وأثبتت بالملموس، أن شعباً صغيراً، وبأسلحة متواضعة، إذا ما توفرت له الإرادة الصلبة، والقيادة الحكيمة، قادر على إلحاق شر هزيمة بعدو من كوكب آخر. نسوق هذا الكلام، كمقدمة لعرض نماذج وطنية حية، لمواطنين فلسطينيين عاديين جداً، انتماؤهم لفلسطين، ساهموا مع آخرين مجهولين، ولازالوا، يصنع هذا التاريخ المشرق لشعب أجاد حمل السلاح فكراً وعملا، مستلهمين من روح الأجداد محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي، وعز الدين القسام، وعبدالرحيم الحاج محمد، وحسن سلامة وعبدالقادر الحسيني، قوة الشكيمة، ومن الثورة الفلسطينية، عنفوانها وصلابتها، ومن «اليرغول» أنشودة البقاء. ما أعظم هذا الشعب الذي يتبارى فيه الطفل مع الشباب، الشيخ مع الصبية على الشهادة، وتقديم فريضة الجهاد والتضحية من أجل الوطن في معركة الاستقلال الفلسطيني الأخيرة، والذي عبر شلال الدم النازف عن هذا القرار المصيري النهائي. ففي كل يوم تزدان الصورة، ويكبر العطاء في أسطورة أبدية من أجل فلسطين الوطن، فلسطين الأرض والماء والهواء والسماء، فليستمع العالم إلى خرير دماء الفلسطينيين يشق عنان السماء، وصوت عصافير الانتفاضة تدق باب كل قلب أعمته الدعاية الصهيونية الأمريكية، وضللت قلبه أكاذيب ساكن البيت الأبيض الذي وصف دفاع الفلسطينيين عن أرضهم وعرضهم وحقهم في الحياة بالإرهاب..!! لقد تناسى سيد البيت الأبيض في ظل تواطئه مع السفاح شارون في اقتحام الأراضي الفلسطينية والاعتداء على شعبها المجاهد الصامد، وانحيازه الأعمى لعصابة القتلة في تل أبيب، ومحاولته المشبوهة لتركيع الشعب الفلسطيني، أن المقاومة الفلسطينية الباسلة ليست إرهاباً، بل الإرهابي هو شارون الذي يقود ائتلافاً إرهابياً هدفه إبادة شعب كامل، وإنكاره حقوقه في الحرية والاستقلال. إن العدوان الهمجي والحاقد، وحرب الإبادة المنهجية التي تقوم بها قوات العدو الصهيوني بحقد عنصري لا حدود له من إعدامات عشوائية واعتقالات جماعية، وعمليات تدمير لكل مظاهر الحياة، وتدمير البنية الفلسطينية البشرية والتحتية أهم ما يتميز به الإرهاب الإسرائيلي، أنه «إرهاب منظم» فهو يتم بتخطيط وتنفيذ أجهزة ودوائر الدولة الرسمية، ففي نظام أجهزة «الخدمة الخاصة» في كيان العدو الإسرائيلي، هناك دوائر وفروع وأقسام مهتمها فقط القيام بعمليات ارهابية ضد البلدان الأجنبية وقادتها السياسين وشخصياتها الرسميين. إن الهدف الرئيسي للارهاب الإسرائيلي هو القضاء على أكبر عدد من الفلسطينيين ودب الرعب في نفوس من يبقى حياً لاجباره على ترك وطنه، الذي يعتبره الصهاينة دولة لليهود فقط. إن الارهاب الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة لا يختلف في شيء عن الارهاب النازي، «شاهدنا ذلك وجنود الاحتلال يضعون الأرقام على أيدي المعتقلين»، فطوال ثمانية عشر شهراً من عمر الانتفاضة استخدم العدو الإسرائيلي «ارهاب الدولة المنظم» ضد كل ما هو فلسطيني، إلى أن جاء الارهابي قاتل الأطفال والنساء «شارون» وجعل من هذا الكيان «دولة الارهاب»!! يقول الكاتب والصحفي البريطاني آلن هارت، أنه ذات يوم في نهاية آب/ أغسطس من العام 1982م. استدعى الجنرال أرييل شارون المبعوث الأمريكي فيليب حبيب وبدا الجنرال شارون على غاية الهياج، وضرب على الطاولة وقال: « من هم هؤلاء الفلسطينيون، إنهم ليسوا كالعرب «!» ولا يهربون من الحرب، لقد قصفتهم بكل شيء، فقل لعرفات إنه لم يتبق لدي سوى قنبلتي النووية». إنه نفس القاتل في قبية والمسوع وصبرا وشاتيلا وقطاع غزة، ففي لقائه مع الجنرال «أوز مير هرام» عام 1956م، أوضح مجرم الحرب «شارون» سياسته التي مازال يتبعها في حربه ضد الفلسطينيين بعد مرور 46 عاماً، حيث قال: أتعهد بأن أحرق كل طفل فلسطيني يولد في هذه المنطقة، فالأطفال والنساء الفلسطينيون أكثر خطورة من الرجال، لأن وجودهم يعني استمرار أجيال قادمة من الفلسطينيين».. وأضاف هذا المجرم: «أتعهد بأني حتى لو فقدت كل المناصب وأصبحت مواطناً «إسرائيلياً» عادياً، فإنني سأحرق كل فلسطيني أقابله في الطريق، وسأجعله يتعذب قبل أن يموت».وأضاف: « أنا لا تهمني الأعراف الدولية، فقد قتلت بضربة واحدة أكثر من 750 في رفح عام 1956، وأريد أن أشجع جنودي على اغتصاب الفتيات الفلسطينيات، لأنهن عبيد ل «الإسرائيليين» ولا يملي أحد علينا ارادتنا، بل نحن من يصدر الأوامر، وعلى الآخرين الطاعة». كلمات شارون هذه حددث «الأهداف الشارونية»، ولم تتغير هذه الأهداف بعد مرور أكثر من 45 عاماً، وبالرغم من أنه استخدم كلمات مختلفة في كلمته التي أعلنها الأحد «31/3/2002م، والتي وصف فيها الفلسطينيين بأنهم «ارهابيون»، فإن الأهداف غير المعلنة ظلت واحدة. إن العدوان الإسرائيلي الحالي ليس لاستباحة الدم الفلسطيني فحسب، بل إن العدو الصهيوني يحاول استباحة الكيانية الفلسطينية برمتها، ومحاولة إسقاطها من المعادلة السياسية. فلنلقن هذا العدو درساً آخر من دروس التضحية والجهاد والاستشهاد، ولنلاحقه بقلوبنا المليئة بالإيمان بعدالة قضيتنا، وبأيدينا العارية إلا من نبض الكرامة والإباء، لتبقى الحقيقة كبيرة بحجم الشهداء والتضحيات، ولنردد معاً ونحن نخوض هذه الحرب تحت شعار «نكون أو لا نكون»: قد أقبلوا.. فلا مساومة.. المجد للمقاومة.. كاتب وصحفي فلسطيني الرياض