دخل مخيم جنين بقوة الى قائمة المجد والخلود الفلسطينية، كما دخل من قبله مخيم تل الزعتر، ومخيما صبرا وشاتيلا، ومخيم عين الحلوة الذي قاوم هجمات قوات الاحتلال على مدار أيام طويلة من صيف العام 1982، أثناء الغزو الصهيوني للبنان. ومخيم جنين يستشهد بعد مقاومة باسلة أذهلت العالم كله، وأثارت عند الفلسطينيين الروح الوطنية والثقة في اجتراح المآثر، وكل الوسائل والأنماط الكفاحية التي تمكنهم من البقاء وإدامة الحركة الوطنية التحررية على طريقة العودة والاستقلال. وأثارت، من جانب آخر، الألم العميق للحال الرسمية العربية التي لم تحرّك ساكناً لانقاذ اللاجئين الفلسطينيين المحاصرين داخل المخيم من بين أنياب عدو فاشي. فلم نسمع أو نرى اللهم سوى الكلام العاطفي الذي لا ينقذ شعباً من المجزرة، وبعض ما تيسر من جهد سياسي على المستوى الدولي. ولعل في الاستهداف الاسرائىلي المباشر والتركيز على المخيمات أكثر من معنى سياسي، ومبتغى آخر تريد من خلاله الدولة العبرية ممارسة الشطب التدريجي للوجود المادي والمعنوي للمخيم الفلسطيني، وإنهاء التربة الخصبة المنتجة للكوادر الفلسطينية الفاعلة في صفوف حركة المقاومة المناهضة للاحتلال وللتسوية المنقوصة الجارية منذ سنوات. وتركيز قوات الاحتلال على المخيمات لا يقلل من حجم العدوان الاسرائىلي على بقية البلدات والمدن والقرى الفلسطينية. الا ان المخيمات المكتظة باللاجئين الفلسطينيين المقيمين بالقرب من موطنهم الاصلي جعل الحال الكفاحية متوقدة، خصوصاً في ظل تسوية مختلة تجاهلت قضية اللاجئين وحقهم في العودة وفق القرار الدولي 194 الصادر عام 1949. وشكلت المخيمات منطقة بيت لحم ورام الله العنوان الأول للتصعيد، فبدأت قوات الاحتلال اجتياحها لمدينة رام الله، بعد قصف وحصار تناول مخيم الأمعري. والأمر الذي تكرر في منطقة بيت لحم حيث مخيمات الدهيشة والعزّة وقدورة وعين بيت إلما وعليدة ودير عمار والجلزون، التي تضمّ اعداداً من أبناء مناطق يافا واللّد والرملة المحتلة منذ العام 1948، وفي نابلس حيث مخيما عسكر وبلاطة. وما جرى على مداخل مخيم جنين يؤشر على مدى القلق والأرق الذي يقض مضاجع الاحتلال من وجود المخيم الفلسطيني ذاته أينما كان، وعلى الأخص داخل الأراضي الفلسطينية. وليس مصادفة ان نلحظ تزاحم الافكار والمشاريع والاقتراحات التي قدّمت منذ سنوات لإنهاء صيغة المخيم الفلسطيني تحت عناوين إعادة التأهيل، ومساعدة مجتمع اللاجئين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية اللاجئة في الضفة والقدس وقطاع غزة، فضلاً عن مخيمات سورية ولبنان والأردن. يقع مخيم جنين في الزاوية الشمالية الغربية لمدينة جنين القسام، على مساحة ضيقة لا تتجاوز كلم مربعاً واحداً. وكانت وكالة الأنروا قد أنشأته في 1953 من تجمعات مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين قدموا من جنوب وغرب مدينة حيفا، والسفوح الجنوبية من جبل الكرمل. وسكان مخيم جنين، البالغ عددهم قرابة 16 ألف نسمة، ينتمون الى شريحة مسحوقة ذات أصول فلاحية، وتبلغ نسبة العسر الشديد بين عائلات المخيم، وهي العائلات التي تتلقى المساعدات المعيشية اليومية من وكالة الأونروا، نسبة 5،5 في المئة. ويعود سكان المخيم في أصول مواطنهم الى منطقة حيفا وقراها. ولجأت اعداد منهم، عام النكبة، الى شرق الأردن وسورية، والى بغداد. ويقيم بعضهم في مخيم طولكرم مخيم نور شمس. وتعتبر عائلة أبو الهيجاء، وعشيرة عرب التركمان، من أكبر عائلات المخيم. وفي المخيم خمس مدارس للأونروا، من أصل 95 مدرسة لها في الضفة الفلسطينية. وفي داخل المخيم مراكز صحية، ومركز للإغاثة الاجتماعية، ونادٍ للشباب. ويمثل المخيم النائبان في المجلس الاشتراعي الفلسطيني النائب فخري التركمان، والنائب جمال الشاتي، المقربان من "فتح". وهو الشوكة الفلسطينية في حلق شارون وموفاز والاحتلال الاسرائىلي، والوردة التي نشرت عطرنا الفوّاح على مسار ودرب الشعب الفلسطيني. وقدم، في انتفاضة الاستقلال الراهنة، أكثر من 30 فدائياً نفّذوا عمليات نوعية فوق الأرض المحتلة عام 1967 وداخل عمق فلسطين عام 1948. فاعتبرته قوات الاحتلال المصنع المنتج، ومعمل تفريخ الاستشهاديين. وهذا حدا بقادة أجهزة استخبارات العدو الى اعتبار مدينة رام الله مركز القيادات السياسية الأولى، ونابلس مدينة تصنيع وتجهيز العبوات، ومخيمي طولكرم وجنين منبت الاستشهاديين. وآخر هؤلاء الاستشهاديين شادي زكريا الطوباسي، منفذ عملية حيفا 26/3/2002م، وقيس عدوان الذي استشهد في طوباس في 6/4/2002، والشهيد أيمن أبو الهيجاء منفذ عملية الباص العسكري الاسرائىلي شرق مدينة حيفا 10/4/2002. وسقط قبل أيام الشهيد زياد زبيدي، قائد كتائب الأقصى، والشهيد مصطفى الشلبي، قائد كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، الجناح العسكري للجبهة الديموقراطية، بينما أصيب المناضل جمال أبو الهيجاء، قائد كتائب عز الدين القسام، والشهيد محمد طوالبة، قائد سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، والشهيد أبو جندل، قائد قوات المقاومة في المخيم المشكلة من جميع القوى الفلسطينية. مخيم جنين بوجوه أبنائه البرونزية المعتقة تحت شمس فلسطين، كتعتيق الفضة بالنحاس، يصنع الآن "كومونة العرب" التي تعانق السماء، "ويصنع بشبابه وشاباته المسلحين بأسلحة فردية دروساً لحروب الاستنزاف الوطنية ضد عدو طاغية مسلح بأرقى صرعات تكنولوجيا السلاح في العالم. فتعاهد جميع أبنائه على الصمود حتى الرمق الأخير" رائد عباس مقاتل من الجبهة الديموقراطية، في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية صباح 8/4/2002م - "الحياة" 9/4/2002. وعالجت قوات الاحتلال بعد تصريح الفدائي رائد عباس بإطلاق ثلاثة صواريخ من حوامات الأباتشي على منزله وسط مخيم جنين ظهر يوم 9/4/2002. إن دروس معركة مخيم جنين تضاف الى التراث الكفاحي للشعب الفلسطيني. والعبرة المستخلصة ان المقاومة التي حدثت في جنين ستبدو متواضعة إذا ما حاولت قوات الاحتلال الدخول الى مخيمات قطاع غزة، حيث اكتظاظ اللاجئين الفلسطينيين والحشد الكادري الفلسطيني.إن شارون وحكومة الوحدة الصهيونية زرعا الحقد والكراهية للأجيال المقبلة. فما حدث في مخيم جنين مثّل عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي في الوقت الذي عبرت فيه البشرية نحو الألفية الثالثة معتقدة ان حروب الإبادة اصبحت خلف التاريخ. مخيم جنين يزرع بذور الاستيقاظ الجديد ليحمي حلم العودة، ويطلق رياح العودة، ويعيد الى الصدارة قضية اللاجئىن الفلسطينيين. فتسوية مدريد - أوسلو ليست قادرة على تجاوز قضية اللاجئين الذين يشكلون 65 في المئة من أبناء الشعب الفلسطيني، وليست قادرة على فرض منطق التوطين أو التهجير. فالحق لا يموت بالتقادم ولا يلغيه تجبر ظلم. دمشق - علي بدوان كاتب فلسطيني