أستعير هذا العنوان «الخروج من الحلم للدخول في الكابوس» من (مانشيت) إحدى الصحف التي وصفت عودة الموت بعد انقطاعه عدة أشهر في رواية (انقطاعات الموت) للكاتب البرتغالي (جوزيه ساراماغو) حيث مرت المدينة التي انقطع عنها الموت فجأة بمرحلة كأنها الحلم ابتهج الناس في بدايتها لكنهم ما لبثوا أن تبينت لهم مخاطر توقف الموت حتى تمنوا عودته. وما إن عادت عجلة الموت للدوران حتى دخلوا مرحلة أخرى أشبه ما تكون بالكابوس. والدكتور أحمد الهلالي في روايته (سدرة المنتهى) الصادرة عن نادي حائل الأدبي 1435/2014 يأخذ بطل روايته إلى عالمين متخيلين كما لو أنه انتقل به من حلم إلى كابوس، ويجعلنا خلال قراءتنا للرواية متابعين بكل شغف للبطل في رحلته عبر العالمين. (يحيى) - بطل الرواية - طبيب حديث التخرج، يُعيَّن في قرية من قرى المنطقة الجنوبية البعيدة عن محافظة جدة التي نشأ وترعرع فيها. ولوعورة الطريق إلى القرية يوقف سيارته في المحافظة ويصطحبه سائق مديرية الشؤون الصحية إلى مستوصف القرية بسيارة المديرية. يتركه السائق لحارِسَيْ المستوصف الذي يبدو أنه ظل مهجورا لسنوات، ويعلم من أحد الحارسين أنه لم يفتح منذ خمس سنوات بعد أن أصيب الطبيب السوداني بلوثة عقلية غادر على أثرها القرية!. ولا يتركه الحارس في هواجسه قبل أن يعلمه أن زعيم القرية المكنى ب (الجمل) ينتظره في قصره. حاول الاعتذار - على الأقل حتى يستريح من وعثاء السفر - لكنه أصر على أن يبادر إليه فهو في انتظاره. لم يكن قصر الجمل وقراه إلا مملكة خفية عن الأنظار تنتمي بحسب وجهة نظر أهلها إلى (عالم النور). إنه عالم متطور متفوق يعيش في رفاهية لا تتوافر لدى أكثر الأمم تقدما ولديه أنظمة متطورة في التعليم والصناعة والقضاء والإدارة وفي سائر مجالات الحياة. ويورد لنا المؤلف على لسان يحيى كثيرا من المشاهدات اليومية للحياة في هذا العالم ليقوم الجمل بتفسير ما يدهشه، فهم على سبيل المثال لا يتعاملون إلا مع كل ما هو طبعي فيحصلون على طاقتهم من الشمس وإنارتهم من الشموع الطبيعية. وهم لا يطهون الطعام كثيرا حتى لا تزول قيمته الغذائية. كما أنهم لا يتناولون طعام العشاء. وتستمر الحوارات الطويلة بين الجمل والطبيب يحيى لتكون وسيلة الجمل لسرد مميزات عالمهم النوراني مزدريا ما يقابله لدينا في عالمنا الذي يصفه ب (الظلامي). فحين حضر يحيى محاكمة لباحثة أخطأت خطأ علميا وصدر الحكم بحقها طلب من الجمل قبول شفاعته فيها، فوبخه بعد الجلسة قائلا إنه لا توجد في عالمهم شفاعات. وحين سأل عن مكان السجن قال له إن المحكوم يرسل إلى القرية العلمية المخصصة للبحوث ويطلق سراحه فيها لتتاح له فرصة البحث والابتكار، وإن استطاع السجين أن يكتشف شيئا ذا بال خففت عنه العقوبة إلى النصف. وحين تطرق يحيى لما يعانيه في عالمه من نظرية (المؤامرة) فند الجمل قوله بأنه ليس هناك ما يسمى بالمؤامرة، فكل ما في الأمر أن الغرب منتج والعرب مستهلك، فالغرب يبذل كل طاقاته لبيع منتجاته والحفاظ على سوق يبيع فيه المنتجات. فهو ضد صحوة العرب لا لشيء إلا لأن صحوته ستفقد الغرب سيطرته. وفي مناسبة تكريم العمال يسأل الجمل د. يحيى عن نظام العمال في عالمه فينبري ليبين أقسام العمالة الوافدة والمحلية ومرتباتهم الهزيلة وهضم حقوقهم، فينطلق الجمل في محاضرة طويلة صدع بها رأس يحيى إلى أن قال: «يجب أن يعلم رب العمل أن ظروف العامل هي التي جعلت عنقه في يد الموسر فليضع نفسه مكانه». ولا ينسى د. يحيى طبيعته البشرية في هذا العالم النوراني فيستلطف الجنس الناعم، ويحاول أن يعقد صداقات وعلاقات عاطفية، وكأني بالمؤلف أراد تلطيف المناخ المنضبط في هذا العالم. يمكث الطبيب يحيى في هذا العالم أكثر من شهر، ويسمح له بعد أن تعلم الكثير من علوم هذا العالم بزيارة والدته وإخوته في جدة، ويعود منها بسيارة ذات دفع رباعي حتى يكون قادرا على الوصول للقرية ومغادرتها دون معاونة سائق الشؤون الصحية. لكنه فيما بعد يضيق بهذه الحياة وهذه العزلة ويحاول الهرب من هذا العالم ويظن أنه بسيارته ذات الدفع الرباعي يستطيع أن يباغت هذا العالم فيفر من حراسته ومراقبته. يصل إلى الوادي الفاصل بين القرية وخارجها، ويخلد للراحة تحت شجرة سدر وهنا يدخل في العالم الآخر. يجد نفسه في قرية بدائية جريحا متعبا، ومن حوله من يخفف عنه ويعالجه، بل ويجبر كسوره بالطريقة البدائية للتجبير. بعد معيشته في هذه القرية ومصاحبته لأهلها وضيوفها وزوارها تبين له أنها قرية يمنية، وأن من يشاهد من غير أهلها هم عمال خليجيون - ومنهم سعوديون - جاءوا للبحث فيها عن فرص متواضعة للعمل بعد بوار سوق النفط بسبب الاستغناء عنه في عالم تقني اعتمد الطاقة الشمسية بديلا. لا يريد يحيى أن يصدق ما يرى فهو يعتقد أن قوم الجمل قبضوا عليه وهو يحاول الهروب، وهؤلاء إذ سمعوا حديثه وأسئلته عن الجمل ورجاله لا يداخلهم شك في أن الرجل ممسوس حتى إنهم أضافوا إلى علاجهم شيئا من القراءات و(المحو) والسحر لإزالة ما به. يتعر ف عليه جاره في الطائف (جابر الوافي) فيُذكِّره بأنه ليس طبيبا، وليس اسمه يحيى بل هو (نايف المشني) جاره في الطائف وزميل دراسته، وأنهما تركا الدراسة طلبا للرزق بعد نكبة النفط!. ولا يزال يحيى أو نايف ينتظر إفاقة تعيده إلى واقعه! ** **