عندما انتهيت من رواية "واحة الغروب" التي أصدرها بهاء طاهر في "روايات الهلال" القاهرية في تشرين الثاني نوفمبر عام 2006، ازددت يقيناً من أن الرواية واحدة من روايات النهايات التي تنطوي على الحس المأسوي بالكارثة التي يراها الأبطال ويقعون فيها، وذلك بالمعنى الذي يجعل هذه الرؤيا المأسوية مضمرة داخلهم، كأنها جرثومة الدمار التي تعمل عملها داخل الأبطال الذين يسيرون إلى حتفهم، مدركين أن العالم الذي كانوا ينتسبون إليه قد انهار، وأن لا مكان لهم في العالم الذي ينبني على أنقاضه، رافضاً قبولهم بالمقدار الذي يرفضونه، فتكون النهاية محتومة كالقدر في التراجيديات اليونانية التي يتحرك فيها الأبطال حركة محكوماً عليها قبل أن تبدأ، وتنتهي دائماً بالموت الفاجع. وتنتسب إلى"رواية النهايات"هذه روايات من أمثال"الأفيال"التي كتبها فتحي غانم عن أبطال مأسويين، انتهى عالمهم، ولم يعد لهم حق الحضور في العالم الجديد الذي لم يكن من صنعهم، أو لعله كان كذلك على نحو غير مباشر، خصوصاً حين يبدو العالم الجديد شبيهاً بالجرم الذي أسهموا في صنعه، واعين أو غير واعين والنتيجة التي تشبه العقاب هي نبذهم منه، فلا يبقى لهم سوى أن يقوموا بما يشبه الطقس البدائي الذي تؤديه الأفيال حين تشعر باقتراب النهاية، فتمضي إلى مكان ناء، كي تموت مع أقرانها، تاركة عالم الحياة والأحياء الذي لم يعد لها مكان فيه. ولا تختلف عن رواية"الأفيال"للروائي المصري فتحي غانم رواية"وليمة لأعشاب البحر"للكاتب السوري حيدر حيدر وهي تنتهي النهاية نفسها لبطلها الذي بدأ مناضلاً ماركسياً في زمن البعث العراقي، وحمل السلاح مع رفاق له، في سبيل تحقيق الحلم الشيوعي وطن حر وشعب سعيد، ومر بسلسلة من التحديات التي واجهها بالسلاح، مقاتلاً عنيداً في سبيل تحقيق حلمه الثوري، ولكنه يقع في قبضة جنود صدام حسين، ويحتمل سنوات من التعذيب البشع الذي لا ينجيه منه سوى التبرّؤ، كتابة، من عقيدته الثورية، في سبيل أن يطلق سراحه، ويذهب فارّاً للعمل في الجزائر، ولكنه يواجه نماذج موازية من القمع والتمييز، فيغدو أضعف في مواجهة التحديات الجديدة، خصوصاً بعد أن نمت في داخله جرثومة الدمار التي أفسح لها مكاناً بإعلان براءته من معتقداته ويحاصره الفشل والإحباط من كل جانب، وفي كل مجال، فتكون النتيجة انتحاره، خلاصاً من يأسه الفردي، واحتجاجاً على عالم قمعي، تغدو الحياة فيه مستحيلة، لا خلاص من كابوسها سوى انتحار البطل بإلقاء نفسه في البحر من حافة تل بالغ الارتفاع، فيغدو"وليمة لأعشاب البحر". وما أسهل أن نجد روايات من نوع"الأفيال"أو"وليمة لأعشاب البحر"، فدورات الانحدار والهزائم التي يعانيها الروائي العربي لا تزال ممتدة، خصوصاً في لحظات انقلاب التاريخ العربي على نفسه، وخيانته ما وعد به من تحقيق أحلام تحوّلت إلى كوابيس، ما كان يمكن تصورها، أو تخيل الدمار الذي تلحقه بالأبطال الذين تحولوا إلى ضحايا لخيانة التاريخ، أو سقوط المعتقدات التي آمنوا بها وعاشوا من أجلها، فأصبحوا ضحايا لانحدارها كالمغيب الذي يحمل معنى النهاية على سبيل الحقيقة والمجاز والرمز على السواء. هذا الشعور المأسوي بالنهاية هو جوهر الرؤيا الإبداعية التي سيطرت على أعمال بهاء طاهر، شيئاً فشيئاً، منذ هزيمة 1967 التي أطاحت الأحلام القومية التي انطوى عليها، وأدخلته، منذ السبعينات، إلى جحيم عالم يزداد فسادًا، ونبذاً لكل من لا ينتسب إليه، أو كل من يحلم باستعادة العالم القديم، في نوع من الحلم المستحيل الذي سرعان ما يدرك الحالم استحالته، فتتخلق في داخله رؤيا النهاية التراجيدية، دافعة إياه إلى الحافة التي لا توجد بعدها سوى هوة سحيقة، هي هوة الموت التي يندفع إليها الأبطال التراجيديون، أياً كان سعيهم، فالنهاية محتومة كالموت الذي هو قرينها، أو الدمار الذي هو أحد لوازمها. وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن تنطوي رواية"واحة الغروب"على دلالات تتكامل بها مع الرواية السابقة عليها في الرؤيا نفسها. أعني رواية"الحب في المنفى"التي تتكامل وپ"واحة الغروب"، في سياق عالم واحد من الرؤيا التراجيدية التي لم يعد بهاء طاهر، وعدد من أبناء جيله، قادرين على الإفلات منها، لاعتبارات موضوعية في الواقع الذي يعيشونه، والذي نعيشه معهم، مدركين أن لا سبيل إلى التسامي على الرؤية المأسوية للنهاية سوى تجسيدها، في موازيات إبداعية، ستظل تحمل رجع الدلالة نفسها بكل تنويعاتها، سواء في الإشارة إلى انتهاء زمن، أو حلم جمعي، أو ذبول معتقد، أو صعود عوالم جديدة، لا مكان فيها للذين عاشوا العوالم القديمة التي كانت حبلهم السُّري الذي انقطع بفعل التغير السلبي الذي حمل معنى الكارثة، والنتيجة هى ازدياد هذا النوع من الروايات، ما لم تتغير الشروط الاجتماعية لفعل تولدها الإبداعي. ودليل ذلك، في حال بهاء طاهر، تكرار ما يشبه النغمة المفتاحية التي انبنت عليها روايته السابقة"الحب في المنفى". أقصد تلك النغمة التي يؤديها البطل عندما يقول"نشعر أننا شبحان من عصر مات. نعرف أن عبدالناصر لن يبعث من جديد، وأن عمال العالم لن يتحدوا". هذا الإحساس بالموت الذي يصحبه تحول الحلم إلى كابوس، والآمال الممكنة إلى واقع مستحيل، هو جوهر رؤيا النهاية الذي لا يفارق الشعور بالغربة والاغتراب، والتيه في مدار مغلق بلا بصيص من نور. وليست النغمة المتكررة الرجع في"واحة الغروب"بعيدة من هذا المدار المغلق، فهي من جنسه، وتتضافر وإياه في الدلالة المحتومة للنهاية، لا تختلف إلا في الظاهر الذي يجعل من"واحة الغروب"رواية تاريخية، تبدأ بعد هزيمة العرابيين، ونفي ضابط من المؤيدين لهم، محمود عزمي، إلى واحة سيوة التي تبدو نهاية للعالم، أو آخر الدنيا، عقاباً له وخلاصاً منه في آن، وهناك، في المنفى الإجباري، تتحرك الأحداث التي تستدعي تاريخ الإسكندر الأكبر الذي اكتسب صفات الألوهية من الإله أمون في معبده هناك، وتبعث ذاكرة الزوجة وعشقها للآثار الفرعونية شخصية الإسكندر الأكبر التي تغدو مرآة ورمزاً موازياً لصعود رؤيا عالم وانحدارها، رؤيا عالم تتوحد فيه الإنسانية، فلا يغدو فيه شرق أو غرب، بل عالم واحد لا يعرف التمييز بين الشعوب والأجناس ولكن حلم الإسكندر يموت كبقية الأحلام، في الرؤيا المأسوية، ابتداء من حلم الثورة العرابية وانتهاء بحلم البطل وزوجه كاترين وأختها فيونا، فنصل إلى النهاية التي تتلازم والموت، أو التي تحتم الموت بالقدر الذي يحتمها. ولكن على رغم هذا الاختلاف الظاهري بين الصفة التاريخية لرواية"واحة الغروب"والصفة الواقعية لرواية"الحب في المنفي"، فالصلة بينهما تُدني بعالميهما إلى حال من الاتحاد، فالواحة هي البديل الجغرافي للمنفى الأوروبي الذي عاش فيه بطل"الحب في المنفي", والزوجة الأجنبية التي عرفت معنى القمع - في"واحة الغروب"- هي الموازي للحبيبة الأوروبية التي عانت القمع وعرفته في"الحب في المنفي". ودلالة المنفى أكثر حدة في"واحة الغروب". تبدأ من دلالة التسمية التي يقرنها البطل بعبادة أمون في سيوة باعتباره إله الشمس الغاربة. وذلك بحسب ما يشرح لغريمه الشاب، وصفي، مؤكداً"أن الأفق الغربي عند المصريين هو مملكة أوزيريس، مملكة الموتى وأرض الحساب التي اعتقد المصريون بأنها في مكان ما في الصحراء الغربية. وبما أن سيوة هي أقصى الغرب من مصر فلعلهم اعتبروها أيضاً آخر محطة تغرب فيها الشمس عن الدنيا". ويعني ذلك، في رأي البطل، محمود، أن أمون أصبح إلهاً للموت، وفي الوقت نفسه علامة على ما انتهى إليه هو، سواء في علاقته بنفسه أو علاقته بزوجه، خصوصاً حين يقول:"انتهى هنا نهار علاقتنا إلى غروب في هذه المحطة الأخيرة إلى الأفق الغربي"وليست هذه الدلالة الزمانية سوى الوجه الآخر للدلالة المكانية التي قصدت إليها الزوجة، كاثرين، عندما قالت:"تفتت زواجنا مثل الرمال". هكذا، تتجاوب"واحة الغروب"وپ"الحب في المنفي"في معنى المنفى المصرح به في عنوان الرواية الثانية، والذي لا يفارق الإضمار في"واحة الغروب"التي تشير إشارة مباشرة إلى النهاية، خصوصاً بحضور دال"الغروب"الذي لا يؤذن بنهاية النهار فحسب، بل بنهاية الحياة نفسها، ومن ثم مجيء الظلام الذي يغدو مرادفاً للموت, وهي دلالة تتعامد فيها الإشارة المكانية على الإشارة الزمانية، فيتولد المجاز الذي يقرن"الغروب"بحضور النهاية المأسوية التي يقف البطل التراجيدي على حافتها، قبل أن يودِّع الحياة، أو العالم الذي يتبادل وإياه الرفض. وحين نُسقط دلالة الغروب على دلالة الواحة يتكشف لنا، في تجاوب السياقات، معنى العزلة التي تنطوي عليها دلالة الواحة التي تغدو مكاناً للتوحد، معزولاً ببحار الرمال التي تحيطه من كل جانب، فيغدو أشبه بالجزيرة التي تتقطع بها سبل العلاقة بالآخر أو الآخرين الذين كانوا سبب النفي الإجباري والعزلة المفروضة فرضاً على البطل، كأنها نوع من الخلاص الذي يتوهمه البطل، قبل أن ينقشع الوهم كما تنقشع أطياف السراب في الصحراء. وأتصور، عند هذا المستوى الدلالي في تجاوبات رؤيا النهاية، أن التاريخ الذي يعود إليه بهاء طاهر في"واحة الغروب"هو مرآة الواقع المحبط الذي وازته رمزياً"الحب في المنفى"، فانكسار الثورة العرابية، بسبب الخيانة، هو الموازب الرمزي - في"واحة الغروب"- لانكسار المشروع القومي، بسبب خيانة موازية - في"الحب في المنفى"- وحضور العلاقة بالآخر الشبيه لا النقيض، الآخر الذي يتمثل في الزوجة الإرلندية"كاثرين"هو المقابل للحبيبة الأوروبية في"الحب في المنفى"، وتتأكد الدلالة برديف لها. أعني اقتران الزوجة بأختها التي تضيف إلى حضور الغروب الآتي بالموت ما يؤكده حتى على مستوى الواقع، فينتهي البطل إلى حال من العجز الذي يؤدي إلى الكف بالمعنى الجنسي، سواء في علاقته بالزوجة أو الأخت التي تقع في دائرة الرغبة التي يحول دون تحققها الموت الذي تقود إليه حِدّة الاغتراب والتوحد في حضرة الواحد: الأنا التي لا تجد بصيصاً من ضوء أو أمل وهي الحال التي تزيدها تأكداً الحدِّية التي تنبني عليها هذه الأنا التي لا تقبل أنصاف الحلول، أو المهادنة، أو التغير الحربائي مع الشروط الخارجية، فإما أن يتحقق لها ما تريد من العالم بلا نقصان، وإما أن ترفضه وتغادره، صانعة نهايتها التراجيدية الخالصة. وليس هذا كله بعيداً من علاقات التوازي التي تزداد بها الأطراف المتشابهة وضوحاً أو علاقات التقابل التي يبرز معنى الضدية فيها تمايز كل طرف، فهناك الرفاق الذين باعوا ما آمنوا به، مثلما فعل طلعت الذي دفع ثمن نجاته بإدانة زميله محمود الذي لم تفارقه مرارة خيانة الصديق. وهناك سعيد الذي سكت، واتخذ من موقف الصمت والمراوغة طوق نجاة. وهناك وصفي المعاون الجديد، الشاب الذي لا يفارق أصوله الشركسية في إدانة العرابيين، والنظر إليهم بصفتهم خونة، ويكتسب بمكره ودّ"الأجواد"من سكان الواحة وأهلها، ويعمل على إزاحة محمود من منصبه بصفته مأمور الشرطة التي تتولى حراسة أمن الواحة وتحصيل الجزية. وأضف إلى الذين آذوا محمود، محمود نفسه الذي يزداد توحداً، وغوصاً في نفسه أكثر وأكثر كلما مضت الرواية. وهناك سكان الواحة الذين ازداد عداؤهم له، بعد أن أشعله هو من دون قصد، وزاده اشتعالاً وصفي الذي أصبح نوعاً من البطل الضد، بعد قدومه بقليل، وتحالفه مع صابر، أحد زعماء الواحة، ليزيح محمود من منصبه، كي يفرغ له المنصب، أو يتمكن سكان الواحة من قتله، إذا سنحت لهم الفرصة، فقد تمكنت من نفوسهم كراهيته، بعد أن أنزلوه منزلة السلطة التي تسومهم العذاب، وتأخذ خيرات أرضهم، وتقمعهم بوحشية إذا تمردوا. وهو وضع يزيد موقف محمود تأزماً، فيزداد إحساسه بالوحدة ولا يجد - في النهاية - سوى يحيى المغترب بدوره عن سكان الواحة، ولكن الاقتراب من يحيى يأتي متأخراً، بعد انطباق طوق اليأس على رقبة محمود الذي يفقد كل ملاذ، فلا تنفع معه محاولات الزوجة التي انقطعت علاقته بها، وأصبح يعيش معها كالغرباء، ولا تبعث فيه الأمل أخت الزوجة، فيونا، وكان حضورها الشاحب كزبالة الشمعة قبل انطفائها. وتكون النهاية وحدة كاملة تدفع إلى الجنون أو الانتحار. وليس من الغريب، والأمر كذلك، أن يسترجع محمود كل حياته، كما لو كان يريد أن يراها قبل النهاية، فيكتشف أنه عاش حياته من دون أن يحسم أي موقف، ابتداء من صباه في منزل تاجر ثري، وهب له جارية كانت واحة من البهجة، خصوصاً عندما كانت تقوم بدور شهرزاد، دافعة به إلى عالم لا ينتهي من الحكايات والرغبات، ولكنه يتخلى عنها من دون سبب مفهوم. وعندما يخسر والده التاجر كل ثروته نتيجة خديعة شريكه اليوناني، لا يفعل محمود شيئاً إيجابياً، إلى أن يجد له معارف أبيه وظيفة ضابط في الشرطة، وينجذب إلى العرابيين، ولكنه يظل بعيداً من الاستجابة التي تتحول إلى فعل تضحية. وعندما تأخذ الثورة العرابية مداها الأقصى وتحصد مدافع الأسطول البريطاني سكان الإسكندرية لا يحمل السلاح لقتال المعتدين، بل يختار أهون أشكال التعاطف، وهي الإسهام في نقل الجرحى ومطاردة البدو الذين أخذوا يغيرون على المدينة للنهب. وعندما تنتهي الحرب بانتصار الإنكليز ويناله عقاب التعاطف مع العرابيين، وليس الثورة معهم، يقبل ما حكم به عليه، ويظل يأتمر بأوامر أعدائه، ولا يقدم استقالته احتجاجاً كما فعل غيره بل يظل حريصاً على منصبه، متقبلاً الأوضاع التي فرضها عليه الغزاة من الأعداء، ويظل مطيعاً لأوامرهم مع أنه كان يمكن أن يترك الشرطة، ويذهب للعمل مع أخيه في الشام, وعندما تمنحه إحدى مصادفات عمله فرصة التعرف على زوجته فإنه لا يترك العنان لنفسه في علاقته بها، أو يمنحها حبه كاملاً، وإنما يظل على الأعراف، كما يفعل في كل موقف آخر. هكذا، تتداعى مواقفه الحياتية كلها على ذهنه في لحظاته الأخيرة التي يفجرها موت فيونا - أخت زوجته - التي أحبها من دون أمل، فيدرك إدراكاً نهائياً أن حياته قبض ريح، وأنه لم يجاوز شروط الضرورة في عالم معادٍ له، حتى سكان الواحة البؤساء الذين أراد الاقتراب منهم، لم ينل منهم سوى العداء الذي ألقى به في هوة اليأس السحيقة، مدركاً، على نحو كاشف، مباغت، أن لا قيمة لحياته، وأن من الخير له أن ينهي هذه الحياة بنفسه، فقد تأكد له، مع الغروب الحقيقي والمجازي، أنه كلما فتح صفحة من حياته وجدها أسوأ من التي سبقها. ولذلك، اندفع في طريقه إلى المعبد، ركضاً بالحصان وسط الحدائق، في ضوء النهار المتأخر، مردداً أنه لا شيء يصلح في هذه الدنيا الغلط إلا الغلط. ويرى أن الشمس القانية مالت نحو الغروب، فتتجلى له رؤيا النهاية التي يلخصها بقوله. "الآن يمكن أن أرى كل شيء، وأن أفهم كل ما فاتني".