العالم كما عرفناه على مدى الأربعين عامًا الماضية أصبح الآن في ذمة التاريخ. ذلك لأن العالم الآن أصبح يعاني أزمة في سلاسل التوريد وأزمة طلب وأزمة في سوق العمل وأزمة في أسعار النفط. لقد حدثت الكارثة الثانية التي ظل الناس يتوقعونها منذ فترة طويلة - ولكن مقارنة بتهديد فيروس كورونا، تبدو هذه الكارثة التي توقعها الناس رواية من الدرجة الثانية. فأسواق السندات والعملات تشهد المزيد من الانهيارات. أما احتمالات استمرار الجائحة - أو إلى أي مدى ستزداد سوءا - فمتروكة لخيال كل شخص. وبسبب هذا الفيروس نشهد الآن أحداثًا كان من المستحيل تصورها في السابق. فها نحن نرى وزير المالية، المنتمي إلى حزب المحافظين، يتعهد بتقديم مئات المليارات من الجنيهات لدعم العاملين - وهي مبالغ من شأنها أن يجعل حتى جون ماكدونيل، عضو مجلس النواب عن حزب العمال، يبتلع ريقه. وما زالت كاليفورنيا مغلقة وكذلك شبه القارة الهندية. وها نحن نرى فرنساوإيطاليا وإسبانيا تفرض قوانين حجر ما كان لشخص أي يتصور مثيلاً لها إلا خلال أوبئة العصور الوسطى. نحن الآن في خضم جائحة، ولكن ليس بالمستوى الذي نعهده خلال إعلان الحروب - حيث لم يحن ذلك بعد. ولكن في أثناء أوقات الفراغ الطويلة المتاحة لنا الآن، سواء في أثناء عزلاتنا الذاتية أو في أثناء وقوفنا في طوابير لشراء احتياجاتنا، قد يدور بخلدنا السؤال التالي: ما الكيفية التي نصنع بها تاريخنا الآن؟ هل ستحفظ ذاكرة التاريخ مارس 2020م بمثل ما حفظ أحداث الكساد العظيم الذي اجتاح العالم في عام 1929م، أو أحداث نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م، أو غيرها من الأحداث التي تسببت في هزات اقتصادية واجتماعية كبيرة في مختلف أنحاء العالم؟ فقد أدى الكساد الكبير إلى تبني روزفلت إعلان «الصفقة الجديدة»، الذي مهد لعصر «الحكومة الكبيرة» في الولاياتالمتحدة والانتصار في الحرب العالمية الثانية، الذي تمخضت عنه دولة الرفاهية الحديثة التي نادى بها كليمنت أتلي، رئيس الوزراء البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجسدها فيما أطلق عليه «الخدمة الصحية الوطنية»، عندما أمم حزب العمال بقيادته قطاعات كبيرة من الاقتصاد البريطاني. واستمرت هذه التغييرات حتى حلول عصر التحرير الاقتصادي في عهدي مارجريت تاتشر ورونالد ريغان، الذي مهد الطريق للعولمة والتدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال والخدمات وتجاوزها الحدود الوطنية للدول. وبفضل العولمة اندمجت الصين والهند في الاقتصاد العالمي وانتشل أكثر من مليار شخص من الفقر المدقع. وقد اعتمدت العولمة دائمًا على مفهوم القدرة على الاختيار من كل مكان وتمكين المستهلك من الحصول على أي شيء بمجرد طلبه، وأدت حرية التجارة والتنقل دون احتكاكات إلى توفر أحدث التقنيات واستيراد السلع الرخيصة من الصين، وقضاء العطلات الشاطئية في أي بلد بدلاً من قضائها في البلد الذي تقيم فيه. وبظهور فيروس كورونا يسدل الستار على عصر الحركة الفائقة، ويتعزز الجنوح نحو السيطرة والمراقبة، تمامًا مثلما غيرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر تفكيرنا بشأن الأمن على نحو جذري. وقد يصبح الفحص الصحي في المطارات روتينيًا، وقد تظل الحدود مغلقة، خاصة إذا ظهرت موجات أخرى من الجائحة. وقد لا تتخلى الشركات عن سلاسل التوريد العالمية، ولكن عصر «الأرخص هو الأفضل» قد انتهى. وخلال المراحل الحادة من الأزمة رأينا كيف أعلت الدول من شأن الاعتماد على الذات على حساب المصلحة الوطنية. فعندما طلبت إيطاليا الإمدادات الطبية العاجلة لم تستجب أي من دول الاتحاد الأوروبي لطلبها. كذلك حظرت ألمانيا في المراحل الأولى لتفشي الوباء تصدير الأقنعة الطبية وغيرها من معدات الحماية، وأعلنت فرنسا عزمها على إنتاج كافة أنواع أقنعة الوجه. واضطرت المفوضية الأوروبية للتدخل، معلنة إجراءات لتقييد صادرات المعدات الطبية. وقد مثل هذا شكلاً من أشكال التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي ولكن على حساب الدول الفقيرة التي تعتمد على وارداتها من دول الاتحاد الأوروبي. والآن تضغط «عصابة التسعة» - بما في ذلك فرنسا وإسبانيا وإيطاليا - لاتخاذ إجراءات لإصدار ما أسموه «سندات كورونا» بهدف دعم اقتصادياتها المترنحة، إضافة إلى إجراءات السيولة غير العادية التي اتخذها البنك المركزي الأوروبي. وبدون توقيع ألمانيا لن يكتب النجاح لأي مقترح للتشارك في الديون، ولكن ألمانيا، إذا فعلت ذلك، ستجازف باحتمال سقوط حكومة ميركل. ويعني ذلك كله أن تماسك منطقة اليورو أصبح على المحك مرة أخرى، حيث إيطاليا هي الحلقة الأضعف. وتركت الأسواق الناشئة في وضع مكشوف بشكل مخيف، حيث تتعرض البرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا، والدول النامية بصفة عامة، للضغوط بسبب هروب رؤوس الأموال إلى الخارج مع تزايد نفوذ الدولار وتراجع قيمة صادرات السلع وتطاير الأموال السهلة التي جمعتها في العقد الماضي. وسيتعين على هذه الدول أن تذهب خاضعة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على السيولة الدولارية أو أن تتجه لفتح خطوط مقايضة آمنة مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وتتطلب الحنكة السياسية والاقتصادية الاعتراف بأهمية المصالح والإجراءات المشتركة لتحفيز الانتعاش. وإذا صح اعتبار الماضي نموذجًا فستتولى الولاياتالمتحدة زمام المبادرة، بيد أن شعار «أمريكا أولاً»، الذي ينادي به دونالد ترامب، يعني أن الولاياتالمتحدة، حامي نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت دولة مفترسة تستهدف حلفاءها، وأنها تسير في اتجاه الحمائية. ويرفض ترامب، الذي يبحث عن إعادة انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، الاستفادة من دروس التعاون الدولي المستقاة من الأزمة المالية العالمية، ولا يزال يعد فيروس كورونا نبتًا صينيًا. ومن جانبها تناور الصين، في تجاوبها مع تأثيرات الوباء، لسلب دور القيادة من الولاياتالمتحدة، بتقديم أطنان من المساعدات العينية والطبية للعديد من البلدان، بما في ذلك الولاياتالمتحدة. ولا تسعى الصين من وراء ذلك إلى صنع التاريخ، بل لإعادة كتابته. فالفيروس انطلق أصلاً من ووهان، كما أن دور بكين في حدوث الجائحة لا يزال محل نظر، ومن المستحيل بمكان أن تفلح «دبلوماسية الأقنعة» التي تنتهجها الصين في إثبات أن بكين راغبة في تحمل أعباء ومسؤوليات المشاركة في إدارة نظام ما بعد الحرب، أو قادرة على ذلك. وقد يتيح سقوط ترامب في نوفمبر للولايات المتحدة الفرصة لتبني نهج متعدد التوجهات، ولكن حتى إذا تم ذلك، فإن القوى الكبرى لا تزال تعمل على جر العالم بعيدًا عن العولمة. لنأخذ بلقنة الإنترنت على سبيل المثال. فقد نجحت الصين في تأكيد سيادتها ورقابتها على الإنترنت من وراء ما أسمته «الجدار الناري العظيم»، ومن شأن نظام تسمية النطاقات الذي أنشأته روسيا تمكين موسكو من تقييد الوصول إلى المواقع الإلكترونية الأجنبية وخدمات مواقع مثل فيسبوك وجوجل. وسيجبر فيروس كورونا الحكومات على إعادة تعريف ما تعتبره «مصالح حاسمة»، مثل التكنولوجيا وغيرها من المنتجات المتقدمة. فما التأثير الذي يمكن أن تتركه الجائحة على اقتصاد متقدم مثل اقتصاد بريطانيا؟ الجواب على هذا التساؤل يتغير من أسبوع لأسبوع. فإذا انهار الطلب أكثر، سيتعين على الدولة بالتأكيد تقديم الدعم للشركات والقوى العاملة، وستطلب الشركات الكبرى معاملة خاصة. فهم يستحقون الدعم، ولكن هذا الاستحقاق لن يكون مبررًا إذا استمروا في توزيع الأرباح على المساهمين. فعلى سبيل المثال، دفعت «إيزي جت 60» مليون جنيه استرليني إلى مؤسس الشركة ستيليوس حاجي-إيوانو وعائلته، لكنه يقول إنه ليس لديه خطط لطلب الدعم من الدولة في الوقت الحالي. وتتعرض الشركات الصغيرة والمتوسطة للخطر مع حلول أزمة كورونا بسبب تغير نظرة المخدمين فيما يتعلق بمفهوم «العامل المهم» واتساع الفجوة بين أهمية العمال ورواتبهم. ومع تطور المعركة ضد فيروس كورونا، سيكون هناك العديد من الخاسرين، وفائز واحد كبير واحد هو التكنولوجيا. فالفيروس لن يوقف مسيرة الذكاء الاصطناعي، بل قد تسرع من وتيرته، وستكون التكنولوجيا سلاحًا لا غنى عنه في مكافحة الأوبئة في المستقبل. وقد كانت الدول الآسيوية، التي عانت من وباء سارس في عام 2003م، أفضل بكثير في استجابتها لتداعيات أزمة كورونا، حيث تبنت كوريا الجنوبية وتايوان تقنية فحص سريعة للفيروس أخجلت الأوروبيين. وفي سنغافورة، التي يقل عدد سكانها عن ستة ملايين نسمة، أطلقت السلطات تطبيقًا يستخدم البلوتوث لتسجيل المسافة بين المستخدمين وفترات لقاءاتهم. ويعطي المواطنون المعلومات عن الوباء لوزارة الصحة برضا تام، حيث يتم تشفيرها وحذفها لاحقًا. وبمجرد أن يستقر الغبار، يجب أن يتعلم الأوروبيون من آسيا كيفية بناء درع أفضل ضد أي وباء قد يتعرضون له في المستقبل. والتكنولوجيا ليست طريق اتجاه واحد نحو عالم الواقع المرير الذي كتب عنه أورويل. فهي ستستمر في تمكين المستهلك. ومن شأن التعلم الافتراضي والبث الفيديوي المباشر والتسليم عبر الإنترنت تغيير تصوراتنا حول التعليم والترفيه وتناول الطعام. ففي بريطانيا ظل الطلاب يدفعون 9000 جنيه استرليني سنويًا مقابل الرسوم الجامعية - ولكنهم عندما أُبلغوا، مع حلول أزمة كورونا، أنه بإمكانهم الاستغناء عن المحاضرات بمشاهدة مقاطع الفيديو في المنزل - بدؤوا يتساءلون عن جدوى ما يحصلون عليه مقابل ما يدفعونه من مال (كانوا في الماضي يطرحون هذا التساؤل ولكن لم يكن هناك من يستمع لهم). كذلك من شأن تجربة «التعلم عن بعد»، التي اضطر إليها الطلاب بسبب الوباء، أن يفتح العقول. دعونا نفكر فيما حدث الآن. فإذا كان الحصول على المعلومات يمكن أن يتم ببثها مباشرة من أفضل المدارس الحكومية، وكذلك من المدارس الخاصة، فهل هناك مبرر لعدم إتاحتها للمزيد من الطلاب والمعلمين الراغبين في ذلك؟ لقد ساوى فيروس كورونا بين الجميع وبسببه لم يعد للحكمة جدوى، بيد أن الأزمات تتيح الفرص أيضا. لذلك يجب على العقلاء من رؤساء الدول التخطيط للمستقبل. ففي عامي 1942م و1943م، مع تحول كفة الحرب ضد ألمانيا النازية لصالح الحلفاء، وجه روزفلت وتشرتشل وستالين أنظارهم بعيدا، وبدفع من موظفين موهوبين من أمثال كينز وغيرهم، فكر هؤلاء القادة في مستقبل أوروبا، وفي توازن القوى ومؤسسات عالم ما بعد الحرب. نحن المواطنين أيضًا يجب أن نفكر في أدوارنا ومسؤولياتنا، بالرغم من أننا جميعًا متفقون الآن على أن كل ما يهم الآن هو البقاء على قيد الحياة. ** ** ** * ليونيل باربر صحفي بريطاني تولى رئاسة تحرير صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية بين عامي 2005م و2020م، وخلال هذه الفترة أجرى العديد من اللقاءات الصحفية مع شخصيات مثل باراك أوباما وفلاديمير بوتين وإنجيلا ميركل ودافيد كاميرون.