مضت سحابة أجيالاً، وهم يعزون سبب نجاحهم في سيرهم - أياً كان توصيف هذا النجاح ومعياره - إلى «نضال وسعي الأنا» في زمن كانت أيدلوجياته السائدة قائمة على ثلاث:- ترويض السلطة العقلية الغالبة، والإدارة الجازمة، ومفاهيم صارمة كالاعتقاد بأن النضال الدؤوب، هو الطريق للوصول. تجسدت تلك السلطة في الإرادة الصارمة، والقرار المتفرد الحازم، مع تغييب لحاجة النزعة الفردية لدى «الأنا» للتعبير والاعتراض، أو حتى الترفيه، من خلال الخضوع التام للعقل الجمعي، والنقد العُرفي، والإذعان للسلطة الفكرية الغالبة، والإفراط في الحيطة والاحتراز، بالاستناد على قاعدة سد الذرائع، مع توظيف نصوص الشرع لصالح قراراته، تارة، ولمنافع تصب باتجاه تقاطع المصالح الاقتصادية والأيدولوجيات السياسية تارات أخر، في هذه الحقبة التي امتدت لعقود، الاستقرار بدا واضحاً، في حين كان الحراك رتيباً، والتغير بطيئاً، بالمقارنة مع المرحلة اللاحقة. فيها برز بقوة مركزية النخب، وصفوف الألمعيين، وعلو مقام أصحاب السلطة إلى جانب المفكرين والمنظرين الأمر الذي شعر معه عموم الجمهور باستحالة التساوي معهم، فضلاً عن الالتفاف الشعبوي حول الدعاة إلى الدين، وقصاصي ووعاظ الدعوة الملحة إلى التوحيد والفضيلة معاً، كانت تلكم النجوم قد ركبت لتلمع في سماء المجتمع آنذاك، لانتهاج نهج تفكيرهم المركب، وسلم ترقياتهم الشاق، وسمتهم المتميز مع نمط حياتهم المحدود، ذو الخيارات التي يمكن عدها. تيار وإن بدا مستقراً ومعتدلاً، إلا أنه حمل في طياته قطيعة للفكر الحر، وللخطاب المخالف، ولو كان فيما يمكنه الإعذار وتسعه المساحة الاجتهادية. فضلاً عن إدانة لعلوم الفلسفة والمنطق والكلام، مع التقليل من دور الجانب النفسي والشعوري؛ إذ توظيفه يقتصر على الخطاب العاطفي التعبوي والتحذيري، أو إدمان لهجة التأنيب وبث الشعور المستمر بالخوف من التقصير. وبعد مضي تلك الحقبة، عزفت الأبواق إيذاناً بمرحلة جديدة أُستعير لها مصطلح «جيل الثورة التقنية»، غلب فيها على أجيال تلك المرحلة البحث عن هويته من خلال «الكينونة الفردية» والمتمثلة في نمط استهلاكي جديد وغير معهود في العقود السابقة دعمه المساحة التي بسطها الإعلام التقني من الوفرة في: المعلومة، النبأ، الرفاهية والمتعة والدعابة والتسلية والموسيقى، السياحة، أنواع الزينة، الرياضة، المشاهير، الثقافات العالمية، التواصل الاجتماعي، هذا فضلاً عن ما سمح له به من الحرية التعبيرية سواء فكرية، كلامية، جدلية، وفلسفية، أو حتى الحرية في الإدلاء بكلام سقط لا معنى له. وفي حين ذهب فريق المرحلة السابقة، إلى تفسير الوضع الجديد بما يتفق مع أبعاد قاعدتهم الفكرية، واختيار الوضع الآمن القائم على مبدأ الثبات، ولكن طالما أن الأرض من تحت قدميه تنساح وتتحرك باتجاه التيار العصري والعاصف معاً، فقد لا يملك حينها إلا الانتقال إلى محاولات الحفاظ على اتزانه وما تبقى من إرثه تارة ومجاراة التيار المتصاعد تارات!. هذه الرجة الكونية، طال اهتزازها الجانب الفكري، النفسي، فاضطلع جموع إلى نهج الشك وإثارة التساؤل كطرح أسئلة تتعلق بالهوية الشخصية، وتتصل بمعانٍ وجودية لم تكن لتشغل بالهم بهذا القدر من قبل، وقد رافق عملية البحث هذه ما اعترف به عدد ليس بقليل وهو إحساس متكرر يراوده ويشعر معه بالضياع، وبقدر من الخيبة، إذ كل ما قضى حياته يناضل في سبيله لم يكن مستحقاً لهذا القدر من الاهتمام. وكأنهم قضوا جل حياتهم يتابعون بحماسة مجرد خيالات دمى كما حكى أفلاطون في أسطورة كهفه. وكذلك فإنه مع انبثاق عصر الثورة التقنية، أنتج أجيالاً متطلعة، أكثر شخصنة، ووعي بحقوقها، فضلاً عن امتلاكها مقومات الجرأة والانفتاح، ضربت بالأنظمة التقليدية عرض الحائط. الأمر الذي عزز لدى عدد من الأجيال التقليدية الشعور بضرورة مراجعة حالهم. ولأن مواساة بسطحية: جيل الطيبين، لم تعد كافية لإقناعهم بالقبول، ولذا فقد تمت محاكمة نفسية - عقلية للجهة المركزية، باعتبارها قد مارست نحوهم الاضطهاد، تحت اسم الانضباط، والخضوع للواقع بحجة قدسية المراجع. ذهبت «الأنا القيمية» لدى جيل المرحلة الجديدة إلى التطرف في التداول الإعلامي والتراشق الكلامي، لقيم شعورية كالحب والسلام والقبول، الامتنان، والتسامح والغفران والوفرة، الحضور والبهجة والمتعة والبهاء، اليسر والفردية والتقدير الذاتي، هي أو بعضها إن أدرجت كقيم إلا أن منشؤها ومضختها هي تعزيز الشخصنة وتأكيد الفردانية. وإن كنا لا نشك أن عدداً منها يدرج كقيم عالمية، كونية، فاعلة ومؤثرة، اتفقت عليها الأديان السماوية والوضعية معاً. وشهد بنفعها الأنبياء والفلاسفة والحكماء والأطباء، وبالتجربة ثبت لدى أعداد من البشر تأثيرها، في خلق حياة هانئة وكذلك للتشافي من حالات البؤس والقلق والتوتر وغير ذلك من الأمراض البدنية. ومع عنصر السرعة التقنية في النقل، فقد أدار «الأنا» الساخر ظهره لمرشحات لغة الخطاب الرسمي، الذي كان ينتقي بدقة كلماته، ويوشحها بالرزان والوقار، فجاء الخطاب مكشوفًا، مباشرًا للجماهير يكشف عن وجه التهكم اللاذع، والتعبير الفض، واللغة الخشنة، لا يعبأ صاحبها وإن عُرف بها، ولا يهدد ذلك هالته، أو يخدش صورته. طال الاعتراض قناعات ومفاهيم وأفكار راجت زمناً؛ فلا شيء يبعث على الحذر والحيطة، لا مؤامرة، لا مقاومة، لا تخطيط، لا عدو حقيقي متربص، لا لفتاوى محدودية الفرص للمرأة، ولا لأحكام لا أصل شرعي لها، غالت في تمكين الذكر، ولا لفتاوى القرار، وملازمة الخدر، وكراهة التسلية، وانتقاص المرؤة وتحريم المعازف. الاعتراض لدى «الأنا» لم يقتصر على إسقاط النماذج المثالية التي مجدها «الأنا العقل المفكر» سابقاً كجهات خضعت لها الجماهير زمناً، حتى تم استبدالها بأخرى جوفاء، أو ضعيفة الفحوى، تعتمد على الصورة والإغراء، قوتها مستمدة من جهة خارجية تتمثل في الشهرة، وذيوع الصيت، والتأثير على الأتباع، ولذا فقد تقاطعت منافعها مع المصالح التجارية. وأمام مشهد «الأنا اللامبالي» بالنقد الجمعي، فقد تعمد عدد من الأفراد إلى الظهور بصورة تشكل انتهاكاً خادشاً للذوق الاجتماعي فضلاً عن الحس الإيماني، كتعبير عن حالة من التمرد، والتحدي القيمي، وإعلان سافر للاستقلالية، ولغرض تأكيد الذات. صاحب ذلك دعوات متنامية لالتهام كل أنواع المتع، وتجريب كل وسائل الترفيه والراحة، وخوض التجارب والمغامرات، وممارسة حالة الأنانية حتى الإدمان. فضلاً عن مسلسل التجريب والانغماس تلك التي يمارسها «الأنا الحر» اليوم، هو لا يعترف بالخصوصية وقد طرح من منظومته القدسية المجتمعية، وحل محلها الحرية الفردية، ساعده في ذلك اختراق التقنية لحياته الخاصة واعتبار كل شيء لديه مباحاً ومكشوفاً. لا يختلف اثنان أن للإعلام التقني الدور الأساس في انتشار الوعي بالمظهر، والجسد، والصحة، لدى «الأنا وآلة الروح» وقد اتخذ أشكالاً كثيرة لم تعرف من قبل بدءاً من الترويج لمساحيق وعمليات النحت والتجميل، مروراً بالالتحاق المتزايد بمراكز التغذية الصحية، والعضوية، وإنعاش أنظمة التغذية اليابانية القديمة كالكوشي والماكروبيوتك، والإقبال المتزايد على الأنشطة الرياضية المتكاثرة، أو حتى بمجرد الالتفات وتوجيه الانتباه نحو إشارات الجسد من خلال رياضة الصمت والتأمل واليوغا، وهذا كله لم يكن مطروحاً من قبل. وكذلك للتواصل التقني دور في دفع التيار بقوة باتجاه دعوات «الأنا» المسالم للتعايش مع الثقافات المتصادمة، والاعتراف بالممارسات المتناقضة، ولو كان هذا الادعاء رخواً أو طافياً؛ كما هي بين النزعة الاستقلالية الفردية والقيم الأسرية والمجتمعية، وما بين علوم الفلسفة الجدلية، الفيزياء وعلوم الميتافيزيقيا، الجدية والترفيه، الترشيد والاستهلاك، التكنلوجيا والإيكلوجيا، إذ لا مقاومة ولا تفاضل ولا تدافع ولا إقصاء لأي منهما. وعلى الرغم من قوة تحكم التواصل التقني في الدفع بشأن السماح بالتعبير اللفظي وتعزيز قيمة حرية التعبير، إلا أن أعداداً كبيرة من الناس انصرفت عنوة عن الاهتمامات السياسية والحوارات الاقتصادية، - وهذا لا يبدو يسير في صالح البرامج الأخبارية عبر وسائل الإعلام التقليدية الشهيرة. تسير «الأنا العاطفية» باتجاه خيارات كثيرة مطروحة، فهي في الغالب تنصرف نحو لغة شعورية وغير منطوقة، منها الالتفات صوب الفن والموسيقى والرسم، والنحت والموسيقى، مجموع هذا كله يشرعن تحت مفهوم الثقافة، بعد أن كانت الثقافة لزمن قاصرة على التعبير العقلي، أي بالكلمة الظاهرة وحدها. ساندت التقنية دعاة حماية البيئة فأسهمت في لفت اهتمام هذا الجيل ليشمل التفاعل المحترم مع البيئة والتواصل الواعي مع الكون، كتعبير عن الرغبة في العيش بسلام وسط المساحات الخضراء لرسم مشهد أخاذ لتناغم «الأنا الكوني». وعلى الرغم من كون وسائل التواصل تدعم إلى حد بعيد التجمعات وتوثيق الصلات، عبر مواقعها وتطبيقاتها المتعددة والمتاحة، إلا أن «الأنا الفردية» تظهر في أقوى صورها حين يؤثر اختيار النظير وفقاً للتشابه في الأهداف، والتقارب في الاهتمامات مع التخفف من تحمل أداء تكاليف الحقوق المتبادلة إلا من إطلاق هشتاقات تعزية ورثاء. والتجمعات السحابية أيضاً تصب في خدمة كل ما يمس ذات الفرد، عبر «هشتاقات» المصالح المصغرة، كالمطالبات بالحقوق، أو مجرد احتجاجات محتدة، تجاه مشكلات عارضة، وحوادث عابرة، تجمعات افتراضية تبلغ الترند ثم لا تلبث أن تتبخر وتتلاشى. تقدم محركات البحث المعلومة الفورية المترجمة والجاهزة لتلبية لهفة الأغلبية الباحثة عن اللذة والبعد عن الألم؛ ولذا فإن «الأنا الباحثة» تتجه صوب الإغراق في تجميع المعلومات حول الذات والماورائيات سواء أكان بتجريب الاستبطان للنفس، أو بمحاولة القيام بالاستبصار لتجليات الروح، أو عبر القيام بطقوس كشفية لما وراء المادة، ومعرفة القدرات الخارقة، والرموز الغامضة التي تمكنه من إذابة العوائق التي تقف في طريقه نحو الحرية والتجربة والمتعة معاً، وهذا ما أعاد للواجهة الثقافات الشرقية، والأسرار الكشفية، والذوقيات الصوفية. الإيقاع السريع للزمن، أسبغ على هذه «الأنا» لدى الأجيال المتاخمة له، سمة العجلة وسرعة نفاد الصبر، واشتهاء التهام «الوجبات السريعة» للمال والنجاح ووصفات الحب والسعادة؛ فهم يريدون من دنياهم جنة حاضرة. إن حالة اللااكتفاء تلاحق «الأنا» اليوم، وهو بدوره يلاحق رغباته، وشغفه وتطلعاته، ربما لأنه خُلق باحثاً عن جوهره. معالم هوية «الأنا» اليوم لا تعني «الوعي» بالضرورة، ومن السابق لأوانها أن توصف ب»الصحوة الفردية»، وأظنه من المبالغة أن يطلق على زمنها «عصر الحكمة». وهذه الإثارة وحالة اللااستقرار التي تديرها قوى إعلام تقنية مرئية، في الظاهر، تقف من وراء حبكتها قوى لا مرئية.