بعد عقد على انطلاقته، أثبت "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" أنّه مؤسسة راسخة، قادرة على تحديد مسار المسرح المصري ودفعه إلى مزيد من المراهنات الجريئة باسم الابتكار والتجاوز. الدورة العاشرة كانت حافلة بالمواعيد الممتعة، وسلّطت الضوء على أوضاع المسرح العربي وقضاياه الراهنة. والزمن الذي كان الضيوف يشكون فيه من شحّ الانتاج المحلّي الجاد، بات بعيداً. فالقاهرة اليوم بؤرة خصبة بالتجارب والأسماء والمحاولات والتساؤلات، كما نكتشف من خلال هذه الجولة على كواليس المهرجان وقاعاته. لم يتمكّن آرثر ميلر من المجيء إلى القاهرة تلبية لدعوة مهرجانها الدولي للمسرح التجريبي. فالكاتب والمؤلّف المسرحي الأميركي الشهير، بقي أسير برودواي التي تعرض مسرحيّته الجديدة "علاقات مستر بيتر". لكنّه وجّه إلى فنّاني مصر وجمهورها وضيوفها رسالة، بالصوت والصورة، حيّا فيها هذا المهرجان الذي يُعتبر من أبرز مواعيد المسرح في العالم العربي، وربّما في العالم الثالث. بثّت هذه التحيّة في حفلة الافتتاح التي حضرها وزير الثقافة المصري فاروق حسني، محاطاً بفوزي فهمي رئيس المهرجان، والمايسترو مصطفى ناجي وجابر عصفور وسمير غريب وسمير سرحان، وحشد من المثقّفين والمبدعين. صاحب "موت بائع متجوّل" الذي أكّد أهميّة التجريب والبحث في المسرح، قد لا يعرف تماماً أن "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" عنوان مغامرة فريدة من نوعها. بدأ حلماً نزقاً لم يبقَ أحد إلا انتقده، ثم ترسّخ شيئاً فشيئاً، كفسحة حريّة راحت تعيد خلق جمهور مسرحي، وفرز جيل جديد من المبدعين والنقّاد. في دوراته الأولى، لم يكن المهرجان قادراً على تقديم عمل مصري واحد تمكن مواصلته حتّى النهاية. فغول المسرح الاستهلاكي كان قضى على مخيّلة الفنّانين، وانتهك ذوق المشاهدين. ومحاولات التجاوز القليلة، كانت ترزح تحت عبء الأيديولوجيا، أو تشكو من آفة المجّانيّة وعدم النضج في التعاطي مع القوالب والأساليب الطليعيّة. لكن ادارة المهرجان أصرّت على رهانها، وواصلت مشروعها بتشجيع من وزير الثقافة. وبعناد ومنهجيّة وبُعد نظر خاضت رحلة طويلة النفس. إستقدمت التجارب الطليعيّة من العالم أجمع، صالحت النخبة مع تقاليد المشاهدة، حرّضتها على اعادة النظر بثوابتها وحرّضت الجمهور على استعادة حواسه. وعاماً بعد آخر بدأت النتيجة تظهر للعين المجرّدة. دارت نقاشات، وتبلورت مشاغل، وبرزت محاولات ومحاولات معاكسة، وكان المسرح الطليعي الآتي من بعض الأقطار العربيّة تونس أساساً مرآة أخرى للمساءلة والبحث عن الذات. وها نحن اليوم، و"التجريبي" يحتفل بدورته العاشرة، أمام حركة مسرحيّة لم تعد تفتقر إلى الزخم الابداعي والتجارب والأسماء. ها نحن أمام أعمال مسرحيّة عدّة من مصر، قد تكون قابلة للنقاش والنقد، لكنّها تعكس نضجاً تقنياً وجماليّاً وفكريّاً، وتقدّم للمشاهد رصيداً أكيداً من المتعة الذهنيّة والحسيّة، وتشهد على خصوبة ابداعيّة متعددة الأصوات والملامح، وتحتضن رغبة جيلين على الأقلّ في التجاوز، والخروج من الحلقة المفرغة، والتأسيس لمسرح عربي ناضج وحديث. ذكرى الحكيم وتمايز الثقافات نشرة المهرجان التي يشرف عليها سمير غريب، باتت مطبوعة محترفة، حافلة بالمعلومات والمقالات الشيّقة، وقادرة على اثارة السجال والتعريف بالتجارب ومتابعة العروض وترصّد الظواهر، ما يشكّل دليلاً للمشاهد يضاهي في مهنيّته أي دوريّة يصدرها مهرجان عالمي للمسرح. وعندما تلتقي فوزي فهمي، يبدأ بالكلام عن اصدارات المهرجان التي تجاوزت المئة عنوان، كأنّه ينقل إليك أخبار أهله وحياته الحميمة. هذه المكتبة المرجعيّة باتت تضم نصوصاً نظريّة وابداعيّة منقولة عن لغات عدّة، وتمثّل أبرز التجارب والطروحات والأسماء في المسرح العالمي. بين اصدارات هذا العام نشير إلى كتاب لعالم اجتماع المسرح جان دو فينيو، وآخر عن المعلّم الايطالي جورجيو شترلر، وثالث لديدرو مفارقات حول فنّ الممثّل... وكعادته كرّم المهرجان نخبة من النقّاد والمسرحيين، بينهم نور الشريف وميراي معلوف وممدوح عدوان. أما الندوات النظريّة، فتبدّلت هي الأخرى مع مرور الزمن. لم تعد "مَكْلمات" - حسب تعبير أحد النقّاد - تحشد عشرات المشاركين الذين لا همّ لهم سوى تفريغ ذواتهم المكبوتة من على المنصّة، بل باتت تحتضن حواراً حقيقياً بين متخصصين ومبدعين ومشاهدين من آفاق شتّى. هذا العام كان محور الندوة الرئيسيّة "التجريب وتمايز الثقافات". وطرحت فيها وجهات نظر جريئة، وناضجة، مثل مساهمة نهاد صليحة مصر التي ركّزت على التعددية الثقافيّة، فاعتبرت الباحثة والناقدة المعروفة أن الثقافة الرسميّة مجموعة فرضيّات ايديولوجيّة قائمة على الكبت والتحكّم بالأفراد، فيما التجريب يغرف من معين الثقافات الهامشيّة لأنّه ثورة على المواصفات السائدة وخروج على القوالب المكرّسة. نشير أيضاً إلى مشاركة قاسم محمد العراق، بول شاوول لبنان، إدوار الخراط مصر، محمد المديوني تونس، ويوسف الحمدان البحرين أحد شركاء تجربة "مسرح الصواري" الجديرة بالاهتمام. توقّف الحمدان عند المؤسسة كعائق، ودعا إلى القطيعة معها وتأسيس وعي مسرحي مخالف للسائد. كما حذّر من المحاولات السطحيّة العاجزة عن التأسيس والتي لا تعكس هويّة بل مجرّد تجارب طارئة، "تنظر إلى التجريب كأنّه مجرّد تغيير للأمكنة، أو خروج على شكل "العلبة الايطاليّة"". وخصّ المهرجان توفيق الحكيم بندوة في مئويّته، تناولت علاقة صاحب "أهل الكهف" و"قالبنا المسرحي" بالتجريب. شارك في هذه الندوة المستعرب المعروف دومينيك شوفالييه فرنسا، وسمير سرحان مصر، وعزّ الدين المدني تونس، ومحمد دكروب لبنان، وسعد أردش مصر... في عامه العاشر، يبدو "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" محطّة أساسيّة في مسار الحركة المسرحيّة العربيّة على اختلاف مدارسها واتجاهاتها. فالخلافات البيزنطيّة حول مفهوم التجريب خفتت مع الوقت، وسيل البديهيّات التي كانت تطالعنا فوق شتّى المنابر شحّ أخيراً. بقيت الساحة شاغرة للمنشغلين حقّاً بماهية التجريب وطبيعته. وتواضع أهل الخشبة على اعتبار المهرجان فرصة للبحث في احتمالات تجديد المسرح العربي وامكاناته، وانتشاله من سباته العميق، بغضّ النظر عن مفهوم "التجريب" الضيّق. هكذا تجاورت ضمن برنامج هذا العام، من دون حرج يُذكر، أعمال "تقليديّة" وأخرى قائمة على الهمّ التجريبي. المسرحيّات الأجنبيّة راعت في معظمها الهمّ التجريبي، أما العروض العربيّة والمصريّة، فتفاوتت في مشاغلها وأدواتها التعبيريّة، وطغت الأدوات التراثيّة والاحتفاليّة حتّى على أكثر الأعمال اختباريّة. مشاركة "الورشة" وغياب بن عمّار من مفاجآت هذه الدورة مشاركة "مسرح الورشة" في المسابقة الرسميّة بمسرحيّة "غزل الأعمار"، بعدما اختار الجريتلي ورفاقه تطوير تجربتهم، طوال سنوات، على هامش المؤسسة. وواجه المسرحي المصري الشاب أحمد العطّار بعض المشاكل مع الرقابة، فما كان منه إلا أن دعا الجمهور والنقّاد إلى منزله في ميدان طلعت حرب، حيث قدّم مسرحيّة "اللجنة"، وهي من تأليفه واخراجه. وجرى الهمس في الكواليس عن متاعب أخرى واجهها ناصر عبد المنعم في تقديم مسرحيّة سامح مهران "المراكبي"، لكنّها وجدت طريقها إلى الجمهور مثل عرضه الآخر المأخوذ عن رواية معروفة لبهاء طاهر. وكانت المشاركة اللبنانيّة في المسابقة الرسميّة مدار نزاعات عبثيّة. فبعدما وقع خيار لجنة الاختيار الدوليّة على "حصرمة" تأليف واخراج سمير عوّاد لهذا الغرض، تقرّر بشكل مفاجئ أن تستبدل بها مسرحيّة أخرى لمشهور مصطفى عنوانها "حدود قانا". وقيل إن جهة رسميّة تدخّلت لدى ادارة المهرجان، بعدما استنجد مصطفى من القاهرة بعلاقاته النافذة في بيروت. وإذا صحّت الرواية، نكون أمام حالة نموذجيّة تختصر الحياة الثقافيّة الراهنة في بيروت، مع العلم أن العملين متساويان لجهة المستوى الفنّي المتواضع، ولجهة الاستناد إلى خطاب سياسي لا يخلو من الديماغوجيّة: ناجي العلي ومجزرة قانا. وأصيب الجمهور بخيبة أمل عندما اكتشف غياب رجاء بن عمّار التي أعلن في البرنامج عن مشاركتها ب "فاوست". فهذه الفنّانة التونسيّة كوّنت على مرّ السنوات جمهورها الخاص في القاهرة، ولم يكفِ حضور مواطنها توفيق الجبالي لسدّ فراغ غيابها. فهل السبب سياسة تقشّف جديدة تنتهجها وزارة الثقافة التونسيّة، رافضةً تحمّل أعباء سفر فرقتين إلى المهرجان نفسه؟ وهل فات أصحاب القرار، وهم أهل ثقافة، أن تصدير الانتاج المسرحي يخدم مصالح الدولة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة؟ العروض العربيّة في التجريبي كانت هذا العام غزيرة ومتفاوتة المستوى. من "البروفة الأخيرة" تأليف فهد الحارثي واخراج أحمد محمد الأحمري السعوديّة، إلى "مرثيّة وحش" تأليف محمد بن سيف الرحبي واخراج عبدالكريم بن علي بن جواد عُمان، مروراً بعروض اليمن: "البوفيه" المأخوذ عن نصّ لعلي سالم يدور في أجواء هزيمة 67 من اخراج هويد الطاهري، والكويت: "الدوامة" تأليف عبدالله الرويشد واخراج جهاد العطّار، وقطر: "حكاية شهرزاد" من تأليف واخراج سعد بورشيد... وبين العروض المصريّة الكثيرة عمل هناء عبد الفتاح "مشاحنات"، و"الحرملك" لماهر صبري فرقة المرايا، انتاج صندوق التنمية الثقافيّة. كما كان لألفريد فرج حضوره من خلال "دائرة الوهم" دينا أمين، ومن جديد قدّمت مسرحيّة يونسكو "الكراسي" محمد دسوقي، وقدّم خالد جلال في "بيت الهرّاوي" التاريخي قراءة لمسرحيّة لوركا "بيت برنارندا ألبا" التي أصبحت "بنات جليلة". وفي بيت الهراوي أيضاً صمّم هاني غانم رؤيته الهاذية بعنوان "جنون الآلهة". حوارات المنفى ومسرح القسوة فرقة "عشتار" الفلسطينيّة أثارت الاهتمام بمسرحيّة "شي يزهّق" التي اقتبسها وليد أبو بكر عن "محاورات منفيين" لبرتولد بريخت، وقدّمها سامح حجازي، وشارك فيها إدوار المعلّم، أحد أركان "مسرح الحكواتي" الفلسطيني سابقاً، هذه التجربة التي قادها فرنسوا أبو سالم وعرفت أوجها في الثمانينات لتشكّل فصلاً أساسيّاً في تاريخ المسرح العربي الحديث. حوّل وليد أبو بكر النصّ الذي كتبه بريخت في منفاه الفنلندي سنة 1941، ليعبّر عن الحالة الفلسطينيّة، من دون أن يطمس بعده الانساني العام، وتوقّف عند محطّات تاريخيّة أساسيّة من وعد بلفور إلى النكبة فالنكسة فأوسلو... شخصان غامضان يلتقيان بالمصادفة، في مكان ما، الأوّل فيزيائي من طبقة ميسورة، والثاني عامل بسيط. ومن حوارهما حول أشياء الوجود وأوجاع الحياة، تنبثق لعبة فلسفيّة - مشهديّة تفترض بعداً تجريديّاً في التمثيل والاخراج. ولعلّ الجمهور العربي لا يزال يذكر جيّداً الطريقة التي قُدّم بها النص نفسه قبل عقد ونيّف في تونس، حيث اقتبسه توفيق الجبالي، ومثّله مع رؤوف بن عمرو تبعاً لرؤية استثنائية للراحل رشاد المنّاعي. سامح حجازي الذي درس المسرح في برلين حيث تتلمذ على يد هاينر مولر، صمّم لوحات مشهديّة متلاحقة للتعبير عن حالة الغربة والعبث والاقتلاع. واعتمد على التمثيل المؤسلب، والموسيقى المتواترة، والاضاءة التي تحاصر الشخصيّتين، تاركاً لتلك المحاورة أن تغوص رويداً رويداً في الوجدان، من خلال ايقاع تأمّلي، قاتم وهاذ، يفسح المجال أمام الأسئلة كي تنبت وتعرّش بين جراحنا الفرديّة والجماعيّة. لكنّ الايقاع لم ينجُ كلياً من فخّ الاطالة والرتابة. أما "مسرح الصواري" الآتي من البحرين، فيواصل على طريقته الغوص في أقاليم مظلمة من النفس البشريّة، معتمداً على تقنيات فنية صارمة، ومستوحياً نظريات غروتوفسكي الطقوسيّة تارةً، ومسرح القسوة طوراً، كما نظّر له أنطونان آرتو، وطبّْقه الثنائي الأميركي جوليان باك وجوديث مالينا المسرح الحيّ. بعد "أسكوريال" و"مأساة الحلاج"... تعود هذه الفرقة الخليجيّة المميّزة بمسرحيّة لوليد إخلاصي عنوانها "الليلة العلميّة". مثل العمل الفلسطيني، نحن هنا أمام مواجهة بين شخصيّتين. طالبان في كليّة الطبّ الأول فقير والثاني ثري، يعيشان اختباراً لقوّة الاعصاب أمام تشريح جثّة. وحين يأتي حفّار القبور بالجثّة، يكتشف الفقير أنّها لحبيبته فيقتل زميله الغني. إعتمد المخرج إبراهيم خلفان على طاقة الاداء الجسدي والصوتي، كما اعتمد على الصمت المشحون بالألم والحزن والفجائع. والطاولة التي تشكّل الفضاء المسرحي، تحمل أكثر من دلالة سينوغرافيا: محمد سعيد، لطيف الصحّاف. فهي أرضيّة المبارزة والمشرحة والعالم السفلي، وهي خريطة الأهواء والمشاعر والانفعالات، من حب وحقد وكراهية وحزن... من هذه الطاولة تنبثق الاضاءة على أجساد الممثلين، وفيها تنفتح الهوّة التي تخرج منها الأجساد وتعود إليها. ولا بدّ من الاشارة إلى الهالة الطقوسيّة التي تحيط بهذا العمل التأمّلي، والتي تحتلّ فيها الموسيقى الحيّة موقعاً أساسيّاً كمان خليفة زيمان، وتشيلو فوزي الشاعر. عملاً بعد آخر تسعى جماعة "الصواري" إلى العرض الكلّي، وتحتلّ على خريطة المسرح العربي موقعاً خاصاً بها، يجد جذوره في تجارب استثنائيّة مثل "خيوط من فضّة" جواد الأسدي و"ترنيمة الكرسي الهزّاز" عوني كرّومي. "عرس دم" صعيدي وكما سبق أن أشرنا عكست عروض المسرح المصري غنىً وغزارة ونضجاً شكليّاً ودراميّاً، الأمر الذي يستحقّ الحفاوة بحدّ ذاته. ولعلّ القاسم المشترك بين معظم الأعمال المصريّة البارزة هو اعتماد القالب التراثي، والأشكال الشعبيّة وتقنيات المسرح الاحتفالي. ويبدو هذا الطغيان مقلقاً، حين يتحوّل ظاهرة عامة أو موضة، وحين يصبح الحلّ الحتمي لتجاوز القطيعة بين المسرح الجاد والجمهور الواسع، وحين يبدو الردّ الوحيد الممكن على سؤال الهويّة في المسرح العربي. فسرعان ما تقع الرؤية الاخراجيّة في فخ الفولكلور الذي يصبّ في خانة الخطاب الايديولوجي السائد، وإذا بالمبدع يستسلم لسهولة القالب التراثي الذي يعكس رؤية استشراقيّة إلى الذات في نهاية الأمر، ويعتقل المسرح في قوالب سطحيّة، رتيبة. أليس غريباً أن يلتقي كلّ من ناصر عبد المنعم في نقله رواية واقعيّة "خالتي صفيّة والدير"، وانتصار عبد الفتّاح الذي ينطلق على دروب اختباريّة جديدة "مخدّة الكحل"، وحسن الجريتلي الذي اختار، لتقديم السيرة الهلاليّة، الشكل الملحمي الاحتفالي طريقاً إلى المسرحة والتراجيديا بمعناها الاغريقي الأصفى "غزل الأعمار"، أليس من الغريب أن يلتقي هؤلاء عند الجماليات والأشكال والأدوات والتقنيات واللهجة والموضوعات نفسها؟ يعود ناصر عبد المنعم إلى رواية جيل الستينات مع رواية بهاء طاهر "خالتي صفيّة والدير" التي أعدّها للخشبة سعيد حجّاج بطريقة تفتقر إلى البنية الدراميّة المطلوبة، إلى كونها غير أمينة لنبض الأصل الأدبي. حبّ صفيّة لحربي ينقلب حقداً وضغينة، بعدما سعى إلى تزويجها من خاله "القنصل". وتمضي في انتقامها إلى تلفيق تهمة خطيرة بحقّ حبيبها الأوّل للايقاع بينه وبين خاله. يقتل حربي القنصل ردّاً للمهانة والظلم، ثم يمضي بين السجن والدير القبطي الذي يلتجئ إليه ويموت فيه مريضاً ومقهوراً. تدور الأحداث في صعيد مصر، في أجواء قائمة على العنف واللاعقلانيّة والقسوة والتقاليد الصارمة التي تسحق الأفراد. وحده أبو صفيّة يخاطب حفيده، الراوي، معبّراً عن أمله بغد أكثر عقلانيّة: "أملي كبير في العلم والنور يا ولدي". ونتابع نحن الأحداث من خلال ذاكرة الراوي الذي يحضر على الخشبة طفلاً وشاباً في الوقت نفسه، وهي لفتة موفّقة في استغلال مقدرة المسرح على تكثيف الأزمنة. لكن المخرج الذي تجذبه البيئة الريفيّة القاسية، بضحاياها وجلاديها، إذ سبق أن تطرّق إليها في أعمال أخرى أبرزها "الطوق والأسورة" عن رواية يحيى الطاهر عبدالله، لم ينجح تماماً هذه المرّة في نقل تلك المناخات التي تربطها أواصر قرابة بعالم فدريكو غارثيا لوركا. ف "عرس الدم" الصعيدي يغرق هنا في ترفيهات فولكلوريّة لا تنتهي، وتوليف الأحداث فيه من الاختزال والخلل والخفّة ما يحول دون خلق التوتّر الدرامي المطلوب، فالاقتباس أضاع تفاصيل أساسيّة عدّة. لكن عبد المنعم يظهر هذه المرّة أيضاً مهارته في تحريك الممثلين وتوزيعهم على الخشبة، وفي الانتقال بين اللوحات واستعمال الحيّز المسرحي وتقطيعه بالضوء غالباً، فيحاصرنا في بعض المشاهد قبل أن تفلت اللعبة مجدداً بتأثير البهارج الشعبيّة المستمدّة من مسلسلات تلفزيونيّة لا تخشى المبالغة والتضخيم. ولكن ماذا عن العملين الآخرين اللذين يغرفان من التراث، أي "مخدّة الكحل" انتصار عبد الفتاح، و"غزل الأعمار" الورشة؟ وماذا عن العملين النقيضين اللذين يقطعان بشكل راديكالي مع كلّ أشكال الفولكلور، أي "أغنية الحيتان" وليد عوني و"عطيل" التونسي توفيق الجبالي؟ هذا ما سنحاول الاجابة عنه في العدد المقبل؟