اتبع الفنان سميح شقير بوصلة روحه، فغنى للجمال والعدالة والبشرية المعذبة. احتفى بالكلمة العذبة، وأكثر من أساليب التلحين والمناخات الموسيقية. عبر رحلته الغنية التي شارفت على العشرين، واستطاع بذلك أن يحرك الوجدان العربي، وإن يؤنس أغنية ملتزمة تنتمي إلى الفضاء الثقافي في عناوينه الأكثر تقدماً وإنسانية. دخل شقير عالم الغناء والموسيقى عبر الموهبة والتخصص الأكاديمي فهو من متخرجي المعهد العالي للموسيقى في كييف، وله حتى الآن ستة أشرطة هي: "لمن أغني"، "بيدي القيثارة"، "حناجركم"، "وقع خطانا"، "زهر الرمان"، "زماني". إضافة إلى عدد كبير من الأغنيات الحديثة التي لم تسجل بعد نظراً إلى الظروف المادية. ولديه عدد كبير من المؤلفات الموسيقية التي كتبها للمسرح والتفزيون. هنا يتحدّث سميح شقير عن تجربته: منذ شريطك الأول "لمن أغني" أعلنت انتماءك إلى الأغنية الملتزمة أو الثورية، وناصرت القضايا الإنسانية العادلة، فما هو سر هذا الخيار، وما هي أبعاده؟ - لم يكن يعنيني أن أكون مطرباً وسوق الأغنية لا يعنيني أبداً الأغنية هي أسلوب تعبيري عما يجيش في داخلي، اخترت وأدرك أن اختياري كان في الطريق الوعر، ولست آسفاً على ذلك، حسبي أنني أذهب في اتجاه تقودني إليه بوصلة روحي. وأستطيع القول أنني انتمي إلى جيل ومرحلة كان لهما خصوصيتهما الأكيدة في تاريخنا المعاصر. وأحببت دائماً أن أكون معبراً عن حلمي، هذا الحلم الذي تتألف تفاصيله من أحداث وأصدقاء وذاكرة ومواقف عاشوا جميعاً في رحم المرحلة التي نشأت فيها. أذكر يوماً أني عاهدت نفسي على أن أبقى مؤتمناً على قيم كنت وما زلت أعتبرها جوهرية لبناء مستقبل مختلف أكثر عدلاً وإنسانية وأقل "خواء". ويبدو لي أنني سأبقى كذلك وهذه اللغة هي الوحيدة القريبة إلى قلبي وسأصر عليها حتى وأنا أرى أن التعامل بها أصبح نادراً. لم استطع الانتقال إلى الضفة الأخرى ولا أريد. في البداية كان إصرارك واضحاً على القصيدة المغناة، ثم دخلت اللهجة العامية إلى أغنياتك، فهل هو التجريب، أم هي ضرورات الموضوع؟ - تلتقطين ملمحاً حقيقياً وهو إصراري في البداية على تقديم القصيدة المغناة في حين أن المراحل التالية وإن لم تغب القصيدة، كان الحضور الواسع فيها للهجة العامية وإن يكن بإصرار على الموضوع نفسه. أما لماذا حدث ذلك؟ فأظن انّ خلف ذلك تجريباً خاصاً للهجة العامية التي تمتاز بحميمية لا تجدينها في الفصحى أحياناً. وهناك أيضاً زاوية تناول المواضيع وهي تتطلب لساناً عامياً لنستحضر بذلك بيئتنا أقرب ما يكون. وهنا دعيني المّح إلى اشكاليتنا كعرب بأن لدينا اللغتين في حين أن معظم الشعوب لها لغة واحدة وهذا سيسفر عن تجليّين ثقافيين مختلفين. فإذا كنت ترغبين في التعبير عن عمق هذه الثقافة، فلا أخالك تستطيعين إن لم تتعاملي مع هاتين اللغتين، إذ أن لهما ذاكرة مختلفة، وتولدان أحاسيس مختلفة. نلجأ إلى الفصحى لنذهب عميقاً في المعاني، ونذهب للعامية لنكسر الزجاج الذي يلف النص الفصيح. هذه الثنائية هي جزء من ذاكرتنا ولا أفضل التعالي عليها بإنكارها. أغنيتك لم تقتصر على أسلوب تلحيني محدد، لكنها طرقت مناخات مختلفة. هل هو عدم الوصول إلى الصيغة المناسبة، أم أنها الرغبة في البحث عن وسائل تعبيرية جديدة؟ - في شأن تعدد مناخاتي اللحنية اعتقد بأن مرجعيتها تأتي من كوني صاحب مشروع في الموسيقى والأغنية فسحته هي فسحة الذات الإنسانية. ولذلك فقط جاءت مساهمتي التأليفية متنوعة وغير مقتصرة على شكل وحيد للتعبير. فهذا يدفعني أكثر إلى خطر شعوري بوجود فراغ حقيقي للتعبير عن الكثير من المواضيع إضافة إلى افتقار الجهد الموسيقي والغنائي السائد عموماً إلى الجرأة في اكتشاف أشكال تعبيرية جديدة وفي إغناء حياتنا الثقافية. ماذا عن الأخذ والتأثر والألوان الموسيقية التي عرفتها أغنياتك؟ - الألحان لا تأتي من فراغ، والمؤلف الموسيقي يتأثر حتماً ببيئته وبكل ما يسمع. لكنّ ما يميزه أنه يعيد تشكيل كل هذه المناخات المحيطة ويلونها بألوان روحه مضيفاً إليها خصوصيته، مبتكراً أسلوباً متميزاً عن غيره. وهكذا يستطيع أن يشكل إضافة ما، تترك أثراً في نفس المتلقي وعلى رغم أنني لا أراعي في تأليفي التقسيمات المألوفة في الألوان الغنائية والموسيقية. واعتقد أنني جمعت كثيراً بين ألوان متعددة في عمل واحد. ولكن مع ذلك وبصورة عامة كان لي إسهام في تجريب المعاني المختلفة للأغنية. وإضافة إلى ذلك قدمت مجموعة كبيرة من الأغنيات التي تتكئ على ذاكرة تراثية أو فلكلورية من جنوب سورية. وقدمت الكثير من الأعمال للأطفال، والكثير من الأغنيات ذات النفس التعبيري وأيضاً مجموعة من الأغاني الطربية، إضافة أنني استخدمت صوتي في شكل تعبيري وليس في شكل طربي. وأخيراً خضت في الأسلوب الساخر عبر المجموعة الغنائية "زماني". قبل ذهابك إلى كييف للتخصص الأكاديمي في المعهد العالي للموسيقى، كانت ألحانك تشابه الموسيقى الغربية. أما بعد عودتك فاتجهت إلى الألحان الشرقية، فما هو سر هذه المفارقة؟ - هي ليست مفارقة لأن كل مؤلفاتي بعد عودتي من الدراسة عبارة عن شريط واحد بعنوان "زماني" وهو ذو مناخ شرقي إضافة إلى مجموعة كبيرة من المؤلفات الموسيقية كان معظمها في السنوات الأخيرة عبر الدراما والموسيقى التصويرية. وقد أنجزت عدداً منها، ومثلت لي فسحة للتعبير الموسيقي. ويمكن ملاحظة أثر العلوم التي تلقيتها عبر هذه "الموسيقات" التي تتطلب تأليفاً موسيقياً أكثر ممّا تتطلب تلحيناً. إضافة إلى مجموعة الأغنيات الأخيرة التي قدمتها في امسيتين غنائيتين ولم تسجل على أسطوانة حتى الآن بسبب ظروف تمويلية عدة. علاوة على أن دراستنا الموسيقى الغربية، لا تعني تغييب موسيقانا الشرقية. إن مشروعي الموسيقي المقبل فيه إصرار على ما يميز جمال الموسيقى الشرقية وهي الميلوديا الفنية، مضافة إليها التقنيات الموجودة في الموسيقى كالهارمونيا والبيليفونيا. ولذلك أثر في رفع القيمة التعبيرية للموسيقى الشرقية. ما هي أوجه الاختلاف بين تلحين الأغاني والتأليف الموسيقي لنص درامي منجز؟ - ليس هناك خلاف جوهري في النهاية. هناك تأليف موسيقي يستلهم مواضيع معينة. على أن الأغنية التي أكتبها تتمتع بقدر أوسع من الحرية لأني أنا نفسي أحدد كامل المناخ الموسيقي، وانتقي الموضوع إلى ما هناك. أما في الموسيقى التصويرية الدراما والمسرح فما يميزها أنها موضوعة خصوصاً لموضوع منجز سابقاً، وتأتي الموسيقى لتشكل قراءة معمقة للمعنى المطروح وعليها أن تسبح في فلكه. كيف تبدع موسيقاك وما هو شكل لحظة الأبداع وشروطها؟ - في الوقت الذي يتخيل فيه أناس أن ظروف التأليف الموسيقي قد ترتبط كثيراً بظروف مواتية بما يعنيه ذلك المكان الجميل أو الموحي، وباختصار الظرف الجمالي الناجز وقد سمعت هذا كثيراً. ولكن عبر تجربتي اكتشفت أن اللحن يبرق في الذاكرة بلا مقدمات منطقية وفي ظروف قد لا نتخيل حيالها أن تمطر الذاكرة ألحاناً. أما ما يأتي لاحقاً من إكساء هذا اللحن أو إتمام معماره الفني فهي طقوس خاصة بالمؤلف الذي يحتاج إلى حال توحد مع لحظة البرق ليستطيع أن ينجز عمله. وهذا يختلف من مؤلف لآخر. الحالات الشعورية الخاصة كالفرح والحزن والحب ألا تفعل فعلها في لحظة الخلق هذه؟ - الموسيقى مثل كائن مرهف، تهتز وكأنها خلجات مشاعرنا، وتتجاوب مع متغيرات الشعور واللاشعور. ولعل أقصى ما يمكن أن يصادف المؤلف الموسيقي هو الرقابة، لأنها المقصلة التي تودي بالفكرة المبدعة، الثلج كالنار ووهج الضوء كالعتمة، ووجودهما بالغ الأهمية لإثارة كوامن النفس، ولتوهج الروح. أي حالات هي الأكثر أثراً على نفسك؟ - قولاً واحداً: الحب، قد يأخذ الحب معاني مختلفة هنا، كحب الحرية مثلاً. وهو يعطي القدرة على الصراخ في وجه القيود. حب الجمال يجعل مشروعك الإنساني مندفعاً بفعل كراهية البشاعة في كل صورها، حب المرأة يقرّبنا إلى حقائقنا ويضرم فينا مخيلة الأجنحة. ولماذا تغيب المرأة إذاً عن معظم أعمالك؟ - اعتقد أن المرأة هي اختبار للأعمق فعبرها تكشف طيفاً واسعاً من المشاعر التي تتعمر في داخلنا. ولكونها تلهم الجمال وعبرها ولنقل معها، سيكون لنا أن نحلق عالياً لنرى الكون من زاوية لم نألفها. ونختبر حقائقنا بعمقها الأبعد. هي المرأة إذاً نجدها مختبئة أو واضحة خلف النغمات السبع التي تنشئ الموسيقى. هل من كلمات أخيرة؟ - سأظل أشعر بأني ذلك الطفل الذي يركض في الشارع ويسأل نفسه لماذا هؤلاء الأشخاص الذين يصبحون في موقع الفعل يختلفون عنا؟ لماذا يحكون عن أمور لا تعبّر عنا؟ ما هو اللغز الذي يستطيع فيه أحدنا بهذه الجرأة أو الوقاحة أن ينفصل عن ذاكرته ويتحدث بأشياء لا ينتمي إليها، بل هي تنتمي إلى وظيفة اجتماعية أو يدخل في مفهوم اللعبة الاجتماعية التي تروّض الكائنات وتجعل منها أنماطاً معلّمة؟ أنا حريص على هذا الطفل الذي كان يرى العالم ببراءة وصدق وأنا انتمي إليه بكل جوارحي وكل ما لدي من قوة.