هل دخل الغرب الحديث، لا سيما الولاياتالمتحدة الأميركية، طوراً متقدماً من أطوار قتل الأب؟ وهل شرعت تُكتب السيادة اليوم نهائياً للإبن - الشاب؟ لنقل، بادئ بدء، إن فكرة قتل الأب والأم قديمة قدم الاسطورة التي كانت مصدرها. فأوديب، ملك طيبة الذي ذبح أباه واقترن بأمه، هو من استوحاه أحد الرموز الفكرية الكبرى لعالمنا الحديث: سيغموند فرويد. وكذلك حال معادِلة أوديب في النساء، إلكترا، التي تنجذب الى أبيها لاكتشافها المبكر افتقارها الى قضيب، لائمةً الأمَ بصفتها سلطتها المباشرة الواقفة وراء خصائها. لكن النظرية هذه التي استحق عليها فرويد جلد سيمون دو بوفوار والحركة النسوية وإدانة محللات نفسيات ككارين هورناي، لا تشبه موت الأب الذي نتحدث عنه اليوم الا في شيء واحد: إيكال المهمة الى الشبيبة. فأداة القتل الآن هي: التقنية وما يتصل بها من وتائر تغيير مُفضية الى تمزيق النظام التقليدي للشركات ووحدات العمل. وبنتيجة هذه جميعاً يصعد النفوذ المتزايد للشبيبة التي تنتقل من الظل الى بقعة الضوء. كما لو أننا حيال انقلاب في القوة وتبديل في الحرس يستولي بفعله جيل "الدوت كوم" على الصدارة. ففي معظم التاريخ الانساني حكم متوسّطو الاعمار، وأشاعوا الفكرة التقليدية والاتّباعية التي صارت من تحصيل الحاصل الأخلاقي عن حكمة الكبار والمبالغة في تقديرهم. ومنذ المثالاث الكونفوشية طغى النضج المشوب بالحكمة على الشباب المقرون بعزيمة يقال إن الهوَج رديفها. فمع العمر، كما قيل دائماً، ينمو العقل وتتسع العلاقات والتجارب والنفوذ. ولا يزال عالم العمل يشهد، حتى في البلدان المتقدمة، كيف أن الشعر الرمادي والمُبيضّ، وسنوات الخدمة المتفانية في الوظيفة، والأقدمية في العمل، هي كلها في طليعة ما يُحسب حسابه عند التقويم ومحض التقدير أو إبداء العرفان. لكن الطاولات تُقلب الآن، والراجح أنها تُقلب نهائياً. وهذا، بطبيعة الحال، لا يعني أن على الأكبر سناً أن يختفوا. لكن عليهم ان يشاركوا في سلطة كانت لهم وحدهم، وان يتهيّأوا عاماً بعد عام الى تسليم المفاصل والمواقع الاساسية فيها لمن هم أصغر سناً. الخلفية الثقافية ولنقل، أولاً، إن ثمة خلفية ثقافية تسهّل حصول ما يحصل. فالشباب، في الثقافات جميعاً، هو العمر الأحلى الذي يحلم من تعدّوه بأن يعاودوه ويعاودهم. وهذا ما يذهب اليه البيت الشعري الشهير الذي كثيراً ما رددته الألسن العربية: "ألا ليت الشباب يعود يوماً...". بيد ان الثقافة الغربية، والاميركي منها خصوصاً، ثقافة شباب على نحو متعاظم: تحاول استعادته وتملّكه ولا تقتصر على تمنّي ذلك شعرياً. وهذا ليس مردّه الى تعاظم دور الشبيبة فحسب، بل ايضاً الى ضعف الطابع الاتّباعي والتقليدي في الثقافة هذه، فضلاً عن درجة تأثّرها بالسوق والاستهلاك مما يلعب الصغار دوراً أساسياً في التحكّم بوجهته. وثمة، فضلاً عن ذلك كله، مسألة الخيار الفردي الناهضة على درجة بعيدة من التسامح وقبول الآخر. وبالمعنى هذا غدا الشباب خياراً بقدر ما هو مسألة سن ومُعطى قَبْلي جامد. فالآن، وبغض النظر عن عمره، يحق للمرء ان يحاول الظهور شاباً وان يتصرف، ما وسعه الأمر، كشاب. ذاك أنه بعد التطورات الطبية والعلمية التي جعلت ابن الخمسين يبدو أصغر مما بدا من قبل، جاء الجمنازيوم والجراحة التجميلية ليكمّلا المهمة. وعمل سقوطُ التهم التهكمية التقليدية ك"التصابي"، على الانتصار للتدخل الانساني في تعديل ما هو "طبيعي"، ومن ثم المزيد من مدّ مفهوم الشباب وتعريضه وإطالته، بينما جعل بعض كبار السن يعملون بعد تقاعدهم، مُطيلين عمرهم الناشط. أي أن ضمور الأبوّة وتقلص رقعتها لا يحدثان قتلاً، كما كان الأمر في الزمن البدائي، بل يأخذان شكل توسّع واختراق تُحدثهما رقعة البنوّة داخل ما كان الرقعة الحصرية والملكية للأبوّة. انه انتقال تدرّجي وهادىء إذن، بعيد من الانقلابية وغير طارد للمهزومين المسنّين. والحق ان تعريف "الشاب" وعمره باتا عرضة للتغيير، بعدما عاش المفهوم طويلاً مأسوراً بحدّ ال25 عاماً. ففي مقابل الاستضافة المفتوحة لهم، استجاب الأهل الستينيون بقدرة غير مسبوقة على مواكبة ابنائهم في الذوق والموسيقى والملبس. الانترنت ثورة الشبيبة الا ان في التطورات التقنية ما يلعب دور القاطرة في هذا كله. ذاك ان التكنولوجيا هي التي تحفز وتقود البيزنس اليوم، فيما حاملو جرثومة الدوت كوم هم الشبيبة. فالرقابة الأبوية في المؤسسات الكبرى ضُربت تماماً على ما تدل تجربة ميكروسوفت، مثلاً لا حصراً، هي التي انقضى عليها 25 عاماً ويعمل فيها 40 ألفاً معظمهم شبان، غير انهم جميعاً لا يتقيدون بأي نظام في الملبس. فكل شيء مقبول ما دام نظيفاً، والممنوعان الوحيدان السلاح و... التدخين. ولأن وتيرة العمل المسعورة غدت تمحو الفواصل بين الوقت الشخصي ووقت العمل نفسه، فهي هكذا باتت تمزج بين نمط الحياة الشخصي ونمط العمل. ففيما تركّز الشركات على جذب قوة عمل اصغر سناً، تضحي ثقافة المكتب، اكثر فأكثر، امتداداً للثقافة الشبابية، وتتقلّص المسافة الفاصلة بين البيت والمكتب المجهّزين بالأدوات عينها والمتصلَين في ما بينهما اتصال كل منهما بالمكاتب والمقارّ النقّالة جواً. واذا شاع الربط بين الانترنت والفردية والتذرير الاجتماعيين، بقي ان سوق العمل بمعناه القديم غدا مهدداً. وقد يكفي القول، هنا، إن ربع خريجي الجامعات البريطانية تم تشغيلهم العام الماضي عبر... الانترنت. أما الاكراه في العمل الذي ثارت ضده الستينات، بين ما ثارت ضده، فيتحقق آلياً مثلما يتعاظم التشغيل الذاتي الذي لا صلة له بالنظام المستقى من المصنع او المعمول به في الجامعات الصارمة التقليد. وثورة الانترنت ثمرة صغار السن واليافعين. فمع الثورة الصناعية، تلك التي ارتبطت بالطبقتين الجديدتين آنذاك، البورجوازية والعمال، لم تكن الأعمار محدِداً اجتماعياً أساسياً. فالطبقات الحديثة كانت يومها في عزّ يقظتها على نفسها، فيما الاعمار لا اكثر من ميدان سلبي للاحصاءات المولودة للتوّ. اما قبل ذلك، في الزمن الزراعي، فبدا الحقل مملكة الأب بامتياز، بينما لم يعدُ الابن كونه تابعاً يرث المهنة ووسائلها ويحاكي طرائقها. ومع الانترنت وحده انطلقت الثورة الصناعية الأولى في التاريخ التي يقودها الشبان. وبعدما كان "الجيل" معياراً ضمنياً مُُضمراً في "الطبقة" أضحت الأخيرة، الى حد بعيد، المعيار الضمني المضمر في "الجيل". وإذ جرف مؤسساتِ اميركا ومكاتبها وشركاتها، ولّد الانترنت الاشياء الصغيرة الملحقة به كالبرامج واللغة الكومبيوترية حتى غدا التفكير، بموجب مصطلحات الشبكة، اقرب الى طبيعة ثانية لروّاد الثورة الشبان. والحال اننا نتحدث هنا عن اشياء تنحلّ وتُستبدل بسرعة غير مسبوقة في تاريخ الأدوات. فأي لغة كومبيوترية تم تعلمها قبل عقد اصبحت حكماً عديمة الفائدة، مثلها مثل متعلميها، ومثل كل ما يتفرّع عنها ويرتبط بها. أي أننا، بالتالي، حيال ايديولوجية كاملة الجهوز تملكها الثورة الجديدة، غير أنها ايديولوجية قليلة الايديولوجية، او عديمتها، تحل فيها الارقام محل الخطاب، ثم تعتذر وتتحول وتنسحب من الساحة على نحو غير معهود في الايديولوجيات الصراعية تعريفاً. لكن شبابية زمننا لها مواصفات اخرى تطاول السلوك بقدر اتصالها بالعمل وفرص التقنية. فالشبان، في حياتهم الشخصية، يرحّبون بالتغيير فيتزوجون الآن متأخرين، والشابات منهم ينجبن بعد ثلاث سنوات من المعدل الوسطي لعمر الانجاب السابق. وهناك الاستعداد الأوسع بما لا يقاس للمغامرة والتجريب ضداً على "الحِكَم" المألوفة. اذ بعدما كانت سنوات التعليم والتمهين والتدريب ضرورية للنجاح، فقدت هذه العناصر بعض قوتها، وفي بعض الاحيان صارت عبئاً على صاحبها. وكما تقول "فاست كومباني"، وهي المجلة المرجعية لفلسفة البيزنس الجديدة، "انسوا منحنى التجربة. الاقوى: منحنى عدم التجربة، والمبادرة". فالشاب، بحسب هذه الدعوات، ينهي ارتهانه المديد اذ هو يستطيع دائماً ان يذهب الى الكلية لكنه لا يستطيع استرجاع شبابه إذا أفل. والشبان يسودهم، بالتالي، ميل أكبر الى الاستقلال في التحصيل، وسعي وراء اعمال عابرة وشركات صغرى قابلة للتكييف الذي يُحدثونه هم، ولا يستطيعونه مع شركات كبرى ناجزة التقاليد و"عريقة". وهم، على النحو هذا، يمحضون مؤسساتهم قليلاً من الولاء، واقل منه ما يمحضونه لانماط العمل المعهودة. وقد اختصرت الوجهة هذه شركة "برودنشيال"، وهي من كبريات مؤسسات التأمين، بأن غيّرت شعارها الرمزي من "إحصل على قطعة من الصخرة" الى "كن صخرتك". وتبعاً لاستقصاء قام به "مجلس بحوث الرأي" في الولاياتالمتحدة، ابدى 54 في المئة ممن اعمارهم 18 الى 24 سنة حماستهم الى تأسيس اعمال خاصة بهم، قياسا ب36 في المئة ممن هم بين 35 و64. ووجد استقصاء آخر نشرت نتائجه "نيوزويك" ان نصف الشبان الذين سئلوا عن بطلهم اختاروا بيل غايتس الذي، بين امور اخرى، غادر دراسته في الكلية ليؤسس ميكروسوفت. ويرى غير باحث اجتماعي أن شبان اليوم يبحثون عن الفرص والاعمال التي تتيح لهم الفرص، اكثر مما يبحثون عن المال وما يليه من استقرار، لأن في الأمر مسؤولية وتحديات وشعوراً بالصنع والتأثير، فضلاً عن عائد مالي قد يكون هائلاً ولو أُجّل. وهذا ما يفسر الاتجاه الى الشركات الصغرى التي تتيح المجال للتجريب وإن كانت معاشاتها اقل. الراشدون فقدوا الاجابات وهذا، كما كل ثورة من هذا الصنف، يصنع العالم من حوله. فالتقنية، كما هو معروف جيداً، تترك التأثير العميق حتى في من هو، ومن هي، غير مهتمين مباشرة بها. وكما حاجّ جوشوا مايروفيتش في "اللاحسّ بالمكان: أثر الاعلام الالكتروني في السلوك الاجتماعي"، دارساً الأجيال على ايقاع التقنية، فإن مواليد ما بعد الحرب الثانية بدأوا يعاودون تشكيل "جغرافيتهم الموضعية" مع انتشار التلفزيون في 1953. فحين وصل الجيل التلفزيوني الاول الى الثامنة عشرة اطلق "حركة الشبيبة" لاواخر الستينات. ويكفي ان نعدّ 18 سنة اخرى لنجد اننا بلغنا العام 1977 حيث ظهر الكومبيوتر الشخصي مع "أبل 11". وهذا كان مفتتح جيل ثورة الانترنت الذي قلب بعض علاقات القوة والسلطة داخل البيت، فبرز "غورو العائلة التقني" الذي هو مراهق الأسرة الأعرف بالتقنية بعدما كانت السلطة لربّها وحده. لقد سبق لمارغريت ميد ان وجدت، في دراساتها الانثروبولوجية عن الثقافات البدائية، ان المجتمعات التي تتعرض للتغير التقني السريع، لا يعود الآباء فيها يملكون ما يقدّمونه لأبنائهم، لأن معارفهم تفقد ملاءمتها للوقائع المستجدة. لكننا نرى الآن هذا المعطى وقد ضُرب بمليون. ذاك ان الراشدين ما عادوا يملكون معظم الاجابات عن اسئلة اكثر وأعقد بما لا يُقاس مما توافر للبدائيين. فهم فقدوا الموقع الذي كان يخوّلهم إخبار الصغار ماذا يفعلون او لا يفعلون. وصارت العلاقة بين الطرفين، بسبب التقنية، حواراً لا تلقين درس، من دون ان تلعب اتباعية الثقافة البدائية الدور الذي كانت تلعبه في التستّر على الكبار. وجيل كهذا غدت التقنية عنصر تعريفه الاساسي، تماماً كما كانت الحروب او الكساد او الثورات والصراعات بالنسبة الى الاجيال السابقة. وهذا ليس تمييزاً عابراً أو تفصيلياً. اذ بينما اتسمت تلك الأجيال بالرضّات الجمعية التي خلّفت ندوبها على الشبيبة، وأسست لأهواء ايديولوجية عاصفة، نما الجيل الحالي في السلم المديد وفي بحبوحة غير مسبوقة. فهو "جيل الشبكة" المستغرق في تقنية ثورية لا تزال اجزاء كثيرة من العالم اليوم تحاول فكّ اسرارها. فمواليد الثمانينات الغربيون هم، استطراداً، أغنى الاجيال واكثرها تعلماً واحسنها صحة ممن لم يعرفوا الحرب والمجاعة والمرض والفقر. واذا فتح التلفزيون عيني مواليد ما بعد الحرب الثانية على "القرية الكونية"، فالانترنت لم يكتفِ بهذا إذ يعمل 24 ساعة في اليوم، كما لم يكتف بتقديم نافذة على العالم اذ يقدّم ايضاً طريقة في فهمه وتفكيره والمشاركة فيه. وفي المعنى هذا، لا العشرينات، عقد التمرد في اللباس والمسلك الذي أثمرته هجرة الفنانين الأميركيين الى باريس، ولا الستينات الشهيرة، أنجزت القفزة التي أنجزتها ثورة الانترنت. إذاً، وللمرة الأولى في التاريخ، توجّه "عزيمة" الصغار ضربات قاضية ل"حكمة" الكبار، وهو ما يُتوقّع ان يتعاظم مع تعاظم الانقسام بين المعيلين القلة من الشبان الذين يتزايد الطلب الاجتماعي عليهم، والمستفيدين الكثرة من الشيوخ الذين أطالت تحسينات العلم والصحة والطب في أعمارهم. لكن التقدم العلمي والطبي يستجرّ نتائج ثورية أكبر على مرتكزات سلطة الأهل المنكفئة. ذاك ان اشكالاً جديدة في "العائلة" و"الزواج" و"الانجاب" أتاحها التقدم هذا. فلم يعد الزواج، مثلاً، شرطاً للانجاب، ولا عاد التناقض بين "المستقيمين" و"المنحرفين" قابلاً للرفع إنجيلاً في وجه طالبي اللذة والمتعة لذاتهما. هكذا بات الواقع الجديد مصداق التذكير، الذي كان يؤخذ على الفوضويين والراديكاليين عموماً، بأن عمر العائلة الأبوية مجرد وهلة في التاريخ. الاستهلاك، الايديولوجيا، السلطة والمرتكز الآخر للنفوذ نلقاه، طبعاً، في الاستهلاك. ففي اميركا وحدها هناك 31 مليوناً تتراوح اعمارهم بين 12 و19 سنة، يتحكمون ب155 بليون دولار هي قيمة ما ينفقونه على استهلاكهم. وعددهم هذا ربما كان اصغر قليلاً من عدد مماثليهم المولودين بعد الحرب الثانية الا ان طاقتهم الانفاقية تبقى، بعد احتساب التضخم، خمسة او ستة اضعاف طاقة اولئك. وهؤلاء لا يستهلكون للحاضر فقط بل، اذا صح القول، يستهلكون أيضاً للمستقبل. فالصغار، وعلى نحو متزايد، هم الذين يدرّجون الموَض والملابس والماركات التي تسود وتنجرّ اليها قطاعات الشعب الاخرى. هكذا صار في وسع استهلاك الصغار ان ينهض بشركة ما او يتسبب في انهيارها. ف"بوكيمون" لأفلام الكرتون الكاريكاتور مثلاً، حصدت لشركتها الأم "ننتاندو" 3 بلايين دولار في اميركا وحدها عام 2000. ولأننا نتحدث عن ارقام كهذه، ظهرت صناعة ناشطة تقوم على دراسة الاتجاهات الاستهلاكية للشبيبة وتوقّع ما الذي سيجذبها في مستقبل قريب. فشركات ك"أم تي في." و"ساتشي وساتشي" للاعلانات، تملك فروعاً كاملة للبحث في اتجاهات الشبيبة. وبدورها انشأت "ميكروسوفت" مركزاً لمراقبة المراهقين وهم يعملون ويلعبون. وتقوم المؤسسات التي تدرس السوق بارسال "جواسيس" للتلصص عليهم وعلى ما يلبسون ويسمعون او يتلفّظون به من كلمات جديدة في المجمّعات التجارية وغيرها من نقاط وجودهم الجماعي. ولما بات الأهل الستينيون اقل احساساً باعمارهم، وأقدر على الظهور بمظهر "اصدقاء ابنائهم" في المظهر والموسيقى وتقضية وقت الفراغ، غدوا يخضعون ايديولوجياً وذوقياً لما يتعارف عليه الشبان، تماماً كما يلتحقون بقاطرتهم الاستهلاكية. الى ذلك فالمراهق الاميركي المتوسط يبلغ "دخله" 60 دولاراً في الاسبوع، ما بين "خرجية" واعمال عابرة يقوم بها كمساعدة الأسَر في السهر على ابنائهم وغير ذلك. وخُمس هؤلاء المراهقين يستثمر مداخيله في البورصات والأسهم، كما يملك خُمس الآخر حسابات مصرفية وبطاقات ائتمان. اما نفوذهم الاقتصادي فيتعدى قدراتهم الشرائية ليتصل بما سميناه التحاق الأهل الايديولوجي بهم: فهم يملكون قولاً، ربما كان فصلاً، في تقرير وجهة السفر للعطلة واختيار نوع الكومبيوتر والمواد الغذائية وتقضية اوقات الفراغ، واحياناً اختيار نوع السيارة. وفي ظل تزايد نسبة الأمهات العاملات وتحسن وضع العائلة بسبب وجود دخلين اثنين، يتعاظم الانفاق على الابناء تعويضاً عن غياب الأهل عن البيت. وهو ما يحصل ايضاً مع الطلاقات او اقدام احد الزوجين المطلّقين على زواج آخر. والنُوى السلطوية الشبابية شرعت تظهر أيضاً على مستويات قاعدية في التمثيل المباشر. ففي أونتاريو، اكبر مقاطعات كندا سكاناً، غدا القانون يوجب ان يتمثل الطلبة مباشرة في المفاوضات المؤدية الى وضع السياسة التعليمية للمقاطعة. اما استراليا فوفدها الى الأممالمتحدة يضم شابة عمرها 22 سنة اسمها كاري ماكدوغال. ومنذ الايام الاولى للامم المتحدة اختار بلد كفنلندا ان تضم وفوده الى الهيئة الدولية، ومن غير انقطاع، ممثلاً او ممثلة عن الشبيبة. ولدى مدينة ولينغتون في نيوزيلندا مجلس شبابي يشارك في وضع السياسات والخطط المدينية. ونقع، في هذا الصدد، على واقعة يتنافس ظرفها ودلالاتها: فالمدعو كرايغ كييلبرغر، وكان له من العمر 12 سنة، قرأ في بيته في تورنتو بكندا قصة صبي باكستاني قُتل لأنه تحدث بصراحة عن تشغيل الاطفال. وتوجه كييلبرغر الى اسلام آباد للتحقق بنفسه، ليعود ويؤسس منظمة "حرّروا الأولاد". ولم يمضِ غير خمس سنوات حتى صار الفتى المذكور أحد روّاد التيار العالمي المعروف ب "تمكين الشبيبة" أو تعزيز قوّتها وبأسها Youth Empowerment. ولهؤلاء حجة مركزية هي الآتية: اذا ما اريد تعهّد راشدين يكونون مواطنين صالحين، ويخرج من صفوفهم قادة صالحون، فلماذا نشجع اولادنا على ألاَّ يكونوا هذا ولا ذاك. أليس التمرّن على هذه السياسات مقدمة لانتاج قادة وسياسيين للمجتمع؟ ويقارن كييلبرغر حركته بالحركات النسوية في بداياتها قبل قرن. فالنساء ايضاً كان يدور حولهن وحول دورهن لغط أخلاقي كثير، الا انهن نادراً جداً ما تمت استشارتهن في وقوفهن "وراء العظيم" أو في "هزّهن العالم" حين "يهززن السرير". وحتى الآن لا تزال منظمات ك"يونيسيف" تناقش اوضاع الصغار من دون ان يشارك اي صغير في النقاشات. فلئن كانت نشاطات كهذه تنزع الوصاية التمثيلية على نحو أكثر راديكالية وتحديداً وأدق استهدافاً مما طمحت الستينات، فإنها تحسّن السياسات باستحضارها افكاراً طازجة، لا بل ميدانية، اليها. وهذا اذا قلل السينيكية في السياسة كما في الوسط الشبابي، أغرى الشبان بالعودة الى العمل في القطاع العام ومهنه، هي التي باتت تحظى بالقليل من اهتمام الصغار الأشد طموحاً. والشبيبة اليوم تفرض أجندة حساسة وقليلة الاعتبار بما يعتبره السياسيون. فالأممالمتحدة نفسها غدت لديها لجان شبابية تناقش قضايا تبدأ بالبيئة ولا تنتهي بالفضاء الخارجي، مع انها لا تزال ترفض مناشدة كي كييلبرغر واصدقائه بأن يُعطى لهم مقعد في مجلس الأمن حتى لو كان رمزياً. مع هذا فالثورة الراهنة تتعرّض للمساءلات التي تعرضت لمثلها سابقاتها، كما تتعرض لخطر الانتكاسات. فهل، في ظل الخواء الايديولوجي، يمكن الاستئناف بصورة صحية؟ وهل هو صحي انتفاء مبرر التمرد على الأهل لأن المرء لا يتمرد على من لا يملك سلطة أصلاً؟ وماذا عن احتمالات أزمة اقتصادية تقلب بعض الاتجاهات، او تحفر لهذه الثورة قنوات غير تلك المتفائلة التي تشقّها اليوم؟ وكيف يعمل هذا التقدم في الصلب الاجتماعي، مع ارتداد سياسي مثّله وصول جورج دبليو بوش، كرمز لأسوأ الآباء، الى رئاسة الجمهورية؟ في العالم الثالث يختلف الوضع. صحيح. والفقر والمرض والحروب لا تزال تتحكّم في القيم كما في الاعمار. لكن تلك وجهة يصعب البقاء الى ما لا نهاية خارجها وخارج أسئلتها. اما اذا "نجحنا" في البقاء خارجاً، نجحنا في التمهيد للانقراض الموسوم بالحكمة واحترام "الأكبر منك بيوم... الأفهم منك بسنة".