قبل أن نشرع في هذا الحوار مع المفكر العربي أدونيس، اخترنا أن يأخذ اللقاء طابع المواجهة مع رؤاه وأفكاره الصادمة، فاستحضرنا العديد من آرائه ومواقفه المثيرة لمحاصرته بها، لكن أدونيس أثبت أن المبدع الحقيقي كلما زاد عليه الخناق يتسع أكثر فأكثر ليصنع للقارئ فضاءات أخرى أكثر إبهارا ودهشة. في بداية الحوار الهاتفي، ومن باب الاطمئنان، سألنا أدونيس عن صحته وعن برودة الجو في محل إقامته في العاصمة الفرنسية باريس، فجاءت الإجابة سريعة وشبيهة بشخصيته المشاكسة : « أنا بخير وباريس ليست أبرد من العقل العربي هذه الأيام». تلك الإجابة، فتحت أمامنا العديد من النوافذ والأبواب لمواجهته بالعديد من التهم، في محاولة استفزازية توحي بأن عقله الذي كسر القيود وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء لم يتحرر في بعض حالاته من دائرة البرد العربي الذي أشار إليها ساخرا. واجهناه بموقفه الصادم من الأزمة السورية، وهو الذي رأت فيه الأوساط الثقافية انهزاما لأدونيس أمام جميع الشعارات والقيم التي طالما دعا إليها خلال مسيرته الثقافية، وتساءلنا عن أسباب تبنيه المنظور الغربي وتقييد نظرته للإسلام بهذا المنظور، فضلا عن أسباب انتقاده لعدد من الشعراء البارزين ومنهم درويش والبياتي والماغوط ونزار ودنقل وحجازي.. وتساءلنا هل كان هذا النقد أدبيا أم أنه مبني على حساسية شعرية مختلفة. أدونيس الذي اعترف ل «عكاظ» بأن تأثيره محدود وليس له جمهور عريض، أجاب على هذه الاتهامات ورد عليها برؤية تفصيلية .. وإليكم نص الحوار: ثمة شقاق عميق بينك وبين الثقافة العربية، فهل تراه مبررا بين المبدع وثقافته ؟ وما مصدره في رأيك ؟ وما تقديرك لنتائجه بالنسبة لك؟ قبل أن أتحدث عن « الشقاق العميق » بيني وبين «الثقافة العربية» ، أودّ أن أوضح ماذا تعني لي عبارة «الثقافة العربية». يفترض سؤالك أن هذه الثقافة كتلة واحدة منسجمة ومتناغمة، زمنيا وتاريخيا. يفترض كذلك أنها تمثل شعبا أو مجتمعا واحدا منسجما ومتناغما، بأفكاره وأهدافه، وبحياته قبل كل شيء. ومن هنا تعجبك: كيف يسوغ الفرد في مثل هذا المجتمع أن ينشق عن ثقافته وعنه، فهو يبدو في عمله هذا، كأنه ينشق عن نفسه؟، هذا مفهوم خاطئ كليا للثقافة العربية، وهو مفهوم واحدي ومغلق. الثقافة العربية مجموعة من الانفجارات الفكرية والتعبيرية في مختلف المجالات. وهي لا تمثل المجتمع وإنما تمثل أصحابها. وكل انفجار إنما هو تنويع على الاسم الجامع «الثقافة العربية». مثلا: من يمثل هذه الثقافة، إذا كانت «كتلة واحدة» ، كما يفترض سؤالك: امرؤ القيس، أم عمر بن الفارض؟ ابن رشد أو ابن تيمية؟ أبو حيان التوحيدي أم مصطفى المنفلوطي؟ ابن سينا أم ابن لادن؟ بدر شاكر السياب أم صالح جودت؟ حسن البنا أم طه حسين وسمير أمين ؟ تمثيلا لا حصرا. وإذن لا يستطيع عربي أن ينشقّ عن «الثقافة العربية» ، هكذا في المطلق، وإنما ينشق عن فكر مفكر، أو شعر شاعر، أو مذهب تأويلي ديني محدد، أو اتجاه فكري معين.. أنشق مثلا، عن التيار «الفقهي» في الثقافة العربية، لكنني أتبنى التيار العقلاني. أنشق مثلا آخر، عن تيارات الشعر المدحية والهجائية، لكنني أتبنى التيارات الشعرية الفنية الرفضية وذات النزعات الإنسانية والكونية. وتجد تفصيلا لهذا كله في كتاب «الثابت والمتحول». الثقافة السائدة هكذا حين أستخدم عبارة «الثقافة العربية» أضيف إليها دائما، كلمة «السائدة» وأعني المرتبطة بالنظام السياسي السائد. وهذه الثقافة السائدة هي ما أنشق عنها، مرتبطا في الآن ذاته بثقافة الهوامش، أو الثقافة المهمشة. ولا تنس أن موقف الكاتب الحقيقي من تاريخه الثقافي، ومن الثقافة نفسها، إنما هو: جوهريا، موقف نقدي. واستنادا إلى هذا الموقف لا يستطيع الكاتب، إن كان خلاقا، إلا أن يرفض الثقافة العربية السائدة المرتبطة بالسياسة والسلطة، وأن «ينشق » عنها عاملا على التأسيس لثقافة جديدة، أكثر إبداعا وأكثر ارتباطا بالإنسان وقضاياه الكبرى وجودا ومصيرا. على صعيد فهم أسباب هذا الشقاق ومن واقع تحليل منظور خطابك يبدو أن الأسباب تعود إلى تبنيك للمنظور الغربي بمستوياته المعرفية في النظر إلى الثقافة العربية، فما رأيك ؟ وهل لديك رؤية أخرى للأسباب ؟ ليس هناك في هذا الأفق «منظور غربي» .. وإنما هناك منظورات عديدة عند مفكرين عديدين. استتباعا يمكن القول إن هناك «ثقافات» عربية كثيرة داخل «الثقافة العربية» «الواحدة». وهناك «منظورات» غربية كثيرة داخل «المنظور الغربي» «الواحد» . يجب الخروج من هذه التعميمات التي نحبها نحن العرب، كثيرا. فهي عدا أنها تبسيطية جدا، تحجب المشكلة الحقيقية. هل يمكنك أن تدلني على مقالة واحدة أتبنى فيها ما تسميه ب «المنظور الغربي» ؟ فمنذ بدأت الكتابة، شعرا ونثرا، أقوم بنقد هذا «المنظور» أي أنني أقوم بنقد الرؤية السائدة في المجتمعات الغربية للإنسان والثقافة وبشكل خاص رؤيتها للإنسان غير الغربي. وإذا أحببت أن ترى موقفي من الثقافة الغربية السائدة، فليس عليك إلا أن تقرأ ما كتبته في هذا الصدد وهو كثير. لذلك أكتفي بأن أختار لك ثلاثة كتب: «المحيط الأسود» (دار الساقي)، «الصوفية والسريالية» (دار الساقي) ، «موسيقى الحوت الأزرق» ( دار الآداب، بيروت). عقدة المسائل يتمتع الإسلام بمركزية تشكيل الأصول المرجعية للثقافة العربية في تصورها للمسائل الكلية، فلماذا تفتقر علاقتك به إلى رؤيته على هذا المستوى؟ ولماذا تتقيد بنظرتك إليه بالمنظور العام للثقافة الغربية إلى أي دين؟ هذه مسألة مهمة، إنها بالأحرى، عقدة المسائل في الثقافة العربية الإسلامية. هناك أولا: النص القرآني، وقد سميته في دراساتي الأولى، اصطلاحا، النص الأول. ثم هناك نصوص ثانية على هذا النص الأول: النصوص الفقهية، والنصوص السياسية، والنصوص الفكرية الفلسفية. النص الأول هو أولا خاتمة الوحي الإلهي. وهو ثانيا موحى إلى خاتم أنبيائه: (لا نبي بعدي.. الحديث). وهو ثالثا، حامل الحقائق النهائية والمطلقة: ( لا حقائق بعدها تتناقض معها، أو تغير فيها، أو تضيف إليها). ومعنى ذلك أن ليس للإنسان ما يضيفه إلى حقائق النص الأول. وليس عليه إلا أن يؤمن ويطبق، ويعلم، استنادا إلى تأويل يفهم النص كما هو، أو كما أنزل. فمنذ تأسيس «الدولة» الإسلامية الأولى، في بيعة السقيفة «سقيفة بني ساعدة»، تمت المطابقة الكاملة بين تأويل الوحي، أي تأويل النص الأول، وبين «السياسة» التي أسست الدولة. صار بين الدين كما تم تأويله، والسياسة كما تمت ممارستها، وحدة عملية، توجت بالتوكيد على أن «الخلافة في قريش». وانطلاقا من ذلك نشأ في الحياة السياسية العربية تحالف عضوي، ونشأت حروب فكرية أخرى غير حروب السيوف والرماح، هي حروب التأويل: ماذا يقول حقّا، النص الأول؟ هذا هو السؤال الذي يهيمن على عقل العرب وحياتهم، ويقيم وجودهم ويقعده، ويرج كيانهم ومصيرهم، منذ حوالى خمسة عشر قرنا. هل يرى سؤالك في هذا التاريخ «مركزية تشكيل الأصول المرجعية للثقافة العربية» ؟ وكيف نحدد الأصول الثقافية السياسية، إذا كان الشقاق، منذ البداية، قائما حول حقيقة ما يقوله النص الأول؟ اليوم تحل «النصوص الثانية» أي التآويل، محل النص الأول. وانظر إلى خريطة الإسلام الثقافية: كل فريق متمسك بتأويله للنص الأول. كأن الإيمان بتأويل النص يصبح أكثر أهمية من الإيمان بالنص ذاته. والفاجع المريع، ضد العقل وضد الإنسان، أن الماضي في بعض لحظاته، كان يتسع لتعايش الأفكار والتآويل، مهما تباينت. أما اليوم، فقد حل التنابذ والتكفير، وقطع الرؤوس، محل التعايش. حتى أن الإسلام يصبح أكثر فأكثر أنواعا كثيرة من «الإسلامات» : إسلامات العنف والإكراه والانغلاق. أهذه هي مرة ثانية، «مركزية الأصول المرجعية» ؟ ومن الأصح والأجدر بأن يشكل هذه الأصول: المهندسون المعماريون والموسيقيون والفنانون والشعراء والفلاسفة والعلماء والكتاب، أم السياسيون والتجار والعسكر وأهل السلطة وخطباء المساجد والفقهاء؟. وقد أدى الصراع العنيف الدموي على الحكم بين المسلمين العرب، إلى أن يهيمن التأويل السياسي على الإسلام، بحيث تحول الدين إلى قوة سياسية مادية في هذا الصراع. وطمِست أبعاده الروحية الإنسانية، وصار سيفا ورمحا بدلا من أن يكون عقلا وروحا وقراءة للعالم برؤية إنسانية سمحة عميقة فريدة ومتميزة. حتى أننا اليوم لا نجد بين العرب مفكرا إسلاميا واحدا يعد بين المفكرين الدينيين المهمين في العالم. لا نجد إلا المتفقّهين المتسيسين الذين يكررون ما قاله السلف، بطريقة تقليدية اتباعية. وقد بلغ الاستهتار بالإنسان حدا جعل بعضهم يرصدون الأموال لقتل من يعونهم مارقين، كما حدث في مصر، وكما يتواصل الأمر في إيران. نقد الغرب تشير الأزمات التي تعاني منها الحضارة الغربية كتحولها إلى حضارة استهلاكية وغياب المعنى وانفصال العلم عن الغائيات الإنسانية والأخلاقية إلى خطأ تصورات الأصول المرجعية التي قامت عليها، فلماذا تتجنب الحديث عن هذه الأزمات ؟ وأليس غريبا ألا تدفعك هذه الأزمات إلى مراجعة موقفك من أصول الفكر الغربي ؟ أكرر القول لو أنك تقرؤني لما طرحت هذا السؤال. أكثر من نصف ما كتبته وأكتبه يدور حول نقد الغرب ثقافة وصناعة وحياة. وعذرا من قراء هذه الجريدة: لا أريد أن أكرر ما قلته سابقا، حول هذه القضايا وفي تنويعات مختلفة تمتلىء بها كتبي النقدية المنشورة. شروط الحداثة اعتبرت الحداثة الشعرية العربية مجرد استعارة شكلية، وذكرت أنه «كان يفترض بالخروج على عشرين قرنا من الكتابة الشعرية أن يكون الخروج قائما على تجارب كبرى في اللغة والدين والتراث والحرية والفرد والمجتمع والسؤال والكون والإنسان» فهل تبسط رؤيتك لصيغة هذا الخروج؟ تفترض «الحداثة» في المجتمع نشوء أشياء وأفكار لم تعرفها «القدامة»، ومختلفة عنها. وهي إذن، في مختلف تجلياتها الثقافية، شعرا وفنا وفكرا، مرتبطة بحداثة المجتمع. والحداثة، إذن، انتقال بالمجتمع وثقافته من حالٍ «قديمة» إلى حالة «جديدة». فهي في عمقها، تساؤلية ونقدية. ولا تتحقق في أي مجتمع، إلا بشرطٍ أساس: أن تكون حرية التفكير والتعبير مبدأ الحياة والفكر في هذا المجتمع. ونعرف جميعا أن مثل هذه الحرية لا يعرفها المجتمع العربي، بل إنه يحاربها، بحجة أو بأخرى، خصوصا إذا لامست العالم الذي يسيجه الدين. وقد نتج عن ذلك أمران أديا إلى حجب الحداثة على الصعيد الاجتماعي، وإلى اختزالها على الصعيد الشعري. من الناحية الأولى حجِبت الحداثة، حداثة الابتكار والإنتاج والتقدم، بغزو الصناعة الغربية للعرب. وقد خلق هذا الغزو الهائل، عند العرب «وهم التقدم». ومن الناحية الثانية، امتنع الشعراء، لسبب أو لآخر، عن مساءلة التراث ونقده، من أجل تحويله إلى حاضر تخلص من قيود الماضي التقليدي، بجميع أشكالها، وبخاصة الدينية السياسية، واكتفى معظمهم بالجوانب اللغوية والتخلي عن الأوزان الشعرية التقليدية، بشكل أو آخر، لا داعي هنا للتفصيل فيه. غير أن القضايا الكبرى التي تشير إليها: الفرد، المجتمع، الحرية، الدين، التراث، الكون، الإنسان إضافة إلى مشكلات الذات والآخر، الوجود والمصير هذه القضايا كلها بقيت، لدى الغالبية، خارج التجارب الشعرية. ولذلك بدت هذه التجارب في معظمها سطحية وضحلة. وقد ساعد انحسار الكتابة الشعرية بالأوزان الخليلية، في خلق الوهم الثاني «وهم الحداثة». والنتيجة أن المجتمع العربي محجوب بغزو الصناعات الغربية وآلاتها، على نحو مزدوج : أولا، عن ذاته، فهي شبه معطلة. تعيش على صناعة «الآخر» .. ثانيا، عن وجوده، فهو مطموس بغزو المصنعات من كل نوع. هكذا تحول المجتمع العربي هو نفسه إلى آلة استهلاكية ضخمة. لا تنشأ الحداثة إلا إذا قامت أساسيا، على رؤية جديدة وخاصة للإنسان والعالم، وعلى تجارب كبيرة تسائل كل شيء: التراث دينا ولغة، شعرا وفكرا؛ والحياة فردا، ومجتمعا؛ والوجود إنسانا وكونا؛ والحضارة ذاتا وآخر. الركام التراثي في سياق التساؤل نفسه، ما تقديرك للنتائج التي أحرزتها في تطبيق صيغة الخروج كما تقترح ؟ وألا ينطوي نقدك للحداثة العربية في عدم تمثلها لمشكلات الفكر الغربي على إلغاء للذات ودعوة إلى الاتباع الذي ترفض ممارسته في إطار الثقافة العربية ؟ الذات ملغاة في «التراث» نفسه، وبفعل الركام التراثي. وهي «ملغاة» بانعدام الأسئلة. أين «ذاتك» حين لا تستطيع أن تطرح سؤالا واحدا حول القيم المعرفية في عصر الانقلابات المعرفية التي غيرت وجه العالم؟ وأين «ذاتك» حين لا تستطيع أن تتساءل حول أكثر الأشياء التصاقا بها في الطبيعة، وفي ما وراء الطبيعة؟ ، وأين «ذاتك»حين لا تستطيع حتى أن تعبر عن أفكارك بحرية كاملة، متى شئت وأينما شئت؟ ، كلا ليس هناك «ذات» للإنسان في الموروث العربي التقليدي. والمشكلة هي أن العربي لا يتصل بالغرب، بوصفه ذاتا بل بوصفه ناقلا. لا يستطيع حتى أن يكون تابعا له في القضايا الكبرى: ما يمليه العلم، وما تمليه الحرية، وما تمليه الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة. كل ما يستطيع العربي أن يأخذه من الغرب محصور في ما يقدر على شرائه: المصنوعات في مختلف أشكالها. هل يستطيع أن يأخذ هيغل أو ماركس، أو داروين أو هيدغر أو نيتشه، أو هيراقليطس، أو بودلير، أو لوتريامون؟ هل أذكر لك أمثلة أخرى؟ وقل لي أيها الصديق العزيز، كم عدد العرب الذين قرؤوا هؤلاء، هؤلاء فقط؟ ثم تتحدث عن «الاتباع» ؟ ليست المشكلة في أن العرب «يتبعون» الفكر أو الشعر الغربي. المشكلة هي أنهم لا يعرفون هذا الفكر ولا هذا الشعر معرفة حقيقية، إلا باستثناءات محدودة. نعم، تلك هي المشكلة. قبل مغادرة التساؤل ذاته، ألا يكشف نفيك لوجود الحداثة العربية عن اعتراف ضمني بمحدودية تأثيرك بعد قرابة 60 عاما من الحث عليها ؟ ، وما تقديرك الآن لقيمة اسهاماتك في استحداث تيار الحداثة العربية ؟ طبعا تأثيري محدود. لم أؤثر في جماعات، غير أنني أثرت في أفراد. هذه خطوة. ولذلك ليس لي «جمهور». وإنما لي قراء. لكنني، مع قلة من الشعراء، أبقيت سؤال الحداثة مطروحا وفعالا، وهذا ما أعتز به كثيرا. سياق القضايا الكبرى اعتبرت وفرة الكتب النقدية عنك مؤشرا على «الوعي العميق بالشعر الذي يطرح أسئلة ويثير قضايا ترتبط بالوجود والمصير» فما مدى انسحاب ثنائك على نقاد شعرك على حركة النقد العربي المعاصر؟ ، وما مدى تقديرك لمنجزها ؟ هناك بضعة نقّاد عرب أعدهم بين أهم النقّاد في العالم، اليوم. واستنادا إليهم أستطيع أن أقول إنهم يخلقون وعيا نقديا عند القراء العرب، جديدا تماما. هذه أيضا خطوة بالغة الأهمية. قلت « أعتقد أنني لم أقرأ حتى الآن القراءة اللازمة خارج السياق الثقافي السائد في حين أنني يجب أن أقرأ عكسيا» ، فماذا تقصد بالقراء اللازمة ؟ وكيف تقرأ عكسيا ؟ وكيف يمكن الجمع منطقا بين ثنائك السابق على وفرة الكتابات النقدية عنك وبين هذه الشكوى ؟ كنت أقصد أن على النقد العربي أن يقرأني في سياق القضايا الكبرى التي أثرتها، في كل ما يتعلق بالتراث، وسياق الأسئلة التي طرحتها على الثقافة العربية، شعرا ونثرا، وعلاقاتها بالثقافات الأخرى، وسياق الجمالية التحولية التي أسست لها. فسر البعض آراءك في كل من الشعراء محمود درويش والبياتي والماغوط ونزار قباني وأمل دنقل وحجازي، على أنها نوع من المحاكمة لحساسية شعرية مختلفة، فكيف تراها أنت ؟ وهل تعتبر ما ذكرته بحق هؤلاء نقدا أدبيا ؟ قلت رأيي في هؤلاء الشعراء، لا بوصفي ناقدا، بل بوصفي قارئا له مفهوم خاص للشعر، ويعرف ما الشعر العظيم، ومن الشاعر الكبير. ثم ألا يحق لي أنا أيضا أن أتذوق الشعر، وأن أفصح عن هذا التذوق سلبا أو إيجابا؟ هذه مناسبة لأقول للقراء العرب: يمكن للإنسان أن لا يحب شعر شاعر، دون أن يعني ذلك أنه يلغيه. أو دون أن يعني ذلك أنه ليس شاعرا مهما. مثلا لا أحب، شخصيا، شعر شاعر مهم جدا، ضمن تراثه اللغوي والشعري، هو مالارميه. وعدم حبي هذا يكشف عن رأيي الخاص ولا يؤثر في قيمته، سلبا أو إيجابا. القطيعة مع التراث ألا يشير تعريفك الخاص لمفهومي الثابت والمتحول في مقدمة الطبعة الجديدة للكتاب إلى بحثك في الإبداع والاتباع عند العرب بناء على منظور شخصي تنفرد فيه بمصدرية المعايير ؟ ولم لا ؟ وأين وجه الاعتراض؟. ما تفسيرك لتطابق منظورك في قراءة التراث في «الثابت والمتحول» مع مقولات الحداثة الغربية، فدعوتك إلى رفض الاحتذاء بالقديم هي ذاتها «القطيعة مع التراث» التي طرحتها البنيوية، وكذلك الحال بالنسبة لرؤيتك للنص وعلاقة كل من المبدع والمتلقي بمضامينه؟ «القطيعة مع التراث» مفهوم مارسه العرب أنفسهم قبل أن يظهر في الغرب مع رامبو، (قبل البنيوية بكثير )، بحوالى عشرة قرون. أولى ممارسات هذه القطيعة كانت سياسية. ثم جاءت القطيعة الشعرية مع أبي نواس الذي يقول: «عاج الشقي على رسمٍ يسائله»، والذي يقول: «ديني لنفسي ودين الناس للناسِ ». وتابعه في هذه القطيعة، لغويا، أبو تمام، وثقافيا فكريا، أبو العلاء المعري. ورافقتها القطيعة الفكرية الفلسفية ممثلة، على الأخص بابن الراوندي وأبي بكر الرازي. أقول ذلك سريعا، وتمثيلا لا حصرا. وعلي هنا أن أذكر بأن أعمق وأعلى ما أنتجه العرب باللغة، صدر أساسيا عن هذه القطيعة في مختلف المجالات. المتأمل «للثابت والمتحول» يجد أنه عبارة عن تصنيف لمسار حركة التقاليد الإبداعية والفكرية العربية لا رصد لظواهرها، والدليل على ذلك إغفال الإشارة إلى أي قيمة، فما منجز هذه الدراسة بالتحديد ؟ وما جدوى الإبحار في جغرافية التراث دون استبصار أيقيمة ؟ كيف يمكن طرح هذا السؤال حول كِتاب كتِب أساسيا، للكشف عن القيم العالية في التراث العربي، و «الاستبصار» فيها؟ وهي القيم التي يكشف عنها، أو يختزنها «التحول» و «الإبداع»، مقابل «الثبات» و «الاتباع». وهي معروضة بوضوح في كتاب «الثابت والمتحول»: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب». التحول إبداع وتجاوز رغم رفضك القاطع للاحتذاء بالموروث على صعيد التقاليد الإبداعية والمعايير الجمالية في «الثابت والمتحول»، وجدناك تقر بصحة معايير الذائقة الشعرية التي استخلصها عبد القاهر الجرجاني، ألا تتناقض بذلك مع أفكارك ؟ وألا يدل أخذك بما ذهب إليه الجرجاني على صلاحية منجزات الموروث للاستمرار في المستقبل ؟ لو أنني قلت عن الجرجاني إنه «ثابت» و «اتباعي»، لكنت متناقضا. غير أنني أعده مبدعا، والإبداع «لا يمضي» بل يظل «حاضرا». وما أنجزه الجرجاني، أنجزه ضد «الموروث الثابت»: كان بتعبير آخر، «ثورة» على الثابت. هذه «الثورة» التي كانت متواصلة، والتي يمثلها «التحول» ، هي التي تعطي لتراثنا قيمته. «الثابت» تقليد وتكرار، والتحول إبداع وتجاوز. وهذا ما عملت على التأسيس له في دراساتي النقدية حول التراث العربي الشعري والنثري، وتوجته بتقويم عملي: اختيار ممثلي الإبداع الشعري، وإصدار المختارات في أربعة أجزاء باسم «ديوان الشعر العربي» (دار الساقي )؛ واختيار ممثلي الإبداع في النثر العربي، وإصدار المختارات في أربعة أجزاء أيضا، باسم «ديوان النثر العربي» ، (دار بدايات، دار التكوين، دمشق ). وإذن لا يصح القول عن شخص قام بهذا كله، وهو قول شائع، ويا للأسف، بأنه يرفض بشكل قاطع «الاحتذاء بالموروث على صعيد التقاليد الإبداعية والمعايير الجمالية». وفقا لتعبيرك. صحيح أنني لا أحتذي بالموروث لكنه يشكل جذوري. خلصت في «الثابت والمتحول» إلى أن «علم جمال الشعر وباختصار علم الجمال، ليس علم جمال الثابت وإنما علم جمال المتغير» ، ألا ترى أن إقامة التقابل في هذا الاستنتاج بين الثابت والمتغير تقوم على أساس خاطئ في الإشارة إلى مصدر الشعور بالجمال بالنسبة للإنسان فالمصدر ليس الثابت أو المتغير؟ على أساس أن «المتغير» أو «المتحول» يتضمن، بالضرورة، «قولا جديدا»، و «طرقا» جديدة في التعبير عنه. وأنه يقدم، إذن، جمالا غير مكرور، ويفتح للذائقة الفنية أفقا جديدا. التأمّل والاستبصار كيف يمكن التأسيس لذائقة شعرية تستوعب نصوص الإبداع الشعري مع الأخذ بعلم جمال المتغير ؟ وما معايير الذائقة الشعرية التي تطرحها داخل علم جمال المتغير ؟ وما مصدر هذه المعايير ؟ لا بد لتذوق الشعر والفن من ثقافة شعرية وفنية كبيرة. وتلك هي مشكلة التذوق والقراءة عندنا في المجتمع العربي. فليس لقارىء الشعر عندنا في الغالب ثقافة شعرية. فهذا القارىء لا يعرف حتى تراثه الشعري في اللغة العربية، ولا يعرف أسرار التقنية الشعرية، ومعنى اللغة الشعرية. ولهذا فإن تذوقه يعتمد على الانفعالات والمشاعر الأولية السطحية وليس على التأمل والاستبصار. مع إعطاء القيمة في جودة الإبداع إلى التغيير والتجريب في ذائقة المتغير، هل يبقى هناك مجال لعمل الثقافة الفنية ؟ وكيف يمكن تشكيل ثقافة فنية مناظرة لحساسية كل نص شعري؟ الشعر العظيم لا يوصف بأنه «قديم» إلا من حيث الزمن. فهذا الشعر هو دائما «حديث». جلجامش ملحمة شعرية «حديثة»، وكذلك الإلياذة، والأوديسية، امرؤ القيس، أبو نواس، المتنبي، المعري شعراء «حديثون». «الحداثة» هنا قيمة ذاتية في النص تتمثل في حيويته: لا نفاد له، ويظل قادرا على أن يتحاور مع القارىء. يظل «حاضرا» ، وإن كان مكتوبا في «ماضٍ قديم». وذلك هو «سر الإبداع» و «معناه». تنظر إلى الشاعر على أنه ذاتا مطلقة، «فالشاعر شعريا هو كل شيء» كما ذكرت، فكيف يمكن الأخذ بهذه النظرة أو تحقيق أفقها في ضوء ما هو قائم في الواقع من كون الشاعر عبارة عن إنسان يتمتع بهوية متعينة وفق حدود ومعالم وليس ذاتا مطلقة أو موضوعا مطلقا ؟ طبعا الشاعر «ليس ذاتا مطلقة» ، غير أنه «يشعر بما لا يشعر به غيره»، كما عبر أسلافنا القدامى. ويعني ذلك أنه «يتفاعل» مع من سبقه، غير أنه «لا يكرره»، وإنما يحيد عنه لكي يقدر أن يأتي بشيء جديد. أن تكتب شعرا هو أن تكون «جديدا» دائما. وفق رؤيتك للحداثة كيف للشاعر أن يحدث شعره في إطار من التحرر الكامل من النماذج الإبداعية السابقة له رغم امتزاجها بنسيج تكوينه الواعي واللاواعي ؟ لا يتحرر تحررا كاملا من الإبداعات الشعرية السابقة إلا الشاعر الجاهل؛ وهذا الشاعر الجاهل لا يصح أن يسمى شاعرا. الشاعر الذي يحق له بأن يسمى كذلك هو الذي يعرف المبدعين الذين سبقوه، ويتمثلهم، و «يحيد» عنهم، لكي يقدم «إضافة» ما.. المبدع «أخ» للمبدع لكن في تباين واختلاف كاملين. الشعر رؤية شمولية ما أسباب ظاهرة الغموض التي استلفتت نظر الدارسين لشعرك ؟ وهل يمكن الرجوع بأسباب الغموض أو بعضها إلى رؤيتك للمسائل الكلية حيث قلت «عندما نقول شعرا نقول ضمنا الإنسان والوجود والصيرورة وفي هذه تنطوى القضايا الكبرى كلها» ؟ السبب الأساس يعود ، كما أرى، إلى أمور عدة، منها أنني لا أسير في كتابة الشعر على «الطرق المعبدة». ومنها أنني لا أفصل بين الشعر والفكر: القصيدة شعر فكر لا يتجزآن. ومنها أنني أصدر في كتابة الشعر عن رؤية للإنسان والعالم والفن تخالف كليا الرؤية السائدة في المجتمع العربي. وهي رؤية ترتبط بالوجود والمصير وقضاياهما الكبرى. ومنها رفضي القاطع أن يكون الشعر أداة لخدمة أية قضية دفاعا أو وصفا. ليس الشعر أداة أو إناء تسكب فيه القضايا، بل رؤية شمولية لا تنفصل فيها القضايا العامة عن سائر الهواجس والحالات الذاتية. جميع القضايا وسائل لخدمة الشعر فنيا، وعلى الشاعر أن يعرف جيدا كيف يستخدمها، دون أن يصبح أسيرا لها. ومنها كذلك طبيعة اللغة الشعرية التي أكتب بها. فهي لغة جمالية مركبة قوامها العلاقات المركبة بين الأشياء والكلمات من جهة، والمخيلة والصور من جهةٍ ثانية. أمام استغلاق نصك الشعري كمثال لتيار شعر الحداثة، ما رؤيتك لعلاقة الغموض ببنية النص الشعري لاسيما بعد طغيانه على مساحة التواصل مع المتلقي ؟ وعلى أي أساس تحمل المتلقي مسؤولية إدراك مضامين النص في تجارب إبداعية كتلك ؟ مشكلة الشعر العربي اليوم، ليست في داخل الشعر نفسه، وإنما هي في «الخارج» : في القراءة والتلقّي والقارىء. وهي إذن مشكلة ثقافية اجتماعية عامة. بتعبير آخر: مشكلة الكتابة العربية اليوم، هي في المقام الأول، مشكلة قراءة. لا تقرأ القصيدة كما تقرأ الجريدة. وليست القصيدة خبرا عن حالة أو عرضا لقناعة. القصيدة المبدعة رؤية للعالم وظل لحالات إنسانية. تقرأ بالتأمل والمساءلة قدر ما تقرأ بالتذوق اللغوي الفني. إرادة الشعوب تحمست للربيع العربي في البداية واعتبرته خرقا للعادة وحدثا فريدا بإبطاله منطق العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ثم تحولت عن موقفك بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم رغم قدومهم بتفويض شعبي، فلماذا لا تحترم خيارات إرادة الشعوب العربية أسوة باحترامك لغيرها ؟ لاأزال متحمسا، من حيث المبدأ والجوهر. وقلت وأقول إنني أحترم إرادة الشعوب وخياراتها الديمقراطية، لكنني قلت وأقول، من حقّي أن أعارض «الحكم» أيا كان. وأنا عارضت وأعارض كل حكم يقوم على الدين المسيس، بشكل أو آخر. وأعارض كذلك كل حكم يقوم على التسلط المطلق أو الديكتاتورية أيا كان الشعار. المجتمع مواطنية، مدنية، حيث يتساوى أفراده، في معزل عن الانتماءات الدينية أو الإتنية. والدين تجربة لا شأن لها في السياسة. الدين مطلقات لا تتغير وشعائر وقضايا إيمان. والحكم شأن زمني دنيوي عملي وإدارة لمتغيرات الحياة تأخذ بالاعتبار كل مواطن بصرف النظر عن جنسه ومعتقده .عندما يتسيس الدين لا يمكن إلا أن يستدرج إلى المتحولات. وهذا يحوله إلى مجرد أداة سياسية. أولا ترى أن أدونيس في تناقضات هذا الموقف ينفي الآخر وأسيرا للانطباعات المسبقة؟ هل ترى تناقضا، بعد أن أوضحت لك موقفي في سؤالك السابق، وأين هو؟ تردد دائما أن التغيير في العالم العربي مشروط بالتحول الحقيقي لتأسيس المجتمع المدني ولا خلاف على ذلك، لكن أي صواب في إصرارك على ضرورة تطابق صيغة التأسيس مع النموذج الأوروبي رغم ما يعانيه من اختلال في العلاقة بين الفرد والمجتمع؟ لم أقل أبدا إن على العرب أن يحتذوا «النموذج الأوروبي» . لكن قلت إن أوروبا لم تصل إلى الديمقراطية إلا بعد أن حررت السلطة من قبضة الكنيسة وتاريخ محاكم التفتيش. ومع ذلك لاتزال معظم بلدان أوروبا تتعثر في ديمقراطيتها. فإذا كان العرب يريدون فعلا الوصول إلى مجتمع مدني ديمقراطي يتساوى فيه الجميع، فمن المستحيل أن يصلوا إلى ذلك عن طريق الدين المسيس. لا تقدر الحياة المدنية أن تخضع إلا للقانون (القابل للتغير والتعديل بحسب الظروف والأحوال العامة المشتركة). القضايا المصيرية الكبرى ما مسوغات نفيك لاضطلاع المثقف العربي بأي دور في المجتمع العربي ؟ ولماذا تحصر رؤيتك لدور المثقف في المجتمع العربي في إطار علاقته بالسلطة وتغفل الأبعاد التثقيفية والمعرفية التي تستوعب مهامه في تعميق الوعي ؟ وما رؤيتك لدور المثقف العربي في الظروف التي يحياها ؟ لكي يكون للمثقف العربي دور في المجتمع الذي ينتمي إليه، لا بد أولا من أن يكون هذا المجتمع معترِفا به بوصفه كائنا حرا، ومعترفا بمشروعية حقه في الرأي: كائنا حرا، سيد نفسه وحياته وفكره، وليس موظفا، أو داعية. والواقع نقيض لذلك. فالمثقّف العربي يعد موظفا في نظر السلطة: يبشر، ويعلم، ويدعو ... إلخ، لأن السلطة العربية إلا باستثناء نادر، هي سلطة مطلقة. كذلك تعد الثقافة العربية، في نظر هذه السلطة، مجرد وظيفة لخدمة المجتمع، أو الدولة، وليست بحثا حرا ومستقلا في جميع الميادين. الثقافة هي، في جوهرها نقد: لا نقد للممارسات السياسية أو الاجتماعية، اليومية وحدها، كما هو حاصل في الحياة العربية. وإنما هي نقد للرؤى، وللمسلمات، وللأسس، ماضيا وحاضرا. وهو ما يتناقض مع الثقافة السائدة. فنحن نعيش في ظل ثقافة لا تجرؤ على الخوض في القضايا المصيرية أو الإنسانية أو الثقافية الكبرى. فمن أين يكون للمثقف العربي دور، إلا دور الداعية لهذا الاتجاه أو ذاك، لهذا النظام أو ذاك، لهذا الحزب أو ذاك؟ ولا مجال لمبدأ حرية الرأي الذي يعني أن الرأي يدفع أو يناقش بالرأي، لا بمختلف العقوبات المعروفة في العالم العربي. علينا أولا أن نعطي للمثقف حرية البحث والقول في جميع المجالات، وأولها المجال الفكري، ثم بعد ذلك نطالبه بأن يكون له دور. ما تقييمك لإنتاج المبدعين السعوديين إبداعا ونقدا ؟ وما تقديرك في هذا السياق لحصد بعض الروائيين السعوديين في السنوات الأخيرة لجائزة البوكر ؟ تحدثت ماضيا في مناسبات مختلفة عن إعجابي بالنتاج الأدبي، شعرا وسردا، وبالحركة التشكيلية، في بلدان الجزيرة العربية والخليج، خصوصا في السعودية. ولي بين ممثلي هاتين الحركتين صداقات عميقة وقديمة. غير أن اطلاعي على هاتين الحركتين في السنوات الأخيرة، كان محدودا، بسبب ظروفي الخاصة، إضافة إلى الظروف العامة. وهذا بالنسبة إلي، عائق معرفي مهم لا يسمح لي بالإجابة اللازمة. اختلاف الوسيلة لا الغاية شكل موقف أدونيس من الأزمة السورية صدمة للمثقفين ورأى الكثير منهم أنك تحللت من جميع الشعارات والقيم التي طالما دعوت لها خلال مسيرتك الثقافية، فما تعليقك ؟ لا أختلف في الموقف من الأزمة السورية والربيع العربي بعامة، مع القوى المعارضة في الغاية، وإنما أختلف في الوسيلة. وكنت بين أوائل الأسماء الموقعة على بيان المثقفين المعارضين، وهو البيان الدمشقي الأول. كما كنت بين أوائل من وقفوا إلى جانب الحركة التغييرية في تونس ومصر، وكتبت كثيرا حول النظام في سورية، وحول ضرورات تغييره. غير أنني صدِمت بتحول هذه القوى من العمل في الإطار السلمي الديمقراطي الشعبي، المدني، إلى العمل عنفيا، وبالسلاح. وأوجز أسباب اختلافي مع هذه القوى في ما يلي: اللجوء إلى العنف المسلح. الدعوة إلى التدخل الأجنبي، سياسيا وعسكريا. الخطاب الديني المذهبي حيث يختلط السياسي بالديني على نحوٍ يتنافى كليا مع الحرية ومع الديمقراطية، وأعد نفسي، للمناسبة، مستقلا تماما، ولا أعمل جماعيا، وإنما أعمل مفردا: ضد الطغيان في جميع أشكاله، وضد العنف في جميع أشكاله. ولست في حاجة إلى استعراض مواقفي وما نالني من النظام السوري بدءا من 1956 عندما تركت سورية، حتى الآن.