يغدو التعامل مع اللغة الأمِّ مشوبًا بكثير من التحديات في ظلِّ عولمة الثقافة، ثمة مزاحمة لسانية مع لغات أكثر سطوة وحضورًا، وبالنظر إلى أن أي فكرة تنقلها اللغة هي - في نهاية الأمر - منتج يحيا بالحضور والانتشار، فإنَّ سوق التلقي المغرية هي تلك التي تقع في وسط لغوي يبلغ بها حدَّ هذا الحضور المرضي. ما الذي يفعله منتجو الأفكار بلغاتهم الأمِّ قليلة الانتشار حين يقعون في المنطقة القلقة بين الشعور بالانتماء التكوُّني الأولي للغتهم الأمِّ، والتفكير المنطقي تجاه أحقيَّة الأفكار في الانتشار والتوسُّع؟ في هذه المنطقة يعاني كثير من الأدباء صراعًا مردُّه قلق الوصول إلى مقروئيَّة كافية لأعمالهم، بل قلق الحيرة بين أن يكون مقروءًا، أو أن يكون منتميًا! حين اختار الكاتب الروماني إميل سيوران أن يكتب باللغة الفرنسيَّة بعد إقامته في باريس توصَّل إلى أن عليه أن يتخلَّص من لغته الأمِّ منطلقًا من فكرة الرغبة في الرواج التي تحقِّقها الفرنسيَّة قياسًا بلغته الرومانيَّة، وبلغته الحادَّة عبَّر عن موقفه تجاه لغته الأمِّ، اللغة التي لم تحقِّق للأديب الذي ينتمي إليها ما يرجوه من مقروئيَّة حين قال: «من الأفضل أن يكون المرء مؤلِّف أوبريت على أن يكون صاحب ستَّة كتب في لغة لا يفهمها أحد»**، يُفصح سيوران - بقوله هذا - عن أكثر كوابيس الأديب قسوة: ألاَّ يكون مقروءًا، وحين يتخلَّص كاتب من لغته الأمِّ فإنَّه يقرِّر - حينئذٍ - أن يسبِّب لنفسه يتمًا طوعيًّا اختياريًّا يفصله عن لغته التي سقته لبأ أفكاره الأولى! يمكننا أن نتصوَّر حرائق الأفكار التي يعبرها أديبٌ قبل أن يتخلَّى - طواعيَّة - عن لغته ليحقِّق انتماء لغويًّا مجزيًا أدبيًا بالنسبة إليه، ويمكن أن نقيس على ذلك كلَّ قطيعة تحدث مع اللغة الأمِّ لتحقيق انتماء مجزٍ تعليميًّا، أو وظيفيًّا، أو عمليًّا بالنسبة إلى جيل الشباب الصاعد نحو المستقبل. والسؤال هنا: أيُلام المتخلي مختارًا عن لغته بحثًا عمَّا هو مجزٍ بالنسبة إليه؟ أم تُلام الثقافة التي عجزت أن تصعِّد لغتها إلى مصافِّ المنافسة كي تحقِّق اكتفاء مُرضيًا للمتكلمين بها؟! بشكل أقل قسوة يحكي الأديب الأرجنتيني المشهور: خورخي بورخيس موقفًا مع مواطنه (اللُّغوي) بابلو نيرودا، ومحور الحديث هو اللغة أيضاً - اللغة الإسبانيَّة تحديداً - حيث إشكال الكتابة بلغة تبدو أقل انتشارًا وحضورًا بالنسبة إلى اللغة الإنجليزيَّة يقول بورخيس: «التقينا ببعضنا قبل أربعين سنة. كنَّا نحن الاثنين - في ذلك الوقت - متأثرين بويتمان، وقلتُ نصف ممازح: لا أعتقد أنَّ هناك ما يمكن صنعه باللغة الإسبانيَّة، هل تعتقد بذلك أنت أيضًا؟ وافقني نيرودا، لكنَّه قرَّر أنَّه فات أوان أن نكتب نصوصنا باللغة الإنجليزيَّة. وأنَّ علينا بذل الجهد لإخراج الأفضل من أدب هو من الدرجة الثانية»***! لا يبدو الأدب المكتوب باللغة الإسبانيَّة (أدبًا من الدرجة الثانية) بالنسبة إلى قرَّائه، لكنَّها سطوة اللغات الغالبة المنتشرة، وسطوة الثقافة التي هي (الأب الروحي للغة). يختار (نيرودا) أن يدعم اللغة الأقل انتشارًا بإنتاج أدب عالٍ، أن يضخَّ الروح في اللغة من خلال الكتابة الأدبية الفائقة! بالنسبة إلى اللغة العربيَّة فإنَّ سلطة الثقافة الغالبة -في أزمنة الازدهار والسطوة- حقَّقت للعربيَّة انتشارها؛ إذ ذهبت مسافرة برًّا وبحرًا في عقول أصحابها، ثم تمدَّدت في مَهاجرهم الجديدة، فحدثَ -حينئذٍ- فتحٌ جغرافيٌّ ولغوي، حيثُ آلاف الوافدين الجدد الذين تحقَّق انتماؤهم إلى العربيَّة، بل وحسُن انتماء بعضهم إلى حدِّ اعتلاء صهوة بيان العربيَّة وعلومها، وصاروا ينفحون هذه اللغة من مادة عقولهم ما يملؤها، ويزيدها قوَّة، وحضورًا. الآن يبدو أنَّ الآية قد انقلبت، وتوشك اللغة أن تتحوَّل من مُزاحِمةً إلى مُزاحَمَةٍ في مكانها أحيانًا، وفي أسوأ أحوال الاغتراب عن اللغة الأمِّ يكون التخلِّي الطوعي شكلاً من أشكال التخفُّف من تبعات النمط، وصورته الغالبة: الضعف والرجعيَّة والتخلف. وهذا يبيِّن خطر ما تخلِّفه الثقافات والأحوال في لغاتها، وفي النهاية فإنَّ كلَّ استكانة لشعور التقزُّم يُفقد العالم لغةً، ويقطع لسانًا من فم الوجود؛ فلا يمكن للغة - وحدها - أن تقاوم في معركة الوجود الثقافي! إنَّ اللغة - في نهاية الأمر - وجه من وجوه الثقافة، تتصل قيمتها بقيمة ما تنقله، وما تصوِّره، وما تمثِّله؛ وهنا يكمن أخطر ما يحصل للغة: التصوُّر القبلي للغات بناء على الجغرافيا التي قدمت منها، مثلها مثل أي منتج آخر تروِّج له الصورة النمطيَّة الشائعة، يمكن أن ننظر إلى ما تمثِّله كلمة مثل: (الله أكبر) في وسط غربي متعصِّب لا يتصوَّر الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة إلاَّ رجعيَّة، ومتخلِّفة، وإرهابيَّة! ويمكن مثلاً ملاحظة حضور اللغة التركيَّة في جيل من المراهقين والشباب تبعًا للصورة المحسَّنة التي نقلتها الدراما التركيَّة. لنعد إلى الأدب، حيث تحقِّق الهجرة إلى دول أوربا وأمريكا منفعة ثقافيَّة للغات تلك الدول عبر الإضافة النوعيَّة التي يقدِّمها الأديب المهاجر؛ إذ يبدو أنَّ هذا الأديب يستعمل لغة مهجره لتنقذه، فإذا هي التي تستعمله؛ فكلُّ منتج أدبي يقدِّمه أديب مهاجر هو رصيد يُضاف إلى ثقافتها، تبدو الهجرة اللُّغوية هذه شكلاً من أشكال الاستقطاب غير المتعمَّد، قوَّة ناعمة تسند الثقافة المحليَّة برؤى، وأفكار جديدة؛ لأن الكتابة الأدبية هي وسيلة إخصاب اللغة؛ فاللغة تتمدَّد مجازيًّا وصوريًّا من خلال ممارستها كتابيًّا، وتنمو قوالبها، وتعبيراتها الاصطلاحيَّة، وتزداد ذخيرتها من التراكيب حين تُشرق في سطور الكتابة - الكتابة الإبداعيَّة على وجه الخصوص -، فهناك ما يُفقد في لغة ويُكتسب في لغة أخرى بسبب هذه الهجرة المكانيَّة أوَّلاً، واللسانية ثانيًا، وقد حصدت طائفة من الأدباء المهاجرين من إفريقيا وآسيا جوائز الإبداع الأدبي في دول أوربا محققين للغات تلك الدول أسمى درجات الوجود: الاستعمال الأعلى للغة عبر تدوينها جماليًّا. ** ** - أكاديمية وكاتبة - الرياض. المياه كلُّها بلون الغرق: إميل سيوران، ت: آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا، 2003م. مقدِّمة المترجم ص14. كتاب التساؤلات: بابلو نيرودا، ت: سحر أحمد، أزمنة للنشر، عمَّان، ط1، 2006م. المقدِّمة ص10.