تسمع في الشارع الأوروبي همسات لغوية متنوعة، في الساحات العامة، في المقاهي، في المحال التجارية أو في مداخل صالات السينما، كأنك في واحدة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي. تسمع لغات تقودك الى أنحاء الخريطة الثقافية - العرقية للاتحاد الأوروبي. قد تكون هذه لغة أحد شعوب البلطيق وتلك سلافية من البلقان أو جرمانية أو من شمال أوروبا، إضافة إلى اللغات اللاتينية التي عهدتها أذنك، أنت العربي، على مدى قرون. شارع اللغات الأوروبية في بروكسيل حيث توجد مؤسسات الاتحاد الذي ارتفع عدد أعضائه إلى سبعة وعشرين بلداً، من البرتغال واسبانيا في الجنوب الغربي الشريكين في اللغة مع شعوب أميركا اللاتينية، إلى منطقة البلطيق في الشمال الشرقي حيث تختلط اللغات مع شعوب متاخمة في روسيا وشمال أوروبا، إلى الجنوب الشرقي للقارة حيث تختلط اللغات السلافية مع اللاتينية. وتتحول خريطة اللغات إلى فسيفساء ثقافية عبر القارة وداخل كل بلد فيها، إذ تشجع مؤسسات الاتحاد التعبيرات اللغوية والثقافية المحلية، لأن أوروبا قامت وتظل تقوم على التنوع، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً في زمن العولمة وهيمنة لغات نقل التكنولوجيا والمعلومات والخدمات. هذا التنوع يتسبب بكلفة مالية باهظة تتحملها الخزانة المشتركة لترجمة مئات الأطنان من الوثائق الرسمية ومداولات الاجتماعات بين 27 بلداً يتحدث ممثلوها ب22 لغة رسمية الى طاولات الاجتماعات، يتساوى أهلها في الحقوق، مهما كان الحجم العددي لكل بلد ولمتحدثي كل لغة. الثراء غير المحدود للمشهد اللغوي دفع المفوضية الأوروبية إلى الاستعانة برأي مجموعة من المفكرين، على رأسهم الكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف ليدرسوا"تأثير تعدد اللغات في الحوار الثقافي والتفاهم بين المواطنين في الاتحاد الأوروبي". طرح المفكرون المجتمعون في مطلع 2008 عام الحوار بين الثقافات، تساؤلات عن مدى تأثير تعدد اللغات في الاندماج الأوروبي، واستنتجوا في مقدمة تقريرهم أن"التجربة التي تخوضها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تمثل أفضل تجربة واعدة شهدها العالم"، ورأوا ان"الإدارة الحكيمة للتنوع اللغوي، الثقافي والديني قد توفر أنموذج المرجعية الضرورية للمجموعة الدولية ولشعوب الأرض التي تعاني عواقب فوضى إدارة تنوعها". وشكل التقرير مادة دسمة لأول اجتماع عقد على مستوى وزراء التعليم والثقافة حول موضوع تعدد الثقافات الجمعة 15 شباط فبراير الجاري في بروكسيل. وضم فريق المفكرين عشرة أشخاص ينشطون في مجامع اللغة والمؤسسات الثقافية وفي مجال الإبداع الأدبي. ويتواصل نقاش مقترحاتهم ووجهات نظر البلدان الأعضاء في غضون أشهر، تمهيداً لتقديم المفوضية"استراتيجية أوروبية في مجال تعدد اللغات وآليات تنفيذها"في أيلول سبتمبر المقبل. ويبدي عضو المفوضية المسؤول عن ملف التعدد اللغوي حذراً شديداً في تناول مسائل تعدد اللغات من دون ترتيب أهميتها، حتى لا يثير حفيظة الأوساط المناهضة لمسيرة الاندماج الأوروبي والتي قد ترى في تدخل المؤسسات المشتركة في مجالات اللغة"سطواً على ثقافتها". وقال ليونار اوربان"إن اللغة سلاح"، وتقتضي حسن الاستخدام لئلا تتحول الى وسيلة لمناهضة الاندماج في الاتحاد. المبادئ وبقدر ما يشكل التعدد والتنوع اللغوي ثروة للاتحاد غير محدودة، يمثل من ناحية أخرى حملاً ثقيلاً على الموازنة الأوروبية ويتطلب وقتاً طويلاً من أقسام الترجمة لنقل النصوص إلى لغات شعوب الاتحاد. وقد يثير ارتفاع الكلفة المالية في زمن القيود على الموازنة افتراض استخدام الانكليزية في مثابة لغة العمل الرئيسة لدى مؤسسات الاتحاد، كونها الأكثر تداولاً بين الموظفين إلى جانب اللغتين الفرنسية والالمانية. ويرد المفكرون في شكل فوري على الافتراض بأنه"غير سليم ومضر بالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية للقارة ولمواطنيها مهما كانت لغتهم الأم، فضلاً عن كون الافتراض مناقضاً لروح المشروع الأوروبي"القائم أساساً على التنوع اللغوي، إذ"قامت غالبية الأمم الأوروبية على قاعدة الهوية اللغوية، ولا يمكن بناء الاتحاد أن يعلو سوى على قاعدة التنوع اللغوي". ويتناول المفكرون التساؤلات حول الهوية الأوروبية بعد أكثر من نصف قرن على تجربة الاندماج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وفي ظل التغيرات الكبيرة والحاسمة على الصعيد الدولي. ويرون ان"أوروبا تتساءل عن هويتها وتحديد مضمونها، من دون ممارسة الإقصاء ومع بقائها منفتحة على العالم". ويعتقدون بأن هذا الطرح منطقي ونابع من القناعة بأن التنوع يساعد في المعالجة الهادئة، فالهوية الأوروبية"ليست صفحة بيضاء ولا هي صفحة مكتوبة ومطبوعة. إنها صفحة في طور الكتابة. فهناك تراث مشترك فني، فكري، مادي ومعنوي ذو ثروة مذهلة قلّ ما يساويه في التاريخ البشري، وهو قائم على توالي الأجيال ويستحق الحفاظ عليه والاعتراف به والاشتراك فيه. ويحق لكل أوروبي أينما يعيش وأياً كان أن يعلن حقه في ملكية التراث من دون كبرياء ولكن بكل فخر". ويساهم كل جيل وكل فرد في إثراء التراث الجماعي في مختلف المجالات ومن دون حدود، وفق حساسية كل شخص والتأثيرات الواردة في العصر الحديث من كل صوب. لذلك يتوجب تشجيع الوافدين الى أوروبا - العبارة تشمل أيضاً المهاجرين ورعايا البلدان الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي وكذلك الشباب الأوروبيين في دول الاتحاد - على السير في طريق الرغبة المزدوجة:"رغبة المشاركة في إثراء التراث الجماعي والرغبة في تقديم مساهمتهم الشباب الخاصة". ويعتقد المفكرون بأن التنوع الثقافي واللغوي يمثل جزءاً من هوية تشمل أيضاً قيما إنسانية مشتركة مع شعوب العالم. ويقولون في التقرير:"إذا كان من الضروري لأوروبا تشجيع تنوع التعبيرات الثقافية، فمن واجبها أيضاً تأكيد اشتراكها في القيم الإنسانية"، لأن انخراطها في القيم الأساسية"كان سبب قيامها"غداة الحرب العالمية الثانية. وقد بني الاتحاد الأوروبي على أسس"مناهضة الحروب المبيدة والمبادرات الشمولية وضد العنصرية واللاسامية. كما تزامن انطلاق تجربة الاندماج الأوروبي في منتصف القرن الماضي مع بداية نهاية عهد الاستعمار وبدء تغير طبيعة العلاقات التي تربط أوروبا ببقية العالم". واختزل المفكرون المبادئ التي قامت عليها التجربة الأوروبية في محورين أساسيين: التزام القيم الأخلاقية على الصعيد العالمي، وتنوع التعبيرات الثقافية، خصوصاً التنوع اللغوي الذي يمثل، لأسباب تاريخية، أداة مميزة للاندماج والانسجام. المقترحات وانطلاقاً من مبدأ ازدواجية التنوع الثقافي وعولمة القيم الإنسانية، يقترح المفكرون على الأوروبيين حزمة أفكار طموحة تشجع انتشار اللغات من دون استثناء وتعزز أدوات الاندماج الأوروبي وتكون قابلة للتنفيذ، فيدعون إلى اعتماد العلاقات الثنائية بين كل شعبين متجاورين على لغتيهما، فيضمنان نموهما في شكل متوازن، وإلى أن يشجع الاتحاد الأوروبي مفهوم"اللغة الشخصية بالتبني"، ويعني"تشجيع كل مواطن أوروبي على اختيار لغة تميزه، تكون مختلفة عن لغة هويته ومختلفة أيضاً عن لغة التواصل الدولية". ويوضح المفكرون في تقريرهم إلى المفوضية أن"اللغة الشخصية بالتبني"ليست لغة أجنبية ثانية وإنما تكاد تكون لغة أم ثانية، وإجادتها تواكب الإلمام بثقافة أو أدب أو تاريخ البلد الذي يتحدث بها. ويشجع هذا المقترح المواطنين الأوروبيين على اتخاذ قرارين مهمين في مجال التحدث اللغوي، الأول ويتعلق بالحاجة إلى التواصل مع العالم الخارجي، والثاني تمليه الدوافع الشخصية المتصلة بسيرة كل مواطن وبيئته الاجتماعية والعائلية والعاطفية والثقافية والفكرية. ويلاحظ المفكرون أن"خيار اللغة الشخصية بالتبني سيكون غير محدود. ولا شك في أن غالبية الأوروبيين ستختار واحدة من اللغات الكبيرة التي اضطلعت بدور عام في تاريخ القارة". وبذلك، فإن المنهجية الجديدة ستوقف بعض اتجاهات تراجع لغات أوروبية كانت واسعة الانتشار. وفي الوقت نفسه، فإن لغات الأقليات ستشهد توسعاً وديناميكية ثقافية."ويقتضي مفهوم اللغة الشخصية بالتبني أن يختار المواطن لغته مثلما يختار بحرية توجهه المهني". وأن يتحدث المرء لغة نادرة، فذلك يعني انه يتزود حظوظاً أوفر في مجالات مهنية متخصصة. ويستنتج المفكرون أن واحدة من نتائج مقترح"اللغة الشخصية بالتبني"هي"أن تحافظ كل لغة أوروبية على موقعها المميز في العلاقات الثنائية بين الشركاء الأوروبيين وألاّ تخشى أية لغة على مستقبلها وألاّ يتهددها الانقراض". ويحذرون من جهة ثانية من عواقب الاستخفاف بموقع اللغة كأداة ثقافية وسياسية، وكتبوا أن"تجاهل اللغة يعني المخاطرة بأن يدير المتحدثون بلسانها ظهرهم للمشروع الأوروبي، فلا أحد يقبل الانخراط بحماسة في المشروع الأوروبي إذا كان لديه شعور بأن ثقافته ولغته لا تلقيان الاحترام الذي تقتضيانه، وإذا كان يحس بأن المشروع الاندماجي لا يساعد لغته وثقافته على الانعتاق بل يهددهما بخطر التهميش". النتائج المحتلمة ويقدم المفكرون ملاحظات بديهية حول الفوائد الثقافية التي يجنيها الأوروبيون من الإقبال المكثف على اللغة"لأن تعلم لغة إضافية يفتح آفاقاً ثقافية واسعة في حضارة يكتسب فيها التواصل أهمية كبيرة ويضاعف الفوائد المهنية والمتعة الفكرية والعاطفية". كما أن تعلم"اللغة الشخصية بالتبني"يساعد في تطوير فكر الانفتاح على ثقافة الآخرين ويقود في النهاية إلى تقوية شعور الانتماء الى أوروبا من دون المساس بالانتماء إلى اللغة والثقافة الأصل. وعلى الصعيد المهني، فإن اللغة لا تفلت من تبعات العولمة. ولا شك في أن اللغة الانكليزية ستظل أكثر فأكثر ضرورية لكنها لن تكون كافية. ويفضل أن يتميز المرشح لوظيفة بمعرفة لغة أخرى أو أكثر غير لغة التواصل العالمي. وبالنسبة الى الأوروبيين الذين تمثل لغتهم الأم واحدة من اللغات الواسعة الانتشار، مثل البريطانيين، فإن الإلمام بپ"اللغة الشخصية بالتبني"يبدو أمراً أكثر حيوية مقارنة بالآخرين، لئلا ينغلقوا داخل وحدانية لغتهم. ويتوقع أن يزيد مفهوم"اللغة الشخصية بالتبني"بين بلدين متجاورين في تحسن العلاقات والتفاهم بينهما. ومن البديهي أن يزداد التفاهم إذا كان الإلمام أوسع بلغة الطرف المقابل أو الجار. وتفيد دراسات حديثة بأن المفاوضات التجارية تكون أنجح عندما يمتلك كل من الأطراف فيها حرية النطق بلغته. كما يكتسب الإلمام بلغة الجار، إذا كان عدواً في السابق، بعداً رمزياً يزيد في توثيق روابط السلم والتعاون، كما هو الشأن إلى حد معين بين الألمان والفرنسيين. ولوحظ أيضاً أن التحدث بلغة التواصل الدولية يكون أحياناً على حساب لغة البلد الجار، والأمر ينطبق أيضاً على ألمانيا وفرنسا. وتنطبق نظرية"اللغة الشخصية بالتبني"على علاقات أوروبا بالعالم. وإذا كان أمر تحدث لغة أوروبية غير اللغة الأم بديهياً بالنسبة الى أجيال الأوروبيين، فإن كثيرين منهم قد يتجهون أكثر فأكثر لتعلم لغات القارات الأخرى. وتكتسب اللغات الآسيوية أهمية متزايدة مع تصاعد الدور الاقتصادي لبلدان آسيا. ولا يجني الاتحاد سوى الفوائد من أن يلمّ رعاياه بثقافات الشعوب الأخرى ولغاتها."ولاحظ باحث أن رجل أعمال يجيد لغة تواصل دولية في إمكانه شراء ما يريد في أنحاء العالم، وإذا أراد بيع بضائعه فعليه أن يتحدث لغة الشارين". ولا شك في أن من يتحدث بلغة شركائه يتميز عن الذي لا يفعل. المهاجرون"وكرامتهم اللغوية والثقافية" تحتل ظاهرة الهجرة أهمية متزايدة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية للقارة الأوروبية. وتنطبق عليها النظرة نفسها المتصلة بالتنوع والتعدد اللغوي والثقافي ما بين شعوب الاتحاد. ويعتبر المفكرون حركة الهجرة"مصدر ثروة وكذلك مصدر توتر وتمثل ظاهرة معقدة وتقتضي سياسة حكيمة تزيد فوائدها وتقلل مساوئها". ويرون ان لغة البلد المضيف تمثل بالنسبة الى الوافدين"اللغة الشخصية بالتبني"، ويعد الإلمام بها عنصراً أساسياً لاندماج المهاجر في المجتمع المضيف ومساهمته في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، وتمثل أيضاً أداة انخراط المهاجر في المشروع الأوروبي. وفي شكل مواز، فان المفكرين يؤكدون ضرورة أن تفهم الحكومات الأوروبية"الأهمية التي يكتسبها كل مهاجر أو متحدر من الهجرة، من خلال الحفاظ على لغته الأصل. فالشاب الذي يفقد لغة أجداده يفقد أيضاً القدرة على التواصل بهدوء مع أهله، ما يشكل عنصر اضطراب عائلياً ومصدر تولّد العنف". ويشيرون إلى مشكلة الهوية لدى المراهقين من أصل أجنبي ويرون ان"التعصب في تأكيد الهوية ينجم عن شعور بالذنب تجاه ثقافة الأصل ويبرز هذا الشعور من خلال المزايدة الدينية، وبعبارة أخرى فإن المهاجر أو المتحدر من الهجرة الذي يتحدث لغته الأم وله القدرة على نقلها إلى أطفاله ويحس بأن لغته محترمة، لن يحتاج الى تأكيد هويته بإبراز انتمائه الديني". لذلك فإن حفاظ المهاجر على لغته وعلى ما يمكن تسميته"الكرامة اللغوية والثقافية"يمثل العلاج المناسب ضد التعصب."فالانتماء الديني والانتماء الثقافي يمثلان جزءاً من المركبات القوية للهوية، لكنهما يتفاعلان في شكل مختلف. فالانتماء الديني فردي والانتماء اللغوي جماعي". ويبدو في نظر المفكرين أن الفصل بين الانتماءين من خلال"تشجيع العناصر اللغوية والثقافية للهوية ليس على حساب الدين وإنما على حساب استخدام الدين لأغراض تأكيد الهوية"يمثل السبيل لخفض التوتر داخل المجتمعات الأوروبية وفي العالم.