أسئلة وخيالات راودتني، وأنا أستعد لملاقاة سندريلا، التي كتبت بلمعة زجاجها قصة طموح مدهشة، لإنسان ذلك الزمان والمكان، بعصا سحرية تنثر حكايات وأهازيج، وتراث، جسمتها على خشبات المسرح، منذ بدء كتابة أول أحرف الفصل الأول، ومرورًا بأحداث، درامية تراجيدية كوميدية، مستنبطة، ربطت الأحداث، وهمشت الحدود، ورفضت القوالب، فعانقت الفنتازيا، واحترمت الجمهور، يصدق، ويصفق، وتدمع أعينه حزنًا، ثم تعود لتدمع، بقمة بهجتها. اسم سندريلا: ملحة، اسم يهب بنسمات الشيح والريحان، والوفرة، والطلح، ويتبرعم في مواسم ربيع جبال السراة الشاهقة، المتفاخرة بطعم البرشومي، والتين، والفركس، والجنى. شجرة باسقة ارتوت من النيل، وجذورها ملتصقة بتربة منبت أرضها عسير. ملحة عبد الله، تلك الجنوبية الأصيلة، التي صنعت ذاتها للأول، والأعلى والأجود والأندر، في وقت يعُز فيه التكوين، وكنزت مشاعرها حكايات، مكنتها من معانقة أرض وسماء الفن والجمال، والمسرح. قابلتها، مدركًا أنها الكاتبة نفسها، التي أرى مقالاتها على صفحات الرأي في صحيفة الرياض، ومجلة اليمامة، بأسلوب رزين نقي، عميق، ساحر، شاعري، يجعل الكاتب، مثلي، يشعر بالغيرة، وإن لم يصرح. شغف جعلني أتمنى لمس مصباح علاء الدين، ليهبني بعض كنوز تاريخها، ويجعل قصتها ماثلة للأعيان، بنفس سحر ووقع وديمومة الحكاوي الطفولية. وبين ترحيباتها بالألف، والمليون، وقهوتها السعودية، ورائحة البخور أدرتها: * كيف تقدمين ذاتك، لمن يقرأنا؟ ج1: كاتبة تطمح في مس وجدان جمهورها الذي أحبها ووقف معها وصفق لها، ومؤسسات عريقة محلية وعربية ودولية منحتني تلك الثقة، التي جعلتها دستورًا للعطاء الراقي والذي يحترم جمهوره وأهله وقضايا وطنه العربي والمحلي بكل صدق وإخلاص. أنا بنت أبها وأهلها أهلي وقريتي الصغيرة لا تبرح ناظري في شوق ولهفة. o ما نقاط قوتك، وهل البوح أحدها؟ ج2: أولاً الإيمان الذي لا يبارحه اليقين بأنه معي أينما وجهت وجهي، وثانيًا نقاط قوتي هو الصدق الدائم في كل شيء، فأنا لم أعد ملك نفسي، بل ملك جمهوري، الذي أحبني وصدقني ووثق فيَّ، سواء في مقالاتي أم في مسرحياتي أو حتى أشعاري التي احتفظ بها في صندوقي حتى لا تزاحم المسرح الذي يأبى أي قرين. أما البوح فهذا مطلوب في العمل الإبداعي، لكنه بوح الشخصيات التي أكتبها ويجب أن يكون صادقًا، وليس بوح الكاتبة ذاتها، فأنا لا أقحم ذاتي في أعمالي على الإطلاق، وإن كان ذلك كذلك فهو خيانة لصدق الشخوص الذين هم ولست أنا، وأنا كناقدة مسرحية في معيارنا النقدي أن الذاتية عيب كبير في المؤلف، الذي لا يستطيع فصل ذاته عن عالمه المتخيل. وإذا كان هناك بوح لشخصية من الشخصيات فهو عالمها الذي أحمله بالقضايا، وهو بوح يحترم القارئ والمشاهد في عالم من الخيال البحت. * لخصي للقارئ نقاط رحلتك الإنسانية من أبها إلى ما هو أبهى. ج3: القارئ هو جزء مني احترمه فيحترمني في علاقة متبادلة لا تقبل الندية والزهو، بل أضع نفسي مكانه أولاً ثم أخاطبه كأنه نفسي، وما لا أقبله على نفسي لا أقبله على قرائي الكرام، لأنهم أنا في حقيقة الأمر. لقد ذهبت إلى القاهرة لطلب العلم وكنت حينها أرى يقينًا ملحة التي هي الآن، فحملت معي آمالاً وطموحًا كما حملت معي بنت أبها بكل عاداتها وتقاليدها، وجعلت نصب عيني أهلي في أبها وفي السعودية بأن ابنتهم ستكون على قدر ثقتهم. ودخلت أكاديمية الفنون وتخصصت في النقد والدراما وهما وجهي العملة للكاتب، وكنت أعلم أن مسؤولية كبيرة توضع على عاتقي كوني أول امرأة تدرس المسرح في السعودية بالرغم من عدم ترحيب البعض بذلك لكنني كنت أعرف المسرح وثقله المعرفي والفلسفي كواجهة ثقافية يقاس بها تاريخ المجتمعات وحضاراتها. وبعد تخرجي اعتمدت الملحقية الثقافية شهادتي بالرغم من الصعوبات، التي واجهتني في البداية كدارسة مسرح للبعض فيه رأي آخر. o هل كان ما حدث لك مرسومًا برؤيتك، أم أن الأحداث كانت تشكل العجينة، فلا تملكي غير المسايرة والرضا، والتجميل. o ج4: لم أكن أساير الأمور كما تفضلت. بل كنت أشق في الصخر وكنت أعلم أن شهادتي لن تؤهلني للعمل كوني امرأة في المسرح آنذاك، وهذه عقبة ضحيت من أجلها ومن أجل المسرح، والحمد لله النقاد الآن يضعون ملحة علامة فارقة في تاريخ المسرح السعودي قبل وبعد، وهذا شرف كبير سيذكره تاريخ الفن في بلادي وبكل شرف جعلته بين حاجبي. ولو أنني لا أملك إلا المسايرة والتجميل لدخلت كلية أخرى تمنحني وظيفة وعملاً أقتات عليه حينها. o ما قصتك مع المسرح، وهل كان عشقًا، أم فضولاً، أم مزاولة، أم تمازجًا مع مسرح كبير، نعيش فوق خشباته، ونتقمص الأدوار، حتى ولو كانت لا تطابق ذواتنا؟ o ج5: كل ذلك. لكنني فوق ذلك كنت أريد أن أصل بالمسرح السعودي للعالمية وليس المحلية والعربية، فنحن كطلاب ندرس المسرح العالمي ونتطلع على ما يجب أن يكون عليه المسرح، والحمد قد كان لي ما طمحت إليه عندما فزت بجائزة اليونسكو الدولية في نسختها العربية في المسرح، ثم بتكريم الأممالمتحدة (يوناريتس)، وهذا لم يكن سهلاً على الإطلاق، بل جراء كتابة 60 نصًا مسرحيًا أغلبها نال جوائز، وكتابة العديد من الكتب النقدية سواء موسوعات أو كتب نقد مسرحي أو حتى نظريتي (البعد الخامس في التلقي والمسرح)، وأعتقد أنها النظرية العربية المتفردة في المسرح. وكما سبق وقلت لك إن الشخصية لا تطابق ذواتنا أحياناًً لأنها شخصية تبنى بناء دراميًا مستقلاً، ولكن الأهم هو القضايا المجمل بها النص المسرحي. * كيف تقدمين لنا كتاب (الجزيرة العربية، الهوية، الإنسان)، والذي تم تقديره على مستويات عدة. ج6: هو موسوعة في جزأين أبحث فيها عن الهوية العربية، أطمح في تحويلها من المحسوس إلى الملموس - خاصة لما لمحته من محاولات لطمسها- فكانت هذه الموسوعة التي تبدأ بالجزيرة العربية ثم تأخذني قسرًا إلى كل الوطن العربي نتاج تفرع القبائل في الأرجاء، وكنت في هذا الكتاب أحلل وأفسر ذلك التراث المادي والشعبي، بخلاف ما حواه الجزء الأول من تاريخ الحضارة في الجزيرة العربية الذي يمتد إلى 4500 قبل الميلاد، وأفسر ذلك التاريخ وليس لسرده لكي أحصل على ملامح الهوية، التي حصلت عليها في آخر البحث الذي استغرق مني 10 سنوات وأكثر. * لك مع الكلمة والأدب سيرة تحكى، فأنا أشعر بقصصك وأشعارك ومقالاتك تتفجر روعة، وأناقة، وكأن كل كلمة وضعت في مكانها، المخلوقة له، فما الذي يحرك قلمك؟ ج7: أولاً لابد أن يكون الكاتب موسوعيًا لكي ينهل حينما يطلبه القلم، فالقلم لا يعترف بشذات الأفكار على الإطلاق - وهنا الفرق بين المفكر والكاتب العادي أو المبتدئ- ومن هنا لابد من التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والفلسفة، كل ذلك يكون جيشًا مجيشًا حينما تطلبني القضية، فالقضية هي المحرك الأول ولكن دون جنودها أولئك لن يكون لها بريقها وسحرها، بل قد تبدو باهتة أو مصطنعة، ثالثًا الصدق لحظة الكتابة، يغلف كل ذلك الإحساس، الذي إن صدق حصلت تلك العدوى الصادقة بين الكاتب وجمهوره. أنا إذا وجدت قلمي يتعثر لا أرغمه على الكتابة حتى ينسجم ويجري بين أصابعي حينها أدرك أن الموضوع تمام. * كل من يسير حافيًا على جسر، أو يقف على خشبة للبوح، يمتلك من الشجاعة الشيء الكثير، فهل أنت كذلك، أم أنك حالة من الخجل، والنظر للذات بأقل من القدر؟ ج8- لا أدري ماذا تعني بالبوح، فالبوح له قواعد ومسالك ومهالك، وسبق وأن أجبت أنه إذا كانت الشخصية تكتب بصدق فلابد أن تبوح بمكنونها هي، وإلا فنحن نضحك على قرائنا، ولك في مسرحية العازفة والتي فازت بجائزة اليونسكو خير دليل، فهي شخصية تبوح بكل جوانت حياتها على خشبة المسرح. وهذا لا يخجلني على الإطلاق، أما إذا كان البوح هو كسر التابو وجرح الوجدان الجمعي لجمهوري فلا يمكن ذلك، لأني أضع نفسي في مكان الجمهور، وأنا أكتب وما يجرحه يجرحني وما يؤذيه يؤذيني، لكن دعني أناقش معك هذه القضية المهمة وهي الصدق والتجرد حين الكتابة، نعم أنا أصدق وأتجرد ولكن بحرفية بحيث أنني أقول كل شيء دون فجاجة وكسر لتابوهات باتت مقيتة لدى البعض. الكاتب المحترف يستطيع أن يبوح بكل شيء ولكن المشكلة في الكيفية والرقي والأناقة والمفردة، وكوني ناقدة ومؤلفة في الوقت نفسه ساعدني كثيراً في هذه المهمة. * أعمالك، كثيرة، فما الذي تستطيعين قوله عن مجملها، وهل لك عمل محبب، مقرب، أم أنك تتشبثين بمقولة كثير من المبدعين، بأنهم أبناء، لا فرق بينهم؟ ج9: ليس كلهم أبنائي بقدر ما أن لكل عمل قضية تفرض منهجًا من مناهج الكتابة ومدارسها وأنت تعلم خاصية كل مدرسة منها، فالقضية تفرض منهجها، وكما يقول المثل الشعبي إن أحب الأبناء الصغير حتى يكبر، فأنا أقول إن مسرحية من النافذة والتي انتهيت منها منذ أيام أقربهم لأنها لا تزال غضة بين أناملي، وأنا أرى فيها نضج السنوات وخبرة الكاتب وفلسفته فربما تكون أفضل أبنائي وربما لأنها لا تزال مولودًا جديدًا احتفي به! * الجبال السمر، والأحراش الجبلية، والوديان، والسماء الأبهاوية، وحي مناظر، والبديع، والوادي الأعلى، والخشع، وبيوت الطين، والركف، والقط، كيف تنظرين لها عن البعد؟ ج10: أنا أنظر لها بمسبار عميق وإلا لما جعلت فيها موسوعتي الثانية تحليلاً وتفسيرًا علميًا ومعمليًا، ثم إنني كتبت ملحمة سردية لكل الشجر والحجر والناس وعاداتهم، ربما الشوق البعيد هو ما حدا بي إلى ذلك، وربما يقيني بقيمة هذا الإرث الكبير، الذي لن يعرفه إلا الأجيال القادمة. * حكاياتك العسيرية، تشعرنا بأنك تلك الفتاة الصغيرة في حارات أبها، لم تغادر بيئتها، أو أن بيئتها لم تغادرها. ج11: نعم هذا صحيح ويظهر ذلك في كتاباتي. * النيل، ماذا يعني لك؟ o ج12: النيل هبة الله لهذه البلد، التي أنعم الله عليها به. أما ماذا يمثل لي أنه لا حقيقة مطلقة سوى وجه الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك كل شيء نسبي، إنه يوحي لي بشيء مخيف وهو أن كل شيء يتغير في اللحظة نفسها، الماء الذي أمامك ليس هو الماء الذي نظرته منذ ثانية واحدة، إذاً هو يمثل التغيير الدائم والحقيقة النسبية -بعد الله عز وجل- الحقيقة الحمض، وهو موحٍ بالإبداع إذا ما لم تبرحه عيناك في استرخاء تام لزمن غير قليل. * الطموح، يبدأ مثل برعم صغير، ولكنه قد يصبح شجرة معمرة، لا تعود ترضى بالانحناء أمام العواصف، خبرينا عن طموحاتك في بلد التاريخ، والأدب والطرب، والثقافات؟ ج13: طموحاتي مثل طموحات طفل صغير، حينما يتشبث بشيء فلابد أن يدركه! طموحاتي هي البسمة على كل شفاه متعبة، ووطن عربي مستقر. طموحاتي هي الألفة المستفيضة بين البشر. وطموحي أن يظل قلمي سيالاً بين أناملي وأنا أثق به. * هل تم تقديرك بما تستحقين؟ ج14- الآخرون هم من يحددون التقدير وتقديركم لي أكبر من أي شيء، ولا أعرف ما هو التقدير من وجهة نظرك، تقديري حينما يأتيني كاتب كبير مثلك ليسألني، وتقديري أن أتلاقى مع قرائي كل جمعة في عيد بهيج، تقديري هو حب جهموري لي وتلك الدراسات المتتالية في أعمالي محليًا وعربية، تقديري هو حبكم أنتم لي أكبر من كل الدروع والجوائز، التي حصلت عليها عالمياً وعربيًا ومحليًا التي تفوق الثلاثين جائزة ودرع، الحب منحة من الله وأنتم تمنحونه فهذا عطاء من المولى عز وجل ونعمة منه. * كيف ترين الطريق أمامك، وهل من تفرعات جديدة، سواء لإحدى الجهات الأربع، أو للعودة لنقطة البدء؟ ج15: الاستقرار والإبداع أينما كنت، أما الطرق فالله هو من يحددها. لماذا أبدأ من نقطة الصفر، أعتقد أنها بداية الفاشلين، وأعتقد أنني لم أفشل -بفضل الله- في أمر اتخذت فيه قرارًا حتى الآن. * أمنية، كنت، ولا زلت تسقينها وترعينها في جوفك؟ ج16: أن أبني لي بيتاً تحت (الحماطة) في قريتي الصغيرة، خلف مزارع أبي، واستمع لأغاني الرعاة وأوقد قنديلي الزيتي كل مساء. * ما حدث للمرأة في السعودية مع الرؤية عظيم، فكيف تحكين عن ذلك، وتقارنينه بما عشت في البدايات؟ ج17: هو عصرها الذهبي فأنا وجيلي من وضعن أجسادنا معبرًا بين جيلين مختلفين وسعيدة بأنهن عبرن. * سؤال وددتِ أن أسأله لك، وسؤال تمنيتِ ألا أتطرق إليه. ج18: لم تدع مجالاً للتساؤلات، وكل أسئلتك وما يتبعها من تساؤلات لم تسألنيها، أنا سعيدة بها ولا يمكن أن أود ألا تسأل، فليس لدي شيء أخفيه عن جمهوري الحبيب وأنا تحت أمر كل التساؤلات التي هي من حقهم وعليَّ أن أجيب. أشكر لك