صنع المسلمون حضارة غير مسبوقة في الأندلس، البعض يراها حقا حصريا للعرب والمسلمين، والبعض يراها نتاجا للتجربة الإنسانية وما يتخللها من تلاقحات حضارية تجمع المتناقضات وتصل إلى مستوى مرتفع من الإنتاج الإنساني والمعرفي، البعض يراها صدفة، والبعض الآخر يراها نتيجة حتمية لحقبة زمنية عمل فيها الإنسان وأنتج وأثمر. صناعة الحضارات الإنسانية لها مقومات ورؤى وتفاسير، البعض يجعل المعتقد هو الوعاء الذي تُصهر فيه كل الاحتياجات الإنسانية ثم يعاد تقديمه في شكل من أشكال التمكين البشري، والبعض يرى الرؤية السياسية المحضة هي الأساس في تشكيل الحضارة وبعثها من مهدها الأول !. كثير من الرؤى السياسية الحاكمة تحتاج بعدا عقائديا تتكئ عليه، ليطول عمرها وليشرعن وجودها، ولتكون الإطار الذي يجمع العامة والخاصة من الرعايا المتصلين بهذه الرؤية، وبعد ذلك تصنع الحضارة وفق قوانين العمل والجهد ومناخات الإبداع التي تبقى متساوية أصيلة ذات طابع إنساني واحد ونسق معرفي أصيل. الاستقرار السياسي أولا، ثم العامل الاقتصادي ثانيا هما اللذان يبعثان الهمم، ويصنعان بيئة خصبة للإبداع والإنتاج والاختراع، كثير من الحضارات البشرية كان صانعوها -كأمم وشعوب- يعيشون وفرا اقتصاديا ملحوظا، ورموزا متنفذة كانت تستجدي الإبداع من أهله وتوظفه لزيادة تمكين الكيانات ورسوخها كقوة سياسية لها رقم يعيه المجايلون ويضعونه في حسابهم عند كل عملية حسابية يُراد القيام بها. كثيرة هي العوامل التي تصنع الحضارات وتبني الشواهد الإنسانية التي تعكس حال أمة كيف سادت وما زالت، أو كانت ثم بادت، وفي المقابل هناك عوامل أخرى تهد في عضد أي مجتمع يُراد له البقاء والازدهار والرخاء. العالم الغربي بشّر البعض بزواله وحتمية سقوطه مرتكزين في تلك النظرة والنظرية، على أبعاد عقائدية وسياسية واقتصادية لا تنكر، لكن هذا الزوال أو التدرج في انتظاره وحدوثه، يقابله ذوبان واضمحلال لمجتمعات أكثر رسوخًا في الحضارة والمعتقد، شواهد هذه الحضارات ما زالت باقية وإرثها الأخلاقي وإن خبأ في الشوارع والدور إلا أن ذكره ما زال يعكس ويجسد حالة من التصالح الكامل بين العقل والقلب بين الدين والدنيا. ويبقى السؤال مطروحا، من يحدد العوامل التي تصنع التمكين للأمم وهل هي خاضعة للاجتهاد البشري أم هي عملية تدوير بحكمة إلاهية محكمة تنقل التمكين من هوية إلى هوية ومن طرف إلى آخر ؟ ** **