وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة المراجعة ... زمن التراجع . معركة الاسلاميين وخصومهم ... وصولاً الى رؤية علمية للتاريخ والمجتمع من داخل الايمان 2 من 4
نشر في الحياة يوم 16 - 01 - 2001

ضمن التوجه المعرفي لثورة العلوم الاجتماعية في فكر ما بعد حزيران يونيو 1967، جاءت موسوعة د. جمال حمدان الموسومة "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" بأجزائها الأربعة 1980، لتعيد للجغرافيا أبعادها الخلاقة ورؤاها المبدعة بعد أن كادت تحيلها المقررات المدرسية الى علم ميت منقرض. وإذا كانت المدارس الأوروبية تخطت الحتميات الجغرافية بعد أن روضتها التكنولوجيا، فما زالت للجغرافيا في المجال العربي- ماضياً وحاضراً - آثارها التي لم تدرس تجلياتها بعد وليس كما يتصور بعض ناقلي الفكر الغربي ومقلديه.
ويأتي ابداع جمال حمدان بهذا الصدد ليفتح أفقاً غير مسبوق. أما الجانب الآخر من صورة الابداع لدى جمال حمدان فتمثل في أنه كلما أوغل في سبر شخصية مصر الذاتية وعبقريتها المكانية، كلما أعاد اكتشاف عروبتها وانتمائها العربي القاعدي بالنسبة الى أبعادها الاقليمية الأخرى. فمصر، في تحليله النهائي، "محكومة بالعروبة" وقيادتها للعرب اختبار وتكليف وليست تظاهراً أو ادعاء. وتبرز قيمة هذا التأكيد المعرفي لعروبة مصر وانتمائها العربي في كونه يأتي صوتاً مصرياً مستقلاً ومتحدياً في زمن القطيعة وفي ذروة مرحلة كامب ديفيد 1979 - 1981.
وفي موازاة هذا التأصيل الجغرافي، برزت مدرسة يمكن أن نطلق عليها المدرسة التاريخية العلمية التي أخضعت مصادر التاريخ الاسلامي لمنهجية البحث النقدي بنزعة مستقلة عن المثاليات الدينية والاعتبارات الايديولوجية للإسلام السياسي، ومن أبرز كتابها: محمد سعيد العشماوي، وعبدالكريم خليل، وسيد محمود القمني، الذين يعتبرهم أصحاب الاتجاهات الدينية "كتاباً علمانيين". وقد بدأ مع هذه المدرسة التاريخية النقدية الكاتب فرج فودة: إلا ان كتاباته تحولت من المنحى البحثي التاريخي الى معارك مؤدلجة واستفزازية في مواجهة التيار الأصولي والديني بعامة، الأمر الذي أدى الى اغتياله في حدث لا سابقة له في تاريخ مصر الثقافي الذي كاد من جانب آخر ان يشهد اغتيال الروائي الكبير نجيب محفوظ في الفترة ذاتها.
والواقع ان حدث اغتيال فرج فودة، اضافة الى ما عبر عنه من صراع عقائدي وسياسي بالغ الخطورة في الساحة العربية وبما يتعدى الأسباب الخاصة باغتياله، كشف، من وجهة بحثنا هذا في تحولات الفكر، عن تلك الريبة العميقة التي تعتمل لدى أصحاب الاتجاه الأصولي حيال رجال علم الاجتماع والفكر التاريخي النقدي بعامة، لكون أغلب هؤلاء - بالفعل - من "اليساريين" أو الماركسيين الملتزمين، أو العلمانيين الليبراليين الجدد، الذين لا يخفون معارضتهم للتصور الغيبي المثالي للتاريخ والمجتمع والكون.
لهذا وقف كثير من المفكرين الاسلاميين بحذر شديد حيال مدرسة التحليل والتفسير السوسيولوجي العلمي بالنظر الى جذورها "المادية" ولكونها تنظر الى العقيدة بمثابة انعكاس "فوقي" للبنية المجتمعية "التحتية" وتغفل أو تنكر المصدر الماورائي الغيبي للظاهرة الدينية.
ولعل من أكثر الأمثلة الصارخة على ارتياب التيار الديني في الفكر الاجتماعي الكتاب الذي أصدره استاذ علم الاجتماع السابق أحمد ابراهيم خضر عام 1993، تحت عنوان "علماء الاجتماع وموقفهم من الاسلام"، والذي أعلن فيه ان رسالة كتابه هذا تنحصر في جملة واحدة هي: "إننا لسنا بحاجة الى علم اجتماع لا في شكله العام ولا في ما يسمى اليوم بعلم الاجتماع الاسلامي" أو أسلمة علم الاجتماع وتأصيله. إن هذا الأخير في تصورنا ضرب من الترف ونوع من العبث الذي يضر ولا ينفع "لأنه يختلق - في تقديره - قضايا تحول دون فهمنا النقي الخالص للعقيدة ودورها الحقيقي في الحياة خضر 7-8 وهي نتيجة درامية توصل اليها صاحبها بعد: "ثلاثين عاماً قضيناها بين دراسة وتدريس علم الاجتماع. فضاعت سني حياتنا في شعوذة أطلق عليها علماً ليس في حقيقته الا صياغة دينية لمعتوه فرنسي أوغست كونت وملحد يهودي دوركايم وشرذمة من الماركسيين واللادينيين أرادوا له ان يكون ديناً جديداً. فلم يخرج عن كونه مجرد كلام عامي ورطانة غامضة..." خضر 7.
والواقع انه لفصام فكري نكد أن يتوصل - في نهاية مطافه - دارس اجتماع مسلم شديد الغيرة على دينه الى مثل هذه النتيجة العدمية بشأن مكانة علم الاجتماع في التصور الاسلامي للتاريخ والمجتمع، بينما يشتمل القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة على عشرات الآيات والأحاديث بشأن الجدلية المجتمعية بين البداوة والحضارة كنظامين من نظم الاجتماع والاشتراط المجتمعي التحضري الذي يضعه الاسلام لضمان سلامة العقيدة وحسن ممارسة الدين قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وذلك موقف سوسيولوجي صريح للإسلام في الكتاب والسنة، يؤسس فعلاً ومن دون افتعال توفيقي، لعلم اجتماع عربي وإسلامي أصيل انطلق منه ابن خلدون من قبل وأوضحنا معالمه في كتبنا الثلاثة بهذا الصدد: "تكوين العرب السياسي" و"التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام" و"العرب والسياسة: أين الخلل؟".
إلا أنه - أمانةً للحقيقة وإكمالاً للصورة - فإن ذلك الموقف الرافض رفضاً مطلقاً لعلم الاجتماع وبحوثه وفروعه، لا يمثل الاسلاميين كافة. فقد أصدر الكاتب الاسلامي المخضرم محمد قطب كتابه المتميز "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" الذي وإن تضمن نبرة خطابية حادة ضد علم الاجتماع الحديث إلا أنه انتهى الى ضرورة "التأصيل الاسلامي للعلوم الاجتماعية" باعتباره جزءاً من "الوعي المطلوب" للصحوة الاسلامية، وكأنه رد ضمني على كتاب أحمد ابراهيم خضر.
كما تجدر الإشارة ضمن هذا السياق الى كتابات د. عبدالحليم عويس مصر ود. عماد الدين خليل العراق بشأن التفسير الإسلامي للتاريخ والدكتور أحمد كنعان في السنن الكونية والتخلف الحضاري وذلك بما يمهد لاعتراف منهجي بالعلوم الاجتماعية في إطار التصور الاسلامي لحركة التاريخ والمجتمع.
وباستقلال عن مختلف التوجهات الايديولوجية، برز فكر المفكر الأردني/ الفلسطيني الدكتور فهمي جدعان تفكيكاً معرفياً لجوانب مهمة في التاريخ الاسلامي مثل كتابيه "المحنة" 1989 و"أسس التقدم عند مفكري الاسلام"، كما برز مفكراً أصيلاً في كتابه "الطريق الى المستقبل 1996" داعياً الى نقد الفعل باعتباره مجمل السلوكيات الفردية والجمعية التي تصب فيها قوى الانسان من عقل ومشاعر ورغبات.
إلا أن أبرز علامة متميزة في انعطافة الفكر الاسلامي المعاصر نحو الاهتمام بالعلوم الاجتماعية اهتماماً بحثياً معنياً بتأسيس وعي تاريخي جديد تتمثل في صدور فصلية "الاجتهاد" ببيروت في خريف 1988 بإشراف الفضل شلق ورضوان السيد، حيث نبّها الى: "أن الدراسة النقدية بدأت تتحول منذ العام 1967 الى ظاهرة مرضية تنشر اليأس والقنوط... بعد الزهو المبالغ فيه والأحلام الوردية المنتصرة في المرحلة السابقة وذلك يظهر تهافت رؤى النخب العربية لماضي أمتنا وحاضرها نتيجة لهشاشة الدور من جهة وهشاشة الوعي من جهة أخرى".
وعليه فإن: "الوعي، والوعي التاريخي هو مسألة المسائل في حاضر أمتنا. فالوعي الصحيح هو الذي ينشئ نظرة صحيحة للذات والآخر والتاريخ والحاضر والمصير...". وقد خلصا الى ان المشكلة فكرية نظرية أولاً، قبل ان تكون توجهاً لتأسيس حركة أو حزب - مجلة الاجتهاد/ العدد الأول/ ص5-12.
هذا التحول اللافت الذي مثلته "الاجتهاد" داخل الفكر الاسلامي جدير بالرصد والمتابعة والتقويم. وإذ نبه الفضل شلق الى أهمية دراسة "الألف عام" من الغياب التاريخي للعرب بعد سقوط دولتهم المركزية، فإن رضوان السيد أسس بمنهجية علمية جادة - ومن داخل الايمان الاسلامي، ربما للمرة الأولى في الحقبة المعاصرة - امكانية واعدة لرؤية التاريخ الاسلامي علمياً من دون مجافاة الإسلام ايمانياً بتبني علم الاجتماع المادي المحض.
ويمكن القول إن ما نشرته "الاجتهاد" حتى الآن - اضافة الى مؤلفات رضوان السيد في الدولة والسلطة والحضارة والاقتصاد - صار يمثل مادة لا يمكن اغفالها في مجال اعادة تأسيس النظرة الاسلامية الجديدة للذات وللآخر.
وضمن الظاهرات التي رمزت اليها المجلة الثقافية في هذه الحقبة، مثلت مجلة "الناقد" التي أصدرها رياض الريس من لندن - في المقابل - صوتاً للتفكير العلماني 1988. واذا كان ما نشرته من أدب وشعر يخرج عن نطاق هذه الدراسة، فإن كتابات المفكر الليبي المغترب الصادق النيهوم والتي جمعتها "الناقد" بعنوان: "الاسلام في الأسر" قد مثلت نمطاً من التفكير الاسلامي الراديكالي اللافت الذي تركز في الدعوة الى استعادة دور "الجامع" باعتباره المؤسسة البرلمانية في الإسلام، من دون التعمق التحليلي الواقعي في مدى امكانية هذه الفكرة.
وعلى صعيد أكثر التزاماً وتقيداً بايديولوجيا "أسلمة المعرفة" الذي تنطلق منه الحركات الاسلامية ومفكروها الناشطون ضمن هذا الاتجاه، تأتي سلسلة "اشكالية التحيز" من كتب سبعة حررها الدكتور عبدالوهاب المسيري - وهو مفكر يساري سابق وباحث مقتدر وجد خلاصه في العودة الى الاسلام - لإثبات مدى ما يراه أصحاب هذا الاتجاه من "تحيز" واستسلام غير مبرر علمياً لمسلمات العلوم الغربية في مختلف مجالات المعرفة.
وكان سيد قطب قبل ذلك بثلاثة عقود نبّه الى: "ان الاسلام يتسامح في ان يتلقى المسلم من غير المسلم، في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو الفلك أو الطب أو الصناعة، أو الأعمال الادارية والكتابية. لكن لا يتسامح في أن يتلقى منه أصول عقيدته، ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه ومنهج سياسته ولا موحيات فنه وأدبه...".
غير ان التوجه "الجديد" يبدو أكثر تشدداً على الصعيد المعرفي من سيد قطب نفسه. ومن منطلق التزامنا في هذه الدراسة سماع مختلف الأصوات لتعبر عن ذاتها نستشهد هنا بما أوجزه مفكر من أصحاب هذا الاتجاه المعرفي الجديد عن هذا الجهد البحثي لتأصيل فكرة "أسلمة المعرفة". يقول فهمي هويدي: "أهم شهادة معاصرة رصدت التحيز في الثقافة العربية لصالح النموذج الغربي، تمثلت في ندوة جامعية عقدت بالقاهرة عام 1992، ونظمها المعهد العالمي للفكر الاسلامي بالتعاون مع نقابة المهندسين المصرية. وقد تبلورت فكرتها لاحقاً على نحو أوسع وأشمل في سلسلة من سبعة كتب، أصدرها المعهد، وقام بتحريرها الدكتور عبدالوهاب المسيري، الذي تبنى الفكرة ودعا اليها مع آخرين منذ أواخر الثمانينات.
أهمية هذه المجموعة من الكتب، التي صدرت تحت عنوان "اشكالية التحيز"، أنها وثقت الظاهرة وأثبتتها في مختلف نواحي المعرفة، ذلك أننا حينما نتحدث عن اجتياح التغريب لمجتمعاتنا العربية كثيراً ما نركز على مظاهر الحياة والسلوك. وهذا حق لا ريب، لكننا لا نرى عادة تجلياته في ثنايا وغضاريف حياتنا الثقافية والعلمية في العلوم الاجتماعية والطبيعية وفي الفن والعمارة والأدب والنقد.
صحيح ان عملية التغريب تعرضت للنقد من جانب باحثين كثر ابان صعود مؤشرات المد القومي العربي في الستينات وما تلاها، إلا انني أزعم ان شهادات الرصد التي سجلتها كتب "اشكالية التحيز" السبعة كانت - في حدود ما أعلم - عملاً غير مسبوق، من حيث اتساع المساحة التي غطتها في حياتنا الثقافية وشمولها لمجالات لم تطرق من قبل، مثل الانحياز الحضاري الغربي في النماذج الرياضية والعلوم الهندسية، وفي العلوم والمفاهيم الطبية، وفي التعامل مع التكنولوجيا والتنمية، وصولاً الى علم النفس ونظم المكتبات.
يصدم قارئ هذه المجموعة من الكتب حينما يدرك المدى الذي بلغناه في تبني الأفكار والمناهج والانماط الغربية، مع التغييب المدهش لخرائط الواقع العربي بمعارفه وخبراته وتقاليده. الأمر الذي حول شرائح لا يستهان بحجمها من مثقفينا الى مجرد مقلدين وببغاوات كل همهم نقل ما يقوله الآخرون في عواصم الغرب دون تفكير أو مراجعة". راجع مقالته قرن تغريب الأمة، صحيفة "الشرق" القطرية.
إن أبرز ما يلفت في هذا التوجه المعرفي أنه لا يكتفي بالوقوف عند حد أسلمة العلوم الانسانية والاجتماعية - التي يمكن التسليم بتحيزها الحضاري الغربي- لكنه يتجاوز ذلك الى العلوم البحتة من تقنيات وهندسة ورياضيات وطب. وهي علوم نعتقد ان العبرة في امتلاكها في تقنياتها المتقدمة قبل أسلمتها اذ كيف يمكن "أسلمة" علم لا نمتلكه أصلاً.
ولا تفوتنا الاشارة الى أنه قبل هذه الجهود المتخصصة، كانت كتابات كل من خالد محمد خالد، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي - منذ منتصف القرن العشرين - تخلق حالاً من الانفراج في الفكر الديني مهدت لتقبل هذه التطورات الفكرية والمجتمعية الجديدة - على ما بين أصحابها من تباين في الاجتهاد والواقع - بما يحيي نزعة التجديد التي بدأها محمد عبده في مطلع النهضة. إلا ان كل واحد من هؤلاء المفكرين الاسلاميين ونظرائهم يجب ان يدرس فكره بمنظور موضوعي ونقدي يعطي لكل ذي حق حقه، بما يتعدى هذا الحيز.
وبقيام الثورة الاسلامية في ايران 1979 واجه الفكر الإسلامي واحدة من أعقد اشكالياته. فقد جاءت الثورة الايرانية ثورة راديكالية في السياسة وتحدي الأنظمة القائمة، لكنها بحكم طبيعتها الدينية وجذورها المذهبية جاءت حركة في غاية المحافظة ترتكز على مفاهيم "العصمة" و"المهدوية" - ومنها "ولاية الفقيه" - وهي معتقدات غيبية لا تخضع للتحليل العقلي. واذا كانت هذه المفاهيم قد احتفظت ب"ثوريتها" تاريخياً عندما كانت تغذي التشيع بصفته ثورة ضد السلطة، فإنها بتحولها الى سلطة في ايران واجهت مأزقها التاريخي الراهن الذي يحاول تيار التجديد فيها بزعامة الرئيس محمد خاتمي - ومدرسته الفكرية - الخروج منها بطرح مفاهيم واجتهادات جديدة في التشيع بخاصة والاسلام بعامة. ولا بد من الاشارة هنا الى الانعطاف المهم الذي ظهر في فكر التشيع العربي على الشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد حسين فضل الله.
إن نقد الشيخ شمس الدين لفكرة "ولاية الفقيه" لمصلحة مفهوم "ولاية الأمة" من أهم التحولات الفكرية داخل الفكر الشيعي باتجاه توافقه مع الفكر السني في نطاق مسألة الامامة التي فرقت المسلمين قديماً، وقد يلتقون بشأنها مستقبلاً، اذا اتفقوا على مفهوم "ولاية الأمة"، التي لا مفر من الاعتراف بها من حيث الواقع السياسي، والمنطق الفكري، بما يتعدى الغيبيات التي لا يمكن ان تصمد طويلاً في نطاق الاختبار السياسي وممارسة السلطة بين البشر. واللافت من جانب آخر هنا أن الشيخ فضل الله على تمسكه بالفكر "الولايتي" - نسبة "الى ولاية الفقيه" - فإنه يجهد، نظرياً، لجعل هذه الولاية مسؤولة أمام الأمة قدر الإمكان، بما يوحي أنه لا مفر من الاذعان لفكرة ولاية الأمة في نهاية المطاف.
وعلى رغم التأثير القوي لفكر الثورة الايرانية وخطها الرسمي، فإن التشيع العربي قد أثبت تميزه التاريخي واستقلاليته العقلانية - سواء في لبنان أو العراق أو في الخليج العربي- بما يؤكد التباين الذي أشرنا اليه في كتابنا "الفكر العربي وصراع الاضداد" في نطاق التشيع بين "عرفانية فارسية وعقلانية عربية" - راجع ص: 283-316.
وعلى صعيد آخر، فربما أدى تحول مفكرين من وزن د. حسن حنفي وطارق البشري ود. محمد عماره، وعادل حسين من مواقع اليسار أو العلمانية أو المادية بعامة الى مواقع الالتزام بالرؤية الاسلامية - في ما يذكرنا بتحولات العقاد ود. هيكل وطه حسين في مرحلة أسبق - نقول ربما أدى ذلك التحول - اضافة الى جهود مفكرين نظير د. أحمد كمال أبو المجد، وفهمي هويدي اللذين أسهما في تجذير "مدنية" الحكم والسياسة والدولة في الاسلام - الى تلقيح الفكر الاسلامي الجديد بالعناصر اللازمة من النهج العلمي، الا انه تحول لا بد من الانتظار للحكم على مداه. فهؤلاء المفكرون، على جدة أفكارهم، ما زالوا أقل تأثيراً في الجماهير قياساً بعمر عبدالرحمن ومدرسته. فضلاً عن أن بعضهم بدأ تحولاً ملحوظاً نحو مواقع أكثر محافظة مثل د. محمد عمارة الذي انتقل من النزعة العقلانية المعتزلية الى ما يشبه التفكير الأشعري، وهو فكر ان كان عقلياً في الشكل فهو نقلي في المضمون والجوهر. ومثل هذه التحولات لدى الكفرين الاسلاميين جديرة بالتفات خاص، لأنها تحمل محذور الانتقال من الاعتدال الى نقيضه ليس لدى الأفراد فحسب وانما لدى الحركات التي قد تصل الى السلطة تحت راية "الاعتدال" ثم تمارسها - باسم الدين - بأساليب لا تمت الى الاعتدال بصلة.
وأياً كان الأمر فإن "النهضة العربية" التي بدأت في القرن التاسع عشر لم تبدأ في التنبه الى أهمية اقامة علم اجتماعها المعرفي الحقيقي الا أواخر القرن العشرين!! وهو ملحظ ان كان يبشر بتحول جديد طال انتظاره، فإنه يذكر في الوقت ذاته بمدى تأخر الثقافة العربية في استيعاب هذا العلم الأساسي ضمن منظومة العلوم الحديثة، وما زال تيار لا يستهان به في المجتمع العربي المسلم، كما تبين، يحارب هذا التوجه العلمي بلا هوادة، أو لا يطمئن اليه في أحسن الأحوال اطمئناناً حقيقياً.
* كاتب بحريني. والنص يدرس جديد الثقافة العربية حتى سنة 2000 ميلادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.