ما أن يدلف إلى محفل أو مكان عام، حتى يراوده شعور بزهو من نوع خاص في كونه محط الأنظار والعيون تراقبه، والهمسات الانفرادية وجلسات النميمة تدور حوله. يعتني بمظهره كثيرًا، كما يهتم بتنميق حديثه، وحشوه أحياناً بمصطلحات تشي بسعة ثقافته، استعراض إنجازاته، وممتلكاته معاً، يبدو عرضاً مكشوفاً في مقابل من يُظهر شمولية اهتماماته، فله رأي في التوجهات السياسية، وموقف صلب تجاه حركة الاقتصاد العالمي والمحلي، ويحكم قبضة رأيه في الظواهر الاجتماعية، ومتذوق لأطراف الجمال في أبيات غزلية، وعلى الرغم من هدوئه في الظاهر إلا أنه بارع في اختطاف طرف حديث من في أحدهم، للحديث عن آرائه ومفاخره ومتاعبه وانتصاراته أيضًا! يخفي انزعاجه حين يسمع بأن أحدهم قد نال ما لم يتمكن هو من بلوغه، ولا يرضى لنفسه أن يظفر بالأشياء أو الأشخاص الذين يعدون (عاديون) في مستوى التقييم الاجتماعي، يظل في حال بحث عن كل ما من شأنه أن يرضي عجرفته وغروره، سواء مناصب أو أموال أو زواج ومصاهرة أو أسفار وتنقل بين دول وسياحة أو حضور مناشط ومؤتمرات... يتحسس كثيراً من النقد، وفي المقابل يسمح لنفسه بتوجيه نقد لاذع مبطن بالنصيحة لمن قد يشعره بتفوقه أو حتى يعيده لذكرى إخفاق قديمة مرت به! قد يبدو جاذباً للوهلة الأولى، ومثيراً للإعجاب، ومستحقاً للمتابعة وللإطراء، لكن ما قيمة ذلك كله، حين تذوب صورته دفعة واحدة في موقف كاشف يبدو فيه أنانيته المفرطة وامتلائه بذاته! لن أسرد السلوكيات والممارسات كثيراً، فهي محتملة ولا تشكل قلقاً للمحيطين به، حين تبدو متفرقة لدى مجموعة أفراد، ولكنها تثير نفورهم وصدودهم عنه من غير أوبة حين تجتمع كلها أو جلها في شخصه. ولمزيد من الفهم العميق للعبة النرجسية هذه، فإننا نحتاج لرحلة غوص بداخل هذه النفس الدافعة بصاحبها لرسم صورة فائقة العظمة عن نفسه، لماذا انساقت هذه النفس بسهولة وعناد مستجيبة لأوهام التميز وإغراءات العالم الخارجي؟! ففي عمق هذا النوع من الأشخاص، احتياج غائر لنيل الاستحسان والرضا، يكمن سببه في الخوف! نعم الخوف من فوات الحظ، وفقد المكانة، وضياع الأمن، وتفوق الأقران، ونبذ المجتمع، إلى الحد الذي يجعل كل إنجازاته وممتلكاته، أنشطته وعلومه ومناصبه وعلاقاته لا توفر له طمأنينة نفس، ولا راحة بال، وحتى قدر معقول من الاتزان لأيام متتابعة، ليتمكن خلالها من التقاط أنفاسه! قبل أن يبدأ من جديد رحلة النرجسية. هو يشعر بانفعال وتوتر من جراء انصياعه القهري لمطالب النفس الخائفة بداخله، كمن يشكو من صداع مزمن، ولا يدري أن سببه هو اعتياده على طرق رأسه في الجدار. إذ إن هذا النوع من الألم الكامن، يحمله لرسم صورة مثالية عن نفسه وهو يسعى جاهداً لتحقيقها لا لكونها قربة ربانية أو ضرورة إنسانية وإنما للشعور بالطمأنينة تجاه كمال صورته تلك! ولا نندهش إن كانت الصورة فائقة العظمة تلك، جاءت تعبيراً معاكساً لحالة الضعف الداخلي الذي يحس به. ويبقى معرفة إن هذا الإدراك العقلي والوعي العاطفي لما يدور بداخل النرجسي وبإيعاز من النفس الخائفة، كاف لنقله إلى مرحلة جديدة، مفادها الاستغناء عن الاحتياج إلى أي قوة خارجية زائفة، فأنت قوي بنفسك وعلى طبيعتك وأصل حقيقتك، ولا تحتاج إلى قوة مصطنعة وفي غير محلها لتسند ضعفك. في حين أن القوة الحقيقية لا تبحث عن صورة زائفة هي في الأصل غير محتاجة لها، أنت تستمد قوتك من الاتصال الحقيقي بالنور الذي ينبثق من خلالك شرط أن تسمح له. وللسماح لهذه القوى بالانبثاق لتقديم الدعم، عليك أن تطلبها من مصدرها وهو الله عز وجل وحده وبيقين واستسلام، والشرط الثاني أن تكف عن التصرف بإيعاز من النفس الخائفة وذلك بالتماس القوة بتلميع الصورة بالخارج؛ أي تكف عن هدر طاقتك في التمثيل والتلاعب والتظاهر، فمثلاً يمكنك ضبط نفسك بالتزام الصمت في حال تطرق الحديث في مجلس ما عن شيء يهمك ولك فيه باع. يمكنك اعتياد ارتداء ملابس أو ركوب سيارة أو زيارة أماكن ليست مكلفة، ومجالسة أناس تراهم من وجهة نظرك أقل منك رتبة (وعاديون). لا تحاول تقييم الأشياء وإصدار الأحكام، وإثبات صحة وجهة نظرك في كل مرة، تدرب كيف تعطي للأطراف الأخرى فرصتهم في الظهور والإعلان عن رأيهم. استبدل نظرتك للعالم حولك من الخوف والشك والارتياب، إلى الشعور الغامر بالحب والهدوء والحنو، إن بلغت تلك الخطوة فهذا يعني أنك نجحت ابتداءً في التعامل مع الخوف بداخلك، وتحررت من سطوة النفس الأنانية.