"لا شيء تخشاه خديجة مثلما تخشى أن يكتشف زوجها عبدالله أنها لم تكفّ عن شرب الشاي". بهذه العبارة الموجزة يفتتح الحبيب السالمي رواية "أسرار عبدالله"، وهي عبارة يمكن أن تستدعي نموذج الست أمنية بطلة ثلاثية محفوظ كأن نرى انعكاسها في شخصية خديجة ونشعر أن زوجها سي عبدالله سيكون هو السيد أحمد عبدالجواد، لكن هذا لا يحدث لأن خديجة ليست الست أمينة، فخضوعها مغاير مثلما أن سطوة سي عبدالله مختلفة تماماً عن تلك التي تتميز بها شخصية أحمد عبدالجواد. إنّ طاعة خديجة ليست اعتياداً ولا تشبه طاعة الست أمينة للسيد أحمد عبدالجواد فأمينة كانت تطيع لأنها ترى تلك الطاعة من المقدسات التي يجب المحافظة عليها تجاه الزوج إضافة إلى كونها طاعة خوف ورهبة، أما خديجة فرغم أن طاعتها لا تخلو من خوف إلاّ أنّ محرضها الحقيقي لتلك الطاعة هو إثبات تفوقها في كونها تستحق أن تكون زوجة سي عبدالله.. الزوجة التي اختارها بعد أن طلق زوجته الأولى "العكري". تلك الحالة التنافسية التي تشعر بها خلقت من خديجة امرأة تلذذ بخوفها وتستعذبه وتدري إنها كلما بالغت في طاعتها نالت رضا سي عبدالله، لذا فإننا نجدها قليلة الحديث فأقصى ما تقوله في حوارها معه هو نطقها ب أي. وهي مقلّة في كلامها ليس بسبب الخوف وحده ولكن لأنها لو تمادت في الثرثرة فسوف يكتشف زوجها أنها لا تحمل الخوف الحقيقي، إذ لديها هواجسها، رغباتها وتساؤلاتها. لذا تقتصد دوما في الحديث معه. المرة الوحيدة التي تمادت خديجة في الحوار مع سي عبدالله بل ولم تمنع نفسها من السؤال هي عندما كان الحديث عن النساء الفرنسيات "شفت الكثير من نساء الفرنسيين في حفوز؟"، ثم بعد ذلك تمطره بالأسئلة، وعندما تسأله عن جمال الفرنسيات ويبدأ سي عبدالله في توصيف ذلك الجمال فإنها تعارضه بقولها "هذه مزيانة؟ هذه ليست مزيانة هذه بشعة". تتوجس خديجة من تماديها في إطالة الحديث إلى ذلك الحدّ، لكن سي عبدالله لم يشعر بتمادي خديجة، فتلك الأسئلة جاءت في الوقت المناسب لكي تبدد خوفه واضطرابه. إنه يستفيد من الناس والأشياء بحسب حاجته وفي الرواية الكثير من المشاهد التي تعزز هذه الحالة البراغماتية لدى سي عبدالله كنواياه في بناء السور للمقبرة، وذلك ليس حرصا منه على الموتى وخوفه عليهم من الكلاب الضالة بل كان تفكيره يستشرف المستقبل، فهو عندما يموت لا يريد أن تتبول تلك الكلاب على قبره. كذلك فإن تمادي خديجة في الحديث عن النساء الفرنسيات يكشف عن تلك المرأة الغيورة التي تستوطن داخلها. تلك الغيرة جعلتها تخرج عن النص الصامت الذي تجيد إتقانه، وهناك مشهد آخر يعزز مدى سطوة الغيرة الكامنة في داخل خديجة، فعندما يسألها زوجها: - ماذا تحكي عني النساء في البئر؟ - النساء؟ لا شيء، لاشيء. - لا شيء؟ - آ .. لا شيء بعد صمت طويل تقول بصوت مضطرب: - لا شيء... أمامي لا أحد يقول عنك شيئاً، المرأة التي تقول عنك نصف كلمة أمرغ رأسها في التراب وأرفسها. وبحسب معطيات الطاعة لديها وصمتها الدائم في حضرة سي عبدالله فإن هذه العدوانية من خديجة تبدو حالة مستغربة، لكن هذه الإشارة تتعاضد مع إشارة أخرى سربها السارد، فزهرة ابنة سي عبدالله عندما كانت تتهجم على خديجة وتشتمها، كانت خديجة تصمت وتحتمل تلك الشتائم وذلك تنفيذاً لأوامر سي عبدالله بأن تلتزم الصمت. لكنها في إحدى تداعياتها صرحت بقدرتها على رد شتائم زهرة بل قادرة على أن تمرغها بالتراب. كل هذا يكشف أن خديجة امرأة تتقن الصمت، لكنه ليس الصمت السلبي، صمت المهزومين أو الضعفاء، بل الصمت الماكر، الصمت الايجابي الذي تنال فيه الرضا من سي عبدالله، فهي تدرك أن ذلك الصمت يرضي غروره ويعزز حضورها. إنها لا تريد أن تكرر خطأ زوجته السابقة للا العكري التي كانت لا تطيع سي عبدالله بل وتتجاوزه في كثير من الأحيان. الأمر الآخر أن طاعة خديجة لم تولد لديها مشاعر الكراهية تجاه سي عبدالله أو أنها ترى تلك الطاعة عبئاً، فهي لا تصفه بعبارات الكراهية لأن مشاعرها أوصلتها إلى إتقان تلك الطاعة والتلذذ بها، ولنتوقف مثلاً عند الحديث عن كرشة عبدالله. إن أغلب كتاب السرد يأخذون من كرشة الرجل ملمحاً يستدلون من خلاله على نفور المرأة من الرجل .. إلا خديجة. فهي تحب كرشة سي عبدالله " فمجرد النظر إليها يولد فيها إحساسا عميقا بالطمأنينة ، فهي رمز النعمة التي يرفل فيها زوجها." إن خديجة عندما تستشعر محبة الكرشة وتنعم بالطمأنينة.. فهذا يدل على انها تفكر.. تفكر في جدوى هذه العلاقة التي تمنحها الملذات والرهافية الريفية التي تجعلها مميزة عن بقية نساء القرية. لذا فهي ليست ساذجة هي تدري بسر هذا الولع. أيضا نلاحظ أن سي عبدالله يتعمد أن يسأل خديجة عن الأشياء ليتبين معرفتها من عدمها وليقيس حجم هذه المعرفة إن وجدت، فإذا ما استشعر جهلها في أمر ما وأدركه فإنه يباغتها بالسؤال كما فعل عندما سألها: هل تحلم بالموتى؟ فأجابت بالنفي، وبدا أن جهلها يريحه ويجعله في مأمن من المقارنة معها كما يجعله يتحدث في أمور لا تدرك هي ماهيتها أو كيف تحدث. كل هذا يضع سطوته على الحوار بينه وبين خديجة. فنلاحظ أن الحوار ينقصه التدفق. سي عبدالله يتحدث قليلا ثم يسكت ثم يفاجئ خديجة بسؤال، وعادة ما تكون أسئلته الموجهة لها هي أسئلة العارف تجاه الإنسانة الجاهلة. وعليه فإن خديجة تختصر دوماً في إجاباتها بل وغالباً ما تكون إجابتها بالنفي. وفي الوقت الذي يعزز هذا النفي جهلها عند سي عبدالله فإنه يحميها من سخطه ويمنحها مودته. كانت تريد أن تكون أكثر جهلا من زوجته السابقة "العكري" وكانت تريد أن تكون أكثر طاعة أيضاً، وكانت رتم الحوارات بينهما تتناغم تماما مع التحاور الجسدي بينهما. فالسارد يحافظ على تلك المسافة بينهما. يحافظ حتى على فترات الصمت التي تتخلل حديثهما في شأن ما. الرجل المذعور: سي عبدالله، الدركي السابق الذي استفاد من وظيفته في تحقيق الثراء الريفي، عندما يتقاعد عن العمل لا يستمتع برهافية الثراء بل يصبح هذا الثراء عبئاً عليه، فهو يخشى أن ينال الآخرون من ثروته ويخشى حسدهم كما يخشى معرفتهم بما يملك، وهو فوق هذا وذاك، يخشى عصابة "الغرابة" التي أصبحت تقتل الرجال الأثرياء في القرى المجاورة. لذا فإن سي عبدالله رجل مذعور، متوجس وخائف من الطريقة الوحشية التي ستنتهي بها حياته مقتولاً. أن شائعة القتل وما خلّفته من هواجس عند سي عبدالله تماثل ما أحدثته الحمامة لبطل رواية زوسكيند من ذعر وكيف زلزلت الأمان الزائف في تلك الشخصية. سي عبدالله عاش تلك الحالة وأصبح الكائن المذعور الذي يتزلف للطمأنينة فلا يجدها، وقد استطاع السارد بذكائه أن يستثمر تلك الحالة فيتوغل في نفسية بطله ويعيد اكتشاف جدوى الأشياء التي كانت من علامات ثراء سي عبدالله. فمثلاً عندما كان يشيد منزله المجاوز لمباني الدوار كان الأهالي يأتون للفرجة على ذلك المنزل، ولا يستوقفهم سوى المرحاض، الذي لا يوجد ما يشابهه في منازلهم. هذا التوقف كان يزعج سي عبدالله إلى الحد الذي جعله يفكر أن يلغي المرحاض من جدول الفرجة التي كان ينعم بها على أهالي الدوار، لكن عندما اشتد به الخوف وتمكنت الهواجس في داخله لجأ لذلك المرحاض ليصبح مكانه الآمن الذي لن يفكر أحد في أنه قد يختبئ فيه . ولا يكتفي سي عبدالله بتصور لحظات الاختباء تلك بل تأخذه رغبات الأمان في أن يعيد ترميم ذلك المرحاض وأن يضع أشياء إضافية كوسائل تساعده على أن يقضي وقت خوفه براحة رغم معرفته بأنه يختبئ في مكان سيئ، لكنه يتجاوز لومه لذاته ويبرر ذلك لنفسه بل ويشيد على اختار المكان الذي لا يمكن أن يفكر فيه أفراد عصابة الغرابة. كما أن السارد يرصد علاقة سي عبدالله بالآخرين، فقد أصبح يتوهم بأنهم ابتعدوا عنه وتركوه وحيداً لأنه الرجل الذي أصبح قريبا من الموت، ففي يوم العيد يأتي الرجال لمعايدة سي عبدالله ويشربون القهوة ويأكلون الحلوى كما يمنحهم اللحم ويرش عليهم العطور. كل هذه الاحتفالية تمثل لسي عبدالله حالة استعراض مكانته في القرية فيغدو العيد بمثابة المناسبة التي يستشعر فيها مكانته الاجتماعية، لكن يأتي العيد فلا يظهر أحد من الرجال ويأخذ سي عبدالله في الانتظار، متوجعا بشكوكه بأن الشائعات التي تقال عنه صحيحة، ويبدو انتظاره مؤلماً لخديجة لأنها ترى ما خلفه من حالة انكسار لدى زوجها. إن عدد الرجال الذي حضر في النهاية، وبعد طول انتظار، عدد قليل، جاء لمعايدة عبدالله من القرى المجاورة وكان فقرهم هو المحرض لحضورهم إذ سيظفرون من ورائه باللحم. هواجس سي عبدالله ومخاوفه أفسدت علاقاته مع كل أهالي الدوار. صار يتشكك من الجميع ويفسر مواقفهم بريبة. وصار يقارن بين أفعالهم في زمنه الجميل وبين لحظته الآنية التي تجعلهم يعاملونه كرجل مهدد بالقتل، فحين يذهب إلى السوق يصبح همّه الأكبر أن يثبت للجميع بأنه الرجل المتماسك، الآمن، المطمئن. لم يعد يذهب للمتعة ولشراء احتياجاته بل صار السوق هو المسرح الذي يستكشف فيه كيف تبدو صورته لدى الآخرين، إذ يصادف مواقف عارضة فيفسرها بظنون سيئة مما يزيد من تعبه ويضاعف هواجسه. وعندما يجد سي عبدالله أنه لم يعد ذلك الدركي المهاب الذي يمنحه أصحاب الدكاكين معاملة الخواص يتألم ويشعر بأنّ زمنه الجميل قد ولّى وانتهى. اللا العكري ونزهة التلصص: لم تكن العكري ابنة عمه وزوجته السابقة مجرد امرأة طلقها لأنه لم يستطع أن يقاوم سلاطة لسانها وقوة شخصيتها بل يرى في حياتها الأخرى نموذجاً للحياة الآمنة التي افتقدها، فهو عندما يتلصص على دار ابنته زهرة التي تقاسمها أمها السكنى فيها يرى كيف أن الحياة في ذلك المنزل تبدو حياة هادئة، منتظمة بالأفعال اليومية وتبدو فيها الشخصية الضعيفة لزوج زهرة منسجمة مع قوة الابنة زهرة وأمها العكري. لذا، حين كان سي عبدالله يتلصص عليها فإنه يطلق رغباته باستحضار حميماته مع العكري ويمزج تلك التشهيات بفكرة أن العكري هي الإنسانة الوحيدة التي من الممكن أن يخبرها عن سر مخاوفه لأنها، دون الجميع، من يستطيع أن يقف معه ضد عصابة الغرابة. هذا التوهم قاده الى أن يسعى لمصالحة العكري بل وفكّر أن يعيدها الى عصمته، ولكنه لا يفعل بل يظل يؤجل فكرة المصالحة لكي لا تتكشف أوهامه وتتعرى وتصبح فكرة كون العكري قادرة على الوقوف معه فكرة غير صالحة وليست منطقية، لذا فإنه يكتفي بالتلصص ويجعل مخاوفه تتناثر في استعادة العكري وفي اقتسامها الخوف معه ومساندته. وهو لا يكتفي بالتلصص على العكري بل تنال نساء البئر جزءاً من وقته الفارغ الذي يملأه بطقس التلصص الصباحي فنراه يدخل " تراكي" بنت صلوحة في منظومة خيالاته الصباحية الشهية، ويتمادى في تلك الخيالات الى الحد الذي يظن أنه قادر على أن يجعلها زوجته الثالثة، لكن خيالات سي عبدالله تبدو خيالات واعية فهو وإن كانت لديه القدرة على التماهي مع تلك الاحلام فأنه هو من يفند صلاحيتها لأن تكون واقعاً قابلاً للتحقق أم لا، لذا فهو يكتفي من تلك التداعيات بقدرتها على أن تملأ صباحه، وتخلف عنده حالة من البهجة التي يعيشها بعد أن يكون قد أمضى ليله في هلع وخوف وهو يترقب وصول عصابة الغرابة وبهذا فإن حالة التلصص تغدو مجرد نزهة بديلة لكوابيس الليل. خاتمة : لم يبتعد الحبيب السالمي في روايته هذه كثيراً عن روايته الأسبق "عشاق بيّة"، فالمكان والشخوص تبدو متشابهة في الروايتين كما يبدو احتمال كون سي عبدالله خامس عشاق بية وارداً جداً ويمكن أن يكون الحبيب السالمي قد شعر بأن تلك الشخصية تستحق أن تكتب في رواية مستقلة فأطلق سراحها من روايته تلك ليخصها برواية "أسرار عبدالله". ومثلما كانت شخصية بية غائبة في تلك الرواية رغم أنها صانعة كل أفعال الشخصيات ومولّدة الخيالات في رؤوس عشاقها فإن عصابة الغرابة كانت كذلك في هذه الرواية حتى أن ثمة شكّ يخيّم على جو الرواية في حقيقة أن تكون هناك بالفعل عصابة حقيقية بهذا الاسم، لكن هذا الغياب هو صانع المخاوف والهواجس عند سي عبدالله وهي ما أطلق عليها المؤلف أسرار عبدالله. إن تلك الأسرار هي الوجه الحقيقي لتلك الشخصية التي ارتهنت للخوف فعاشت مأزق الحياة المعطلة واستطاع الحبيب السالمي أن يضبط تلك المخاوف بحجم شخصية عبدالله الوسواسية وأن يرهقه ويرهقنا بلذّة التوغل في أعماق تلك الشخصية بل ويجعلنا نفتقد سي عبدالله وهواجسه بمجرد الانتهاء من قراءة الرواية ونتأسى عليه إذ لم يستطع أن يجعل يده تمتد و وتقدم كيس الحناء للعكري.