تنطوي الأيام كما انطوت تلك اللحظات التي كنتِ تعمِّرينها يا نوَّارة.. وتحت السنديانة العتيقة التي غرستها بيدك, وكبُرَت حتى استطالت تصافحُ العابرين في الشارع الطويل, تمنحهم خضرة روائها منديلا يمسح عن عيونهم غبارها.., والأرجوحة التي كان نسيجها من حياكة يديكِ, وليالي رمضان المقمرة على صوت تراتيلكِ تُفعم بالخشوع, تتمادى في الرخاء, وأنا بين عينيكِ أتجول في الحديقة المزدانة بغرسكِ, وأطوَل.. انطوت الأيام, لم أعد أدري أين أرجوحتي, ولا سطور كلمات دروسي على جذع السنديانة حيث سجلتها في غدوي, ورواحي, ظننتها لا تتبدد, ولا أفقدها, حتى وجدتُ سنديانتي وقد اجتثها نازل بالمكان لم يكن يدري ما الأيام التي تحمل صداها عروقُها, ولا الأصوات التي تسللت إلى عمقها, ولا الوجوه التي كانت تصافحها, تداعت دموعي, حين جئت المكان ولم أجدها, وتتداعى حين تقفز لعيني من عمق ذاكرتي التي أسائلها أن تهدأ عن مشاغبتي, تأتي بكِ في كل لحظة, وتدلق لي صفحات الأيام معك دلوا سخيا.. اليوم يا نوَّارة زارني طائف من عبق خضرتك, وصدى صوتكِ, وصياح ديككِ الذي كنتِ ترعينه ليكون أول صوت تنهضين بندائه للفجر, وأول ما تذكرينني به بالنظام.. اليوم ركضت خارج حدودي إليكِ أماه, لألتقي زخم ترابكِ, أغوص في شذى زرعكِ, أستنشق رائحة فجركِ, أستلهم الصفحات التي طُويت من زمنكِ الذي تقرطس في عمقي كحبة حلوى, كلما تحركَتْ, تكلم طعمُها في جوفي.. عادت الصفحات تنبسط كما صفحة النهر في هدوئه, أو ضجة البحر في مده, وجزره.. أتدرين لماذا؟!.. غربة تلفني, الموت من حولي يخطف الغالين, ربما يملأ الفراغ أنهم إلى وجهتكِ يذهبون.. ربما لا يدركُ الماضون في هدوء الطرقات ضجيج الموت في صدر الفاقدين.. غربة بعدكِ كل الطرقات يا نوَّارة, وباهتة بعدكِ كل النبضات, وبعض منكِ هنا يحملني إليكِ.. لأطمئن قليلا عن وحشة الطريق..