في يوم الجمعة الموافق 25 محرم 1440ه صحوت على جرس رسالة، وصلتني من الأستاذ سعد الماضي، ففتحتها، وليتني لم أفعل؛ إذ تتضمن خبر وفاة الشيخ عبد الله بن محمد الشايع الأديب والبلداني المعروف؛ فنهضت مفجوعًا لوقع الخبر على نفسي؛ ليس جزعًا من الموت؛ فهو نهاية كل حي، ولكن لما لهذا الرجل من محبة في نفسي، ولأجل تسويفي وتفريطي في زيارته؛ إذ ظننت أن الحياة ستطول به حتى أسلِّم عليه وأحادثه عن قرب، وما علمت أن المنية له بالمرصاد، فوا أسفاه على رحيل مثله، ولا أقول إلا ما يرضي ربنا، فله ما أخذ وما أعطى، وكل أمر عنده بحسبان. وصلتي بالشيخ ليست صلة تتلمذ أو مرافقة في رحلاته التي جاب فيها البلاد طولاً وعرضًا، وإنما صلة محبة في الله، واستفادة مما يطرحه من كتب وبحوث في مجال اهتمامه بالآثار، وتحقيق المواضع.. وكما يقال: العلم رحم بين أهله، ثم تطورت الصلة إلى زيارات متباعدة له، فزرته في منزله وحدثني وحدثته، ووجدت فيه تواضع الكبار وسمت العلماء، وأهداني كتبه التي لا تشبع عيني فيها من نظر، ولا أبغي لها بدلاً، وإن خالفته الرأي في بعض ما ذهب إليه في تحديد بعض المواضع القديمة، مثل الدخول وحومل وغيرهما. ومنذ عامين أو ثلاثة بدأت أراسله عبر الواتساب فكان يجيبني ويداخلني؛ فأستفيد من فيض علمه، ومن ردوده المفعمة بالود والتواضع. وسأعرج على بعض ما دار بيني وبينه بعد أن أبيِّن منزلته بين البلدانيين الذين سبقوه أو عاصرهم. كما يعلم الجميع أن الشيخ محمد بن بليهد أسس مدرسة بلدانية مهمة، قوامها الرحلات الميدانية، والوقوف على الأعلام قبل وصفها، وسار على هذا النهج الشيخ حمد الجاسر وعبد الله بن خميس وسعد الجنيدل ومحمد العبودي وعاتق البلادي وغيرهم، ثم أتى من بعدهم جيل آخر، منهم الشيخ عبد الله الشايع، فأدخل مجال التصوير الاحترافي والتقنية في تحديد المواضع؛ وهو مما جعل وصفه للأمكنة أدق بلا شك مع نبش النصوص من بطون كتب التراث التي تحدد الأمكنة والمواضع التاريخية، وتطبيقها على الواقع، فاجتمع لدى الشايع تقنيات تحدد المسافات والارتفاعات، وترصد حدود المكان، فلا عجب أن يفوق من سبقوه في هذا المجال، وأن يقتفي أثره من أتوا بعده؛ فأخرج كتبًا مهمة في هذا العلم، خاصة ما يتعلق بطرق القوافل القديمة التي يبدو أنه أحب البحث فيها، واستغرق عمره في تتبع جوادها، ومناراتها، وصواها.. ومن كتبه تلك: الطريق التجاري من حجر اليمامة إلى البصرة، والطريق التجاري من حجر اليمامة إلى الكوفة، وأعلام الطرق القديمة بين خيال الباحثين والواقع، وطريق الأخرجة من فيد إلى المدينةالمنورة، وأطلس الشواهد على مسارات طرق القوافل القديمة في شبه الجزيرة العربية. أما كتبه الأخرى فلا تخرج من حيز الاهتمام بالمواضع، وهي: نظرات في معاجم البلدان (ثلاثة أجزاء)، ومع امرئ القيس بين الدخول وحومل، وعكاظ الأثر المعروف سماعًا المجهول مكانًا، وفي أرض الشحر والأحقاف، وبين اليمامة وحجر اليمامة، وسوق مجنة: بحث في تحقيق موضعه، وتحقيق موضع سوق ذي المجاز، ومواضع بعض الغزوات والسرايا النبوية: بحث تاريخي وتحقيق ميداني. وقد أعجبني قول أحدهم بأن منهج الشيخ عبد الله في كتبه كمن يلقي حجرًا في ماء راكد، فهو مثير في كل ما يتوصل له من آراء، ومع ذلك فكل الدلائل التي يستشهد بها تجعل المطلع يكبره؛ أولاً: لتواضعه، وعدم انتصاره لرأيه. وثانيًا: لاحترامه من سبقه من العلماء والباحثين. وثالثًا: لإلمامه التام بموضوعه الذي يتطرق له. فهو - رحمه الله - بلداني صميمي، نشأ في قرية الشعراء التي أنجبت عددًا من البلدانيين الذين يشار إليهم بالبنان، أمثال: سعد الجنيدل، والدكتور ناصر الرشيد، وعبد العزيز اليحيان، وسعد الماضي، ومحمد السيف، وعبد العزيز العجاجي وغيرهم. ثم عاش فترة من شبابه في مدينة عفيف، وهي معروفة بموقعها المتوسط بين أشهر الأعلام في عالية نجد. وهذا مما عزز موهبته، وجعله مطلعًا على أكثر أعلام نجد ثم المواضع الأخرى المهمة في بلادنا. ومما يحز في النفس أنه ذهب وذهبت معه معلومات ثمينة، وأحداث عاصرها في طفولته، أو رواها ممن عاصروها تدخل في مجال التاريخ الاجتماعي.. فقد حدثني ذات مرة عن بعض ذكرياته في الشعراء، وقال معلومات جديرة بالتدوين، وربما لا توجد عند غيره. وأجزم أن من أصدقائه من يحفظون عنه بعض تلك الذكريات المهمة ممن رافقوه في رحلاته. أختم بما دار بيني وبينه من رسائل، من أهمها سؤالي عن أهم المكتبات القديمة في مدينة الرياض بصفته من الرعيل الأول، فقال: أثناء دراستي في المعهد العلمي بالرياض بين عامَيْ 1376ه و1380ه بدأ اهتمامي أكثر بقراءة الكتب قراءة متمعنة، وكانت المكتبة العامة الواقعة بجوار منزل الشيخ محمد بن إبراهيم ومسجده في حي دخنة مقصدًا لطلاب العلم ومحبي القراءة نظرًا لما تحتويه من نوادر الكتب والمخطوطات، وكنت أسير يوميًّا من بيتي بحي الشميسي مشيًا على الأقدام قبل أذان العصر؛ لأدرك الصلاة في مسجد الشيخ، ولأكون مع أول الداخلين عندما تفتح المكتبة خشية أن يطلب أحد القراء الكتاب الذي أقرأ فيه، خاصة أنه لا يمضي كثير وقت إلا وقد امتلأت قاعة المطالعة بالقراء. وأما المكتبات التجارية فليست من الكثرة بمكان آنذاك، منها: مكتبة اللواء في شارع الوزير، وعدد من المكتبات في عمارة ابن دغيثر الواقعة في شارع البطحاء، مثل: مكتبة الحرمين، ومكتبة النصر، والمكتبة الأهلية لصاحبها عبد المحسن البابطين. وأذكر أنني اشتريت من مطبوعاتها كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) بمبلغ خمسة ريالات، ويرغب محبو الكتب في شرائها من حراج ابن قاسم الواقع شمالي المسجد الجامع؛ لأن الكتب تباع فيه رخيصة؛ لأن من يعرضها يريد التخلص منها. ومن ضمن الكتب التي اشتريتها من الباعة في هذا السوق المفتوح كتاب (شرح رياض الصالحين) المسمى (دليل الفالحين)، ويقع في ثمانية مجلدات، للعلامة محمد بن علان، وتحقيق محمد حامد الفقي، وهو مطبوع عام 1357ه/ 1938م. كما توجد مكتبات صغيرة في الدكاكين الواقعة غرب ميدان الصفاة، وكان هناك متخصصون في حبك وتجليد الكتب القديمة. وقد جلد لي أحدهم طبعة قديمة من كتاب رياض الصالحين. وتطرقت للحديث معه عن كتاب سفر نامة الذي ترجمه الدكتور يحيى الخشاب فقال: لقد قرأتُ هذه الرحلة أكثر من مرة. وتحقيق الكتاب ليس على ما يرام. وقال: موضع الثريا الواردة في وصف الرحلة من الطائف إلى نجد يبدو أن الاسم دخله تحريف، وأن المقصود تربا، أي تربة، فالوصف ينطبق عليها، ويدل على هذا أنه ذكرها بعد مطار التي ذكر أنها قلعة، ومطار جنوبالطائف بقرابة 24 كيلا. وقال: إنها تبعد 12 فرسخًا، ولا يستبعد أن تكون 12 ميلاً لا فرسخًا، وكلامه فيه تقديم وتأخير. وسألته عن منهج الباحث البلداني عبد الخالق الجنبي فقال: الجنبي له جلد على البحث، واطلاع على النصوص في المصادر، لكن تحقيقاته في الغالب ليست دقيقة، وقد أهدى لي عند الاجتماع به كتابه جرة، يقصد جرها، وتحقيقه لها ليس صائبًا. وعندما علم أنني من أهل تثليث ذكر لي أنه زارها، وكتب تقريرًا عن رحلته إلى جاش، وسلمه للدارة. ويبدو ألا أحد يهتم بتلك التقارير، وذكر أنه قابل بعض أهلها، وسجل معهم، لكنه لم يجدد نسخ الأشرطة فتعرضت للتلف. رحم الله الشيخ عبد الله الشايع، فلولا الإطالة لما اكتفيت بما قلت عنه، ولكنّ عزاءنا في كتبه التي خلفها فسننهل منها، وستستفيد منها الأجيال القادمة بإذن الله. والحمد لله على كل حال. ** **