ما حصل في البصرة هو في رأيي انعطافة تاريخية لا يمكن إلا أن تعتبر إرهاصة لها مدلولاتها، التي ستترتب عليها مستقبلا بعض التطورات لإخراج العراق من المأزق الذي وضعه فيه الساسة والحزبيون الطائفيون؛ وهو تطور يجب أن يتنبه له المحللون. البصرة هي حاضنة تاريخية للمذهب الشيعي الاثني عشري، إذ إن الأغلبية العظمى من القاطنين فيها وفي أريافها، يدينون بهذا المذهب. إيران تطرح نفسها في العراق أنها راعية ونصيرة الشيعة في كل أرجاء الأرض، وليس العراق فحسب، ومن خلال هذا البعد الطائفي استطاعت أن تخترق لحمة المجتمع العراقي، وأن تنشئ الأحزاب والميليشيات المسلحة وتمولها لتدين لها بالولاء على حساب الولاء للوطن. كانت ثورة البصرة الأخيرة في البداية ثورة تطالب بالخدمات، وليس لها أبعاد سياسية وهذا كان واضحاً لكل من رصد مجريات هذه الثورة منذ انطلاق شرارتها، غير أن اللافت الذي لا يمكن تجاوزه أن المتظاهرين توجهوا إلى مقر عصائب أهل الحق الموالية لإيران، وأحرقوا مقرها في البصرة، ثم ذهبوا أكثر من ذلك وأخطر في اقتحامهم القنصلية الإيرانية، وأضرموا فيها النيران، في نقطة تحول غاية في الدلالة مؤداها أن البعد الطائفي الذي سعى الإيرانيون إلى تكريسه وجعله البعد الأول الذي لا يعلو عليه أي بعد آخر، سواء كان قوميا عربيا، أو وطنيا، ها هو يتحطم أمام (ثورة) أهالي البصرة. وكنت منذ ما يقارب السنتين، وخلال رصدي مظاهرت الصدريين في بغداد كانت هتافات جموع المتظاهرين تهتف : ( إيران برا برا والعراق تبقى حره) ومن المعروف أن أتباع رجل الدين مقتدى الصدر هي الفئة التي فازت بأكبر قدر من أصوات الناخبين، كل هذه المؤشرات في مجموعها تشير إلى أن العراقيين بدؤوا يكتشفون الأجندة الإيرانية، التي تسعى إلى إلغاء استقلال العراق، وإلحاقه كحديقة خلفية بجمهورية الملالي. إيران كانت تريد من العراق، وشيعة العراق، أن يكونوا هم خط الدفاع الأول عنها، خاصة في وجه الحصار الأمريكي المزمع فرضه على إيران من قبل الولاياتالمتحدة؛ بمعنى آخر تريد أن تجعل العراق كبش فداء من شأنه أن يعيق الأمريكيين من الإطباق عليهم، ويبدو أن مقتدى الصدر قد تنبه لهذه النوايا الإيرانية الخطيرة، التي من شأنها أن تزيد مأساة العراق مآسي جديدة، لا يمكن للعراق تحملها. انحسار نفوذ إيران في العراق هو بلا شك خسارة فادحة للإيرانيين، ولا يمكن لملالي الفرس أن يتقبلوها بسهولة، غير أن عملاء إيران من العراقيين بدؤوا فعلا يشعرون أن عمالتهم المفضوحة لإيران لا يمكن تبريرها، فهناك أغلبية كاسحة من الشعب العراقي تأبى أن تضحي يسيادتها واستقلالها، وكذلك عروبتها، لتكون لإيران خط الدفاع الأول، الأمر الذي جعل انتفاضة البصرة المجيدة بمثابة الجذوة التي من شأنها أن تجعل العراقيين الشيعة ناهيك عن السنة، يساهمون مساهمة محورية في تكبيل النفوذ الإيراني. إلى اللقاء