هكذا ينبز لسان الدين بن الخطيب بعض خصومه. والحق إن هذا الرجل آية في تكوينه الذهني، وتبصره بالأمور، وانهماكه في أحوال الناس. وأوصافه شهب مرسلة، صادقة وأمينة في أكثرها، رغم ما ابتُلي به من ازدواج الشخصية وتقلب المزاج، حتى نراه يكيل الثناء على الرجل حينًا، ثم ما يلبث أن ينهال عليه بالشتيمة عما قليل! وعبارة العنوان هذه حقيقة بالتدبر؛ لا لطرافة الجمع بين شقيها فحسب، بل لكونها صادرة عن مسؤول فوق العادة، خاض غمار الشدائد، واصطلى بنار الفتنة، وبها احترق في نهاية المطاف. لقد أدرك وزير غرناطة أن الأزمات - أندلسية كانت أو غير أندلسية - مادة للاتجار، وسبيل لاقتناص الصفقات، يتصدى لها أدعياء ورويبضة، أقعدتهم النازلات مقاعد الوجهاء. وهؤلاء سعاة للفتنة وسعاة بها، وبواعثهم لا تشذ عن شهوة انتقام، أو هوى مصلحة، وشأنهم الغالب لا يبلغ بهم منزلة أطراف الصراعات، وسرعان ما ينجمون، وسرعان ما يكسفون، وما مثلهم إلا كوسيطة الأجساد، لا تقود إلا للخطيئة، ولا سبيل سواها لبلوغ الغاية في معظم الأحوال؛ قبضها معجل، ولها من الجرأة فوق ما لسواها من رواد الآثام ودعاة الرذيلة. إن جبين التاريخ ليندى بهؤلاء، وهم أخلاف تشابه قلوبهم، يعتريهم سبات عميق، لكنهم لا ينقرضون، يغلب عليهم أنهم لا يختلقون الفتنة، ولا يشعلونها ابتداءً، لكن متى اضطرمت استداموها بوقود الدهماء وصغار العقول وضعاف النفوس. يتشكلون بهيئات الناس، منهم الفقيه والشاعر والوالي، يطيقون ما لا يطيق الآخرون من إماتة الضمير، فلا يردعهم رادع، وأفظع من هذا كله جسارتهم على نظم صنائعهم في سلك الواجب والجميل والحازم! أما عواقب ما يقدمون عليه فكارثية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ فلم يؤثر عنهم دخولهم في شيء إلا بان فيه الفساد، وأسرع إليه الدمار، وهم بمنزلة الفتيل الذي يقود الشرارة للبارود، أو المسمار المكمل لدائرة الكهرباء؛ فإن غاب الموت ناب عنه جسيم الأضرار. والحقيقة إنهم كائنات زئبقية بامتياز، تصعب السيطرة عليها في محيط الفتنة، لهم قدرة فائقة على المراوغة والتخفي، وكأنها في طبيعتهم ومن فطرتهم، حتى إذا تم المراد عادوا لحالة من الطبيعية والاعتيادية إلى حين... يتبع ** **