قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً ركبت الطائرة المغادرة من القاهرة صوب الرياض في رحلة حسبتها ستكون قصيرة وربما قصيرة جدًا، فأنا لم أتعود على الغربة ولم ألفها من قبل ولم أكن أخطط لها ولكنها إرادة الله تعالى ناهيك عن كوني كنت ولا زلت شديد الارتباط بوالدتي - حفظها الله. وفي أولى المحطات تعرفت على شخصين كان لهما أثر كبير في بدايات رحلتي مع الغربة، فقد أصبح أحدهما أخي وصديقي المقرب لفترة وجوده معي، والثاني - رحمه الله - كان بالصدفة زميل عمل وسكن وصديق وأب لي، وشاهد على إعادة تشكيل شخصيتي من جديد. وصلت الرياض ولم يكن هناك من يستقبلني فبحثت عن وسيلة أقضي بها ليلتي، وكانت أولى النوازل أن وقعت في يد سائق ليموزين تلاعب بي حين سألته عن فندق أقيم فيه هذه الليلة ويكون سعره مناسباً، وكانت الليلة من أغلى الليالي في فندق الخزامى، وكانت التوصيلة من أغلى التوصيلات، لم أكترث لما حدث وقمت مبكرًا نشيطًا للحاق بموعد العمل ووقعت أوراق مباشرة العمل، وكان لقائي مع رجلين فاضلين كانا ولا زالا هما - بعد الله تعالى - سببًا فيما وصلت إليه الآن، وهما: الأستاذ فهد الشبر والأستاذ عبدالعزيز الدويسي - حفظهما الله - وحين أُرسلت للمرحلة الثانوية في صبيحة يوم الثاني عشر من سبتمبر عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين ميلادي كان لقائي بمدير المرحلة (أبو ريان) الأستاذ عبد العزيز الدويسي الذي استقبلني أحسن استقبال وقدم لي واجب الضيافة ومن ثم وجهني إلى المرحلة الابتدائية، كون أن مقرر المادة التي سأدرسها لم يصل من وزارة المعارف حتى لحظتها، وخلال لقائي الأول مع (أبو ياسر) الأستاذ فهد الشبر أحسست بكم العاطفة والحنو التي يكنها هذا الرجل لبراعم مدارس الرياض، فقد حثني على العناية بهم وتعليمهم ووعدني بتوفير كل متطلبات إنجاح العمل، وقد كان وخلال فترة عملي في المرحلة الابتدائية، ثم المرحلة الثانوية التقيت برجال في عمر الزهور لهم سمات القيادة من فكر وذكاء وتصور وتخيل، وقد توقعت لهم الوصول إلى سدة المناصب، وقد كان فقد أصبح الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد وآخرون أمراء أو نواب أمراء مناطق غير الوزراء والمسؤولين في الدولة. وكلما سرحت بي الذاكرة وعدت إلى الوراء أتخيلهم في دراستهم ولعبهم ومزحهم فأبتسم وأشكر الله الذي هيأ لي هذه الفرصة وجمعني بهذه الكوكبة الناجحة بفضل الله وتوفيقه. وبعد أن رأيت الغرس يثمر أشجارًا عانية كان لابد من التوقف لبرهة وسؤال النفس ماذا بعد؟. وكان القرار الرحيل عن المكان والبحث عن عمل آخر أواصل فيه تقديم العلم والمعرفة لكل من يحتاج سواء من أبناء بلادي المملكة العربية السعودية أو غيرها، ولا أجد في قولي بلادي غرابة فأنا مصري المولد سعودي المقام والطباع، فحب هذه البلاد لا يتوقف عن الازدياد يوماً بعد يوم بل إنه أصبح أكبر من أي حب، ولِمَ لا وقد عشت فيها أكثر من نصف عمري وما وجدت من أهلها إلا كل طيب وكل حب وكل صدق، ولعل دموع زملائي وطلابي عند الوداع خير شاهد على ذلك. ** **