لأن الكتابة تنقلنا إلى عوالمٍ لم نعشها، وتسبر بنا أغوار الحيوات الأخرى سواء كانت سابقة أو لاحقة، وتُعبِّد لنا طرق التاريخ بالتأريخ، وتُعيد تشكيل الوجود، وتخلق أوهام البداية، وتفتح الأبواب بعد النهاية، فإن الزمن يحين ينفصل عن كينونته الثابتة في ظرف اللحظة الحالية، ويتحول إلى صيرورة مُتنقلة وفق رغباتنا الدفينة يصبح أكثر إثارة للنفس التواقة، لكن السؤال من يقدر على كتابة كهذه الكتابة؟ ومن يستطيع ويجرؤ على رصف الجسور بحرفه؟ في جائزة البوكر العربية كان التنافس محتدماً بين محمد حسن علوان وآخرين لا يقلون روعة ولا تألقاً عن علوان، لكني كنت على يقين بأن رواية موت صغير ستفوز بجائزة البوكر، فليس من السهل أن يتقبل الإدراك عملية قلب الموازين ليصبح ذلك الموت الصغير الذي كتبه علوان عن حياة ابن عربي أشهى من ظنون الحياة وظروفها. لقد سال الزمن من يدي علوان وهو يكتب عن حب شبهه بالموت الصغير في حياة الصوفي ابن عربي، وتشرّب وعي القراء وإدراكهم معنى الحياة المخفية في السر الظرفي الذي نعجز أن نفهمه حين نعرف أن ساعات الزمن ليست لحساب الوقت فحسب، بل رُبما هي شواهد على محنة التاريخ المعطوف على حيوات تلت تلك الحقبة التاريخية التي لم ندرك منها إلا ما كتبته الأقلام قبل أن تجف. قال محمد علوان في تقديم روايته موت صغير: «منذ أوجدني الله في مرسيّة حتى توفاني في دمشق وأنا في سفرٍ لا ينقطع، رأيت بلاداً ولقيت أناساً وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريقٍ قدره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن في سفرٍ دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر. ومن ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم.» هكذا كان إبحارنا وسفرنا مع تلك الرواية الفائزة بجائزة البوكر عن جدارة واستحقاق، وهكذا صار ذلك الموت أشهى، وبالطريقة ذاتها حوى حرفه قبس الوجود، ليُنير للقارئ النهم الذي يقرأ ما بين السطور ظلمات العدم. - عادل بن مبارك الدوسري [email protected]