يمتاز قلم الأديب أحمد بن يحيى القيسي بأنّه قادر على أن يجمع بين حلاوة اللفظ, وعمق الفكرة, بطريقة تُذكِّرنا بفلسفة عمالقة الآداب العالمية. ولو كان شيخ البلاغة (عبدالقاهر الجرجاني) بيننا الآن لجعل مما كتب القيسي مثالًا حيّا للانتصار لقضية اللفظ والمعنى؛ فألفاظه لا يترهل بها المعنى, ولا تضيق هي عنه. في زاويتي هذا الأسبوع سأختلس بطريقة مشروعة جدًا بعض نصوص القيسي من كتابه: (لستُ هنا.. هل رآني أحد؟!)؛ لأشارك القارئ الكريم جماليات السرد الذاتي عند جيل الشباب, القادم إلى الساحة الأدبية بعمق رؤيته الإنسانية. أبدأ بالاقتباس من الإهداء الذي أقمت عليه مأتمًا عند قراءتي له! فقد قلت من خلاله أشياء كثيرة لأرواح الراحلين واحدًا واحدًا.. (الإهداء) «إلى فيصل جبلي القيسي: أنزّهك عن كل المراثي التي اقترفوها.. أنزّهك عن كلّ حزن ودمع نرتكبه بحجة فقدك.. أنزّهك عن تهمة الموت التي ألصقوها عبثًا على نافذة غيابك.. فكلّ الأشياء تراك سوانا.. يالبصائرنا التي أتلفها الزهايمر مبكرًا!!» (شتات) لم أتشبّث بي جيدًا, وأنا أتسلّق جدران ذاتي. كنتُ أراني حينها, وأبتسم لنفسي, وأنا أتساقط حولي كثمار نسيتها مواسم الحصاد, معلّقة على يباس الشجرة» (هذيان أنيق) «العزلة هي الجهة الخامسة. هي الجهة الأصليّة الوحيدة التي تُطِلّ منها على كلّ جهاتك» (خذلان) «لا أحد يُفكِّر أن يصلب خطوته في آخر دهشة يرتطم بها, ولا أحد يتشبث بتلابيب مسراته كي لا تغادر. نجتاز اللحظة, ونمضي بهدوء إلى حزن يقف بعيدا عنّا؛ حزن يكتفي بالإشارة إلينا بإبهامه, كما لو أنّه يهددنا بلقاء آخر. نمضي دون أن نلتقط صورة تذكارية توثق هذا الخذلان» ( أنا.. وأنا) «أنا وحيد! عبارة أُزيّن بها كثافتي درءًا للحسد. أنا وحيد يتوحد في الموجودات لذلك أعيش في خصام أزلي مع ذاتٍ أمنحها كلّ بطائق هويتي» (دوران) «اليوم هو الغد الذي كنت أنتظره بالأمس, وألهث خلفه اليوم. هذا الغد الذي أرهقنا ملامحه, وأثقلناه بأحلامنا, وأمانينا التي تتكوّم مثل القش. ما أكثر القش في أحلام الغرقى!!» (لأعيش أكثر) «لاأحبّ قراءة صفحات التعازي, والتمنيات بالصبر والسلوان. لاأحبّ أن أسمع الطبيب, وهو يتحدث عنّي بحسرته المزيفة: وصل متأخرًا! أُفكِّر أن أتلاشى كرسالة نصية لم يستلمها أحد. أن أذوب كقطعة سكر في فم طفل حرمه الجوع من التفكير في الحلوى. سأتناثر في شرايين الحياة, وسأمنح المحتاجين للأعضاء فاكهة لذيذة؛ لأعيش بداخلهم أكثر من حياة, وسأعيش أكثر مما تحلم به ديدان المقابر» (ملامح منسيّة) «ملأنا الوقت ضجيجًا ملوّنًا, وصخبًا لذيذًا. انصرفنا واحدًا واحدًا, فتقاسمتنا الخريطة, ومازالت الدّروب تتهجّى خطانا البعيدة كتلميذ مبتدئ, والصدى وحده يتردد في أخاديد الذاكرة» هذه بعض تراكيب (القيسي) الخارجة عن المألوف لغة, وفكرًا. هذه بعض ملامح حرفه الذي يستحق أن يكون مادة دسمة على موائد النّقاد, كشاهد على تحولات الأدب في عصره. أتمنى أن أكون قد وُفقتُ في اقتناص مايقدمه- وهو الغني عن التعريف- للساحة الأدبيّة بشكل يليق بحرفه السّامي.