علي سباع، شاعر سعودي جاء من مدينة الحلم باحثاً عن حلمه في القصيدة، يفتح أبواب المدينة كلها مستكشفاً الجميل الذي يترك ذكرى مؤثرة في الروح. ممتلئ شعره بالدلالة والرموز التي يراها خادعة أحياناً وتوصل المعنى المغاير الذي لا يريده، يرى المستحيلل مجرّد تصوّر آني ويبذل جهده ليفخخ اليقينيات، وهو مع هذا يرى النص بغير هاجس الشك هو نصُّ ميت. «الحياة» التقته وحاورته حول ديوانه «بأبواب المدينة كلها» الصادر عن دار الغاوون عام 2011 وجديدة الذي أوحى لنا به ذات مساء. إلى نص الحوار: سيحزنني أن تكوني رشيقة، وأكثر أن تكوني جميلة أيضاً.. هل ترى الجمال مصدر بؤس؟ - لعلي كنت مثالياً بعض الشيء، الجمال ليس مصدراً للبؤس، لكنه هنا حيث العبارة مقتطعة من رسالة الذئب إلى ليلى كان محرّكاً لخيار آخر، إذا كنت سأتصوّر هذا الذئب القاتل المتعطش للدم بواقعيّته الشهوانية والحيوانيّة شغوفاً بالقتل، فإن خيارَ جمالها المحرّك لعاطفته كان يشبه حلماً أحاولُ تصنّعه، نعم هذه أمنية أن يحزن الذئب لكون هذه الفتاة الجميلة والرشيقة، سواء أكانت مدينة أم قصيدة أو ذكرى إلى آخره مؤثراً بوجود خيار آخر غير القتل أو الدمار، على كل حال الجمال بكلِّ شيءٍ يرحل ويمضي أكثر ألماً وحزناً، كل جميلٍ في الذكرى أكثر أثراً في الروح وإن كنتُ ذئباً وإن كان هذا ضربُ مثاليّةٍ. لا تحزني.. لكلينا وجع ناقص.. حلم مفقود.. إلى أي حد ممكن للحلم أن يكون مصدر الحياة الأهم؟ - دائماً الحلم المفقود هو الأهم، الحلمُ الذي بكونه هدفاً نتحرّك إليه، البحث الدائم والأبديِّ عنه هو حركةٌ في الإيقاع والفكرة والخيال، في اللغة وفي الحديث العابر وفي القصائد وفي القراءة، البحث عن الحلم كالبحث عن تتمّة الوجع، لطالما كنت أنظرُ للمسلسل الكرتوني «جزيرة الكنز» على أنّ كنزه مجرّد وهم، وكنت أحذف الحلقة الأخيرة منه، أتركه مفتوحاً؛ لأنني أجد كل من قتلوا لأجل هذا الكنز كانوا يبحثون عن حلمهم المفقود، لا أعني ما تصوّر باولو كويهليو في روايته «الخيميائي» حول الحلم، ولكنني أعي بأنّ ثمةَ حلماً لا ينتهي أبداً، وهو موجود، فإذا وجدت حلمك فهذا يعني بأنّك أخطأت الهدف. حدثنا عن أبواب مدينتك، أبواب مدينتك الحلم، المدينة التي تستطيل لكن بأبواب لا أقفال لها؟ - المدينةُ أنا، هكذا بكل ما بهذه الجملة من إثبات، الأسوار العالية التي أردت هدمها مراراً ولم أستطع، لعلي بعد يأسٍ كبير قررت أن أصنع أبواباً كثيرة تكفي لأتنفّس، لأحكي عزلتي، لأخدش جدراني الوهمية، لأكابر ضدّ أضدادي العفويّة، أخطائي البسيطة التي تشبهني. مشكلتي أنّني كنتُ أتصور بأن ما وراء هذه المدينة صحراء أو بحار هادئة، ولكن بمجرّد فتحت أبوابي شعرت بالضجيج الذي لا طاقة لي به، ولكن لم أكن أملك أيّة أقفال لأغلقها، كنت جريئاً وهذه ضريبتها. الشعر حقيبة التذكارات غير المرئية، هكذا يراه كارل ستانبرغ.. كيف يرى الشاعر علي سباع الشعر؟ - ليتني أراه يا صديقي. كل ما أفعله الآن مجرّد تجارب لأكتشفه، حتى إن أكثر ما يحزنني بأنَّ كل هذه التجارب كانت مجرّد أبواب مفتوحة، فلنتخيّل هذا الشعر الذي يتكون من كلمات، الكلمات التي تعيش على الدلالة، تقولها فتهرب، تحاصرها فتتزأبق، ودائماً ما تشعرك بالراحة الآنية التي ما إن تصمت وتعيد النظر لها من جديد حتى تجدها مجرّد صديقٍ عابر حادثته بما تخفيه في مكنونك، لكنه ذهب ليخبر بقية معارفك في المجالس والأماسي بكل هذا المكنون الممتلئ بالدلالات والرموز بطريقة خادعة تظهرك مختلفاً عمّا أردت، تندم ربّما، لأنه خدعك أو تندم لأنّ كل أصدقائك العابرين هم الشعر ولا تستطيع إلا أن تكتبَ من جديد. لا تنتهي القصيدة أبداً، بل تترك، بحسب بول فاليري.. هل سبق لك أن تخيلت قصيدتك من دون رضا؟ -بالفعل، معظم قصائدي تشعرني بعدم الرضا، الرضا الآني نعم، ولكن لطالما نظرت إلى قصائدي وقلتُ: ياه، لمَ قلت هكذا ولم أقل أو كيف قلتُ ولمَ لا أقولُ؟ هذه الضجّة جميلة جداً وأحبها، لا أتذكر بأنني حضرت أمسية لي، ولم أحرّر على الورقة النهاية بالقلم الرصاص بعض الكلمات، ولولا الديوان ربّما لكنت ما زلت حين أعود لنصوصي أحرّرها. بل إنّ أكثر الأمور إحراجاً حين يطلب منّي أحد ما النصّ الذي ألقيته فأجدني على مضضٍ أقفُ أمام فضيحةِ التحرير والتغيير التي ملأت هوامش الورقة، كأنني أجده في معضلة قراءة النصّ يصلُ الكلمات بعضها ببعض. لا تثق في رجل يكتب شعراً، لا تثق بامرأة عارية، لا تثق بي.. إلى أي شكٍّ تقود نفسك في لاءاتك هذه؟ - إلى التجريب. اليقين مجرّد خدعة، لطالما أثبت لنا الزمن بأنّ المستحيل مجرّد تصوّر آني، الشكُّ هو إعطاء المثبت صفة الخيار، إعطاؤه صفة الحركة، الشكُّ ليس بصفته المرضيّة بل بصفته المتقلّبة زمنياً والمتغيّرة مكانيّاً، الشكّ أيضاً هو أن تهب المتخيّل مساحة أكبر من التلاقي، لكنني في النص كنت أحاول جاهداً أن أفخّخ هذه اليقينيّات، أجهدُ لكي أراها خياراً مشرعاً، وأحاول أن أقتلني بداخلها، بالأحرى أحاولُ جاهداً جعلي أنا خياراً وليس يقيناً مثبتاً بقصائدي التي أكتبها وتعرّيها الدائم أمام الآخرين. ولديّ قناعة بأن النص بغير هاجس الشك نصٌّ ميت. أفكّر كأي رجلٍ، بما تخبّئين ورائك، غرفة نومٍ أم غرفة طعام.. ألا تترك نافذة أخرى للدهشة لتتسع الرؤية والخيارات؟ - تبدو لي هذه الصورة الكاريكاتورية مغلقة، ممتلئة بالوعي، وكنت وقفت عندها حين كتابتها كثيراً، ما الذي أريدُ أن أقوله أيضاً، استندت إلى الكرسيِّ سارحاً وأنا أقول كيف أفتح نافذة بجوارها، لكنني كنت واثقاً «لحظتها» من أنّ بعض النصوص لا تحتاج إلى التكثيف بقدر وصول الفكرة، وتساءلت كثيراً إن كانت الفكرة تكفي ليكون مدهشاً أو كنت بحاجةٍ إلى التعبير بلاغياً فيكون أكثر إدهاشاً، بالأحرى هل وجود خياراتٍ أكثر سيهبها الدهشة، لم أقل لا، أؤمن تماماً بأن الخيار حق مشاع للمعنى، لكنني توقفت، وهذا أقصى ما كنت أشعر به لحظتها. قريتك الصغيرة.. ضاجعت كل أشجارها ولم يكن لأي منها طعم الليمون.. هل تجد طعم الحب حامضاً لهذا الحد؟ - يالله، حموضة الذكرى ربما، حموضة الركض بين الأزقة، الجلوس على عتبة المنزل في الظهيرة، تسلق الجدران بالعصي لضرب الثمار وأحياناً قطفها، حموضة القفز بساقٍ واحدةٍ على مربّعات مخطوطةٍ بالفحم، حموضة الأماكن التي تركنا بها آثار دمِ الطفولة، حموضة النخيل والعيون المائية حيث كنا نتركُ ملابسنا ونقفز للماء، وحيث كل هذه الذكريات التي تشعرك بالألفة وتسكنك بحبٍّ وأنت تعبرها بعد حينٍ تشعر بها، بعصارتها ربّما، الشجرة الليمون هذه التي تكبر في داخلنا لا نستطيع أن نشعر بطعم غيرها أبداً. مدينة «التموز».. هل فتحت بابها، أم أنك أضعت دليلك الهدهد وفقدت بوصلة الولوج؟ - التموز، التي كنتها، ذكرت بأنّني حاولت أن أغلق كل أبوابها، لكن هذا الأمر مستحيل، نعم أنا أضعت بوصلتي، أتذكّر بأنني عشت هذا الضياع منذ زمن بعيد، بدايته الأولى خيار خاطئ، وحين أحاول العودة لمعرفة هذا الخيار الخاطئ أكتشف بأني أنزلق إلى حيث النسيان، ما زلت أجهل المرة الأخيرة التي رأيت فيها الهدهد، وبصراحة أكبر رأيت هدهدي على أشجار الآخرين ولم أصطده، لم أرغب في اصطياده، لقد ألفت هذا الطريق ربّما، لاحظ بأنني ما زلت أكتب على رغم كل ما تسببه الكتابة من فقدان للثقة وإحساس بالضياع وكل تجربة كتابية تشعرك بخسارة أخرى وفشلٍ مريع في تجاوز المرحلة أو حتى تفاديها، الكتابة التي يظنها القرّاء مجرّد متعة ولحظات فارهة من الوقت الجميل، الكتابة التي يتباهى الكثير بسهولتها هي بالنسبة إلي مأزق ما زلت أرتاده، وأشير إلى نقطة هنا حول ما أكتب، أحياناً أتشبث بعباراتٍ وجمل أعرف بأنّ الآخرين من نقادٍ وقراءٍ ربّما يرونها بسيطة بما يكفي لكي تحذف، أتشبّث؛ لأنها خياري الوحيد في ما أردت كتابته ولم أستطع. ليلاك، قبلتك، والأصابع، متى تحتفي بقصيدتك الجديدة وقد مرّ على «أبواب المدينة كلها» ثلاثة أعوام؟ - أظنها أربعة أعوام، وأظنها كانت كافية؛ للتخلص من هاجس ليلى وقبلتها والأصابع والدخول في هاجس جديد وتجربة جديدة، لديّ مجموعتي القادمة التي اتفقت مبدئياً مع إحدى الدور لطباعتها، وهي بعنوان: «نزهة الهارب ومشيئة الغريب»، أسعى من خلالها لتجريب النص السردي القصير، كتبت في مقدمتها: «الكتابة محضُ تجربة. أؤمن كثيراً بأنّه لا يجب أن ننظر إلى النص مجرّد كتابة بقدر النظر لها كمحاولة لفهم النّص وإدراكه.