حلمٌ اسمُه ياسر عرفَات 1 لا يوجد عربي محايدٌ في حلم الفلسطيني. أدَّعي ذلك. وأدعيه بحسب ما عشت وما عرفت وما أحسست. أنظر إلى صور ياسر عرفات وأقول لنفسي هذا ادعاء فطري وادعاء مستنبط في آن. بين الفطري والمُستَنبط صحارى ومحيطاتٌ من السلوك والموقف المعرفيين. لكنني أدعي ما ادَّعيت. لا يوجد عربي محايدٌ في حلم الفلسطيني. لن أسأل نفسي عن الإصرار على ادعاء كهذا. ولا أعنِّفها بمحاكمة. نفسي وأنا في حالة واحدة. والادعاءُ يسري في الكلمات. والتاريخ الذي كان لي أن أعيشه متصلاً بالعذاب الفلسطيني هو ما دلني على ما أنا فيه. من حالة هي الادِّعاء. واليوم يتضح الادعاء في كلماتي. ربما لم يكن يسعى من قبل لتوضيح بالكلمات. لا فائدة في البحث عن الحالة. هي هُنا. واليوم ليس مثل الأيام الأخرى. مع عرفات. ياسر عرفات. محمولاً في هدوئه. واختفاء ملامح وجهه في نعش. عائداً إلى بقعة من أرض كل فلسطيني. وإلى إقامته التي لازمها لمدة سنتين ونصف السنة، محاصراً، ممنوعاً من مغادرتها. حركات أقدام عسكريين فرنسيين ثم مصريين تضاعف الصمت. والوجه المختفي يظهر في الأعماق المشتركة لكل مَنْ لم يكُنْ محايداً في حلم الفلسطينيين. شيء أكثر من الحزن وأبعد من الحسرة. هو الحِدَاد. تلك ملامح الوجه التي تحتفظ بها عيناك. والسنوات العديدةُ التي حفرت الصورة في العينين. وهذا ما أدَّعيه. منذ سماع خبر نقل ياسر عرفات إلى باريس للعلاج. وأيام الأنباء المؤسية. ياسر عرفات. هذا التاريخ الذي لا يحضر في حياتنا اليوم بما عليه أن يحضر. في صورة الحلم. الذي كان. واسمه ياسر عرفات. لا أستغرب من صمتي. أربعون سنة تتراءى لي بوضوح جارف. وأنا أسند ظهري للحائط. صامتاً. وجه. يتحرك في نفسي. ولا أحتاج لصورة ترشدني إليه. ما في الصدر. أربعون سنة أدَّعي أيضاً أنني أستحضرها. في حلم. وفي ياسر عرفات. فطريةُ مَا ادَّعيتُ تقودني في الصمت. وفي السنوات الأربعين. والحلم كلمةٌ تستغني عن بقية الكلمات. ولا أعاكس ما أحس. الحلم. أنا في لقاء معه. تاريخ من عذاب فلسطيني، ومن مقاومة في الاتجاهات التي كانت ترسِّخُ حلم الفلسطينيين. المقاومة وهي تصبح كلمة زمن وأجيال. وتصبح أكثر من ذلك مرادفة للحلم. يصاحب الفلسطينيين. كما يصاحب كل الذين وقفوا إلى جانبهم في العالم. وهل هناك ما يتضاءل في لحظة توديع ياسر عرفات؟ التاريخ والحلم لا ينفصلان. في أيام المرض وساعات العودة، محمولاً. إلى أرض فلسطينية. رام الله. 2 في كلمة الحلم ثقافة ذات عراقة عبر تاريخ الشعوب والحضارات. وهي الكلمة التي ارتفعت بالإنسان إلى أعلى مراتب اختراق الواقع الملموس بحثاً عن واقع لا ندركه إلا بقوة باطنية تصهر العوالم كلها في المستحيل. ومع فلسطين أصبحت كلمة الحلم تشع من جديد. لا شك. هي واحدة من أكثر الكلمات استعمالاً في القرن العشرين كلما تعلق الأمر بالمستحيل. هي الكلمة التي غادرت كتابات الشعراء لتتحول إلى كلمة تقود الناس في مصيرهم وفي اختياراتهم اليومية. والساخرون منها بمرجعية الأمر الواقع أو الواقعية كانوا لا يتخلون عنها وهم يتناولون رحِمَ الأفكار الكبرى في القرن العشرين. الحرية. كل النظم الاستبدادية، المعرفية والسياسية، وضعت برنامجاً أولياً لتشويه وتحقير كلمة الحلم في حربها ضد فكرة الحرية. التاريخ والحلم لا ينفصلان، لأن التاريخ يبدأ عندما يضع يده في يد الحرية وينطلقان على الطرُقِ الألف لحياة الشعوب. كذلك تعلمت من الشعب الفلسطيني. ومن ياسر عرفات. دائماً كان الحلم هو الحلم. حق الفلسطينيين في الحرية. إنه الحق في أرضهم فلسطين وفي دولتهم المستقلة وفي عاصمتهم القدس وفي رجوعهم من المنافي. تاريخ له مع ياسر عرفات أربعون سنة. وبه كان حلمٌ اسمه ياسر عرفات. هذا الدائمُ، على لسان وفي أفعال عرفات، هو ما لم يستطع أحد أن ينتزعه من الفلسطينيين. من هنا لم يكن ياسر عرفات، بالنسبة إلي، قائداً سياسياً. إنه قائد روحي. يقود شعبه إلى معارج الحلم. ولا يتخاذل. ياسر عرفات السياسي هو الذي كان يخضع للضعف والقوة. مرة ينتصر بالدهاء وأخرى يتلاعب به الدهاة المتربصون به. من قوى عربية ودولية. هنا كان ياسر عرفات أحياناً متقلباً في مواقف، متساهلاً في قرارات، واثقاً في قدرته على معرفة الحقيقة، متعجلاً في الانتصار. وسببت له تلك الأحيان خصومات مع بعض أبناء الشعب الفلسطيني وسببت الآلام. وذلك كان صادراً عن القائد السياسي، الذي تربى تربية عربية. وليس له أن يفلت مما تربى عليه. لكن الشخص الذي أضاء الطريق على امتداد أربعين سنة هو القائد الروحي، المجنون بفكرة الحرية، المقيم في مسكن الحلم. للقائد السياسي حياة من الانتصارات والإخفاقات. تلك هي الوقائع وذاك هو التاريخ. ولا يهمني هنا هذا القائد. ليس منطقُه هو ما يحركني. وبدلاً منه، أرى القائد الروحي، عبر التاريخ، قوة من قوى الطبيعة التي تعيد كل مرة تكوين الحياة البشرية. وبفكرة الحرية يكون القائد الروحي استثناء في تاريخ الشعوب وتاريخ الحضارات. إن الحرية حلمٌ. حلمٌ يومي. وعبر التاريخ كانت فكرة الحرية مقموعة من طرف من لا يجدون أنفسهم إلا في تبرير الواقع والمحافظة عليه في هيئة تفتقد الحُرَّ والخلاَّق. في الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، كان الحلمُ يخطو مع ياسر عرفات يداً في يد. كلما تكلم كان الحلمُ أولَ كلماته. الحرية. الدولة الفلسطينية. القدس عاصمة الدولة الفلسطينية. أربعون سنة لم تتخلَّف كلمة الحلم عن الانغراس في مكانها وعن موعدها في الكلام. هي ذي القيادة الروحية التي كانت تُنسينا ما كانت مكائد السياسة تستدرج إليه القائد السياسي، عندما تستولي المكيدة على النصيحة. فالحلمُ لم يترك ياسر عرفات وحيداً في اللحظات الفارقة. أحياناً كان ياسر عرفات يعطي الانطباع بأنه ضائع في دهاليز السياسة العربية والدولية، يترجى، يستهدي، يتثاءب. ثم فجأة يظهر في الآفاق مصحوباً بحلمه، ناطقاً بالاسم ذاته. الحرية. هذا ما لم يكن الإسرائيليون يتحمّلونه في عرفات. يحلم ولا يشيخ عن الحلم. فهم موقنون أن الحلم لا يحيا إلا في المقاومة وبالمقاومة. مقاومة الكلمات الكاذبة، الكلمات المشوهة للوقائع، الكلمات المضادة للمعنى. وياسر عرفات، من جهته، يدرك أنه والحلم صاحبان. حلم بالحرية للشعب الفلسطيني. وفي الحلم كل ملاحم المقاومة. به تنْفتِحُ أبواب المقاومة على المجهول من أشكال المقاومة. وكثيراً ما كان الإسرائيليون يستعملون أساليب بلاغية للتخلص من الحلم الفلسطيني ولمعاداة الحلم الفلسطيني وللهجوم على الحلم الفلسطيني. في كل مرة كان الإسرائيليون يقرنون اسم ياسر عرفات بالحلم، بمن يجب التخلص منه، حتى يصبح الأمر الواقع على الأرض، واقع الهيمنة العسكرية، هو اللغة الممكنة. 3 لا أنظر دائماً إلى ياسر عرفات من زاوية السياسيين ولا من زاوية المؤرخين. هناك ما يحق لي الحديث عنه. حلم ياسر عرفات مَدىً أولُ لحياتي، وحركةٌ باتجاه فلسطين والفلسطينيين، ولغة بها أقاوم. هذا الأبعد، الذي لا نراه في الوقائع السياسية اليومية وفي الصراعات هو الآخر يشدني إليه. لست من أنصار البحث عن نظرية للتاريخ ولا عن نسق نظري للرؤية إلى البشرية. لكني في حياتي تعلمتُ أن الحلم أبجدية الانتماء إلى زمني. في المراهقة علمتني القصائد الرومانسية أن الحلم جغرافية الذهول وفي شبابي رأيت حركات شعرية وفكرية كلها تبدأ من الحلم. في حياة الشعوب كان الحلم القوة المبدعة للحرية. والشعب الفلسطيني جسَّد معنى الحلم. كما أن ياسر عرفات جعل منه الباب التي يعبر منها إلى القريبين والبعيدين. لا يقبل السياسيون بالحلم لأنه شبح يهجم بسحْرٍ على سلطتهم. والحلم يصبح أكبر كلما كان الإنسان مسكوناً بفكرة الحرية وهو يدرك أنه ضعيف، منزوع السلاح. نعم، هناك عبر التاريخ دروس في مصير الشعوب، وهي تعلمنا كيف نميز الفارق بين القائد السياسي والقائد الروحي. بين انتصار الأول وانهزام الثاني. رؤية لها تاريخها. والتعارض بين الرؤية السياسية والرؤية الشعرية للواقع لها هنا بعض الجذور. فهل كان ياسر عرفات، القائد الروحي، عائقاً أمام تحقيق السلام مع الإسرائيليين؟ بالتأكيد، يجيب الإسرائيليون على مواقف ياسر عرفات. إنه الحالم الذي لا يتخلى عن حلمه. المراهق الذي لا ينسى مراهقته. المناضل الذي لا يقبل ما هو عليه العالم اليوم. تلك، مثلاً، هي قراءة شمعون بيريز لياسر عرفات. وتلك، بمعنى آخر، هي قراءة عموس أوز للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهذا الخطاب يؤكد الحق في الحلم. وهو إذ يؤكده ينزع عن المعزولين الحق فيه. نعم للحلم. ولكنه حق للإسرائيليين دون الفلسطينيين. والفارق هنا بين الحلمين هو أن الحلم الإسرائيلي يتوحّد في استعباد الفلسطينيين والحلم الفلسطيني يهاجرُ في الحرية. وها هو معنى الكلمات يصبح واضحاً في البحث عن صورة لزمن وقضية. ليكُنْ. إن عرفات لم ينجحْ في تحقيق الحلم الفلسطيني، الذي كان مجسداً للحلم الشخصي. لم ينشئ الدولة الفلسطينية، لم يقم في القدس العاصمة، لم يرجع اللاجئين إلى أرضهم. بل لم يحقق حلمه الشخصي بالصلاة في المسجد الأقصى ولا الدفن في القدس. لا يعني عدم النجاح إخفاقاً يؤدي إلى الحتف الجماعي، بالنسبة الى الشعب الفلسطيني، الذي يعيش مأساة ينكرها معيار تعريف الاستعمار في المرجعية القانونية الدولية. ولكي لا يتحول عدم النجاح إلى إخفاق في المستقبل، يبقى بوضوح أن الحلم الفلسطيني هو ما لا بد منه. هو ما كان مفقوداً قبل منظمة التحرير الفلسطينية وبعدها أصبح التماهي معه واقعاً. فالهوية الفلسطينية أعطت الفلسطيني علامات يمكن الآخر رؤيتها، بعكس ما كانت الإيديولوجية الصهيونية تشيعه في العالم. فلسطين أرض من دون شعب لشعب من دون أرض. هذه الكذبة لم تعد مقبولة لا في العالم، ولا حتى في إسرائيل نفسها بعد اجتياح لبنان وظهور مؤرخيها الجدد. الشعب الفلسطيني موجود. ومن علامات وجوده الحلم بالحرية. حرية إنشاء الدولة المستقلة، القدس عاصمة للدولة، عودة اللاجئين إلى أرضهم. هذا هو الحلم. وياسر عرفات كان عبر تاريخه السياسي لا ينطق إلا بهذا الحلم، حتى أصبح تقويض الحلم بالنسبة للإسرائيليين يقتضي تقويض عرفات، ياسر عرفات. 4 تتبَّعتُ، كغيري من الملايين، أيام مرض ياسر عرفات وردود الأفعال. وعندما بلغني نعيه حضر الحلم أمامي، حلم الفلسطينيين. وعلى الشاشة وفي الإذاعات والصحف تصريحات وسلوكات إسرائيلية أصرت على ما تعتقد أنه الصواب. فرح وتبادل تهنئة، تنهَى عنها أخلاقيات البطولة والحرب والأديان. لم يفارقني تاريخ وأشكال الحلم الفلسطيني. تدافعت الكلمات والصور في ماضي النقاشات. بين الحلم والوهم. حدود القيادة السياسية والقيادة الروحية. من الثورة إلى الدولة. هل الماضي أم المستقبل؟ استعادة مضطربة ولا تطمئن إلى قرار. فيما الحلم كان الكلمة التي ألحت على البقاء في مكانها. كما كانت عبر أربعة عقود. كلمة واحدة، بهذا التاريخ الذي يصعب تخيله أو استعادته بدقائق المفاجآت. وبالإلحاح ذاته يلمع اسم ياسر عرفات، في حياة الفلسطينيين، وفي تاريخ تقاسمناه والفلسطينيين، يوم كان تأييدهم يؤدي في بلاد العرب إلى المطاردة البوليسية والاعتقال والتعذيب ومنع اجتياز الحدود، وفي عهد كان الفلسطيني لا يعثر على مكان آمن. تلك أيام الحلم الفلسطيني وذلك زمن ياسر عرفات الخارج عن أيام الآخرين. حقاً، لم تُلْق دورة الأيام، من المنفى إلى العودة، بالحلم إلى العراء. يموت في البرد. ياسر عرفات، القائد الروحي، كان المحافظ على الحلم. في كلماته، وحركات أصابع يديه. حركة تؤدي الدلالة بكل إيجاز. في حياة هي المقاومة، كان الحلم إشارة الاستمرار وكان كلمة السر. وفي كل مرة لم أكن أرى غير الكلمة ترحل عبر الأزمنة، وعبر ثقافات وحضارات. مستعيداً ما أصبحت استعادتُه تدعو للسخرية. الحلم؟ نعم، الحلم. هذا الحلم الفلسطيني في كلمات ياسر عرفات وفي حركات أصابع يديه. ولا أحد امتلك قدرة على انتزاع الكلمة من مكانها. الإسرائيليون، الذين لم يعودوا يطيقون الحلم يتردد في كلمات ياسر عرفات وأصابع يديه أوحُماة إسرائيل، الذين تتقدمهم الولاياتالمتحدة الأميركية. 5 كلمة واحدة. هي ما صنع تاريخاً وقاد شعباً. وحين يحزن الفلسطينيون ويبكون ويصرخون، في جنازة شاهدها العالم، فهم يرفعون قائدهم السياسي إلى أعالي قائدهم الروحي. حداد على حامل الحلم. والحداد أبعد من الحزن وأقوى من البكاء والصراخ. هو الرهان على مستقبل كلمة. ومستقبل فكرة. فحرية الشعب الفلسطيني، مستقلاً فوق أرضه، بدولته وعاصمته القدس واجتماع الشمل، كلها في كلمة. هي حلمٌ اسمه عرفات. رموز قيادية في التاريخ كان لها سرُّ ما تفعل. وهي التي صاغها الشعر في جميع الأمم، بتقاليده المتعددة، في تاريخ شعوب وآداب. صاغها الشعر في لغة تحيا على لسان الأحياء وفي حكاياتهم وترانيمهم. وياسر عرفات خلق القائد الروحي في الشعب الفلسطيني، متحمِّلاً عذابات تاريخ، مهاجراً نحو حريته. وحين يتوحد الفلسطينيون في الحِدَاد على وفاة عرفات يكون الحلم في طريق أخرى إلى حيث يجب أن يمشي. أراضي حرية شعب، لا يتخلى عن الحلم.