(أ) كان يكفي أن نُكيل على عدوّنا الدعوات واللعنات اتّكالاً دينيّاً لا يسبقه تعقّلٌ أو عملٌ؛ كان يكفي أن نُعلّم أبناءَنا ما تعلّمناه أيضاً: «أنّنا أفضل من أعدائنا، أنّنا ممثّلو الحقّ والحقيقة والتاريخ وأعداءنا ممثّلو الباطل والقوّة الزائفة. كان يكفي أن لا نرى النكبات والنكسات وتعاقب استعمار أقاليم عربيّة عدّة في سوريّة والعراق وفلسطين، وتعاقب احتلال عواصم عربيّة (القدس، بيروت، بغداد) في أقلّ من خمسين سنة. كان يكفي أن نلُمُّ البطانيات والخيام وما فاض علينا من ملابس الشتاء أو ما جادَ به المحسنون، أن نمُدّ الأنروا بميزانياتٍ لازمةٍ عند حدود البقاء البيولوجي لهذا الشعب في شتاته وفي أرضه دون شروط لهذا الوجود المضني. كان يكفي أن نطمس خارطة إسرائيل من خرائطنا طمساً ومحواً وأنْ نُحرّرَ خريطة فلسطين التاريخيّة ونثبّتها في أطلسنا؛ أنْ نمسح النجمة السداسية عن كتب المثلثات والهندسة، وفي أيّ كتابٍ أو تصويرٍ، ومن على أيّ حائطٍ أو جريدةٍ أو قميصٍ أو تشكيلٍ عشوائيٍّ يُمكن أن يُرى على أنّه نجمةُ سداسيّةٌ، محوناها تماماً، وجيداً، وكم مرّة نجحنا في جعلها مُحرّماً قوميّاً ودينيّاً. كان يكفي أن لا نصافح أعداءنا، ولا رياضي أعدائنا ولا أكاديمي وعلماء وأدباء أعدائنا، لا يعرف العدو الرياضة، لا يعرف العلم؛ هو عدوٌ شبحٌ منزوعٌ عن أيّ صفاتٍ يمكن أن تكون مقبولةً بالحدّ الأدنى للتعايش. (ب) يحتاج مفهومنا للعداء والعدو أن يُشرّح ويُفكّك، أن يتعرّض للنقد، مرّة ومرّات، وفي آن معاً، بوجهات نظر متعدّدة ومختلفة جدّاً، ليس على نيّة إزاحته عن خريطة همومنا السياسية، بل، على هدف فهمه وتحويله من همٍّ سياسيٍّ مُصطنعٍ ولا يلامس طموح المتضرّرين من وجود هذا العداء بالحدّ الأدنى، إلى مشكلة تتطلّب حلّاً، يظهر عبر حلول عديدة متناقضة أحياناً ومتعارضة مع الثقافة والسياسة التي نرعاها ونقدّمها، وليس الاستقرار على حلٍّ وحيد يفترضه توجّهٌ قوميٌّ شموليٌّ وآخر ديني ثمّ لا يأخذنا إلى ما وعد به، إنّما إلى مزيد من التدهّور والابتعاد عن إمكانات الحلول الواقعيّة؛ وهذا النقد ليس مقصوراً على مفهوم فكريّ بمعزل عن مستويات عمليّة عدّة: سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة ونفسية؛ وهو النقد الذي يحتاج إلى دراسات موسّعة (رسميّة وأهليّة) لا نبخل عليها بميزانيّة ولا خبرات؛ لأنّ الصرف العسكري والتعبوي الإعلامي والتوجيه التعليمي لم يثمر في تحقيق ما نصبوا إليه من وراء هذا العداء/ أو تحديداً، مفهومنا للعداء والعدو، ولم نحقّق أهدافنا ضدّ أعدائنا؛ فلا نحن انتصرنا وأنهينا الصراع وأعدنا إلينا ما نؤمن أنّه لنا، ولا نحن حوّلنا العدو إلى جار وتقاربنا وتعايشنا معه. (ج) هل طريقتنا في إدارة العداء قادرة أنّ تُفضي إلى نهاية تخدم مصالحنا؟ هل العدوُّ ضرورةٌ للبقاء على وعي اليقظة والحذر والتوتّر؟ هل كنّا بحاجة لمُعادة أتباع الديانة اليهودية على فرقهم المتعدّدة قبل قيام دولة إسرائيل مثلاً؟ هل أمدّنا مفهومنا للعداء والعدو بما يثبّت وجودنا واستقرارنا أمْ أخّر ويؤخّر أحلامنا وحقوقنا وقراراتنا، ويحولنا إلى حالة جمود، لا يمكن التغاضي عنها وعن دورها في توطين بيئة مسؤولة و/أو مستغلّة لإنتاج التطرّف والعنف؟ منذ إعلان دولة إسرائيل، وحتى المبادرة العربيّة، مرّ مفهوم العدو بتقلّبات تبعاً لحالات تصنيف العدو؛ عدواً يُهدّد القوميّة العربيّة من منظور قومي- عربي، عدوّاً دينيّاً يهدّد العالم الإسلامي، عدوّاً شعبيّاً يهدّد الوجود الفلسطيني؛ أين كان الوهم؟ وأين يستمرُّ بالتضخّم؟ هل المكاسب (والتي يراها البعض رمزيّة جدّاً) في مجلس الأمن والأممالمتحدة واليونيسكو والاعترافات الدولية بحلّ الدولتين، وإجبار أمريكا مؤخّراً بالاعتراف ولأوّل مرّة بعدم شرعيّة الاستيطان (رغم عدم تصويتها، لكنها، لم تستخدم الفيتو في وقف إدانة إسرائيل ومشاريعها الاستيطانيّة على القدس) وغيرها، مكاسب مدنيّة تحقّقت من وراء سعي مدني سياسي أم من وراء ضغط قومي أو ديني؟ لا أحد يدعو إلى إزالة العداء ضدّ الكيان الإسرائيلي وتلقى دعوته صداها دون أن تضمّن الدعوة اشتراط إعادة الحقوق الفلسطينيّة لأهلها، وهو الكيان الذي يحتلّ أرضاً فلسطينية تعترف الأمم المتحدّة والعالم بحقّ شعبها في تقرير مصيره على ترابه الوطني؛ أين التفاوض العربي الدولي على التعارض التامّ في السياسيّة الإسرائيليّة بين سعيها لديننة دولتها وبين ادّعاءاتها أنّها ذات نظام ديمقراطي برلماني؛ كيف تتغيّر إدارة العداء باتّجاه تحويله: من عداءٍ وهميٍّ يتوهّم الحقَّ مرتبطاً بالدين وبالتاريخ ويغفل أو يتراخى عن قوّة الحقّ الوجودي الواقعي، إلى حقٍّ وجوديٍّ وقائعيٍّ بالاستناد إلى قوّة الهويّة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية، التي عجز المشروع الصهيوني-الإسرائيلي أمام ها بتحوّل إلى مشروع إحلالي، بل جعل حلّ الدولة الواحدة كابوساً عند الساسة الإسرائيليّين لقوّة الهويّة الفلسطينيّة وعنصر الأكثريّة الاجتماعيّة التي تخشاها على المدى المتوسّط، وهو المشروع الذي تخافه إسرائيل كما تخاف حلّ الدولتين؛ فأين الفصل بين الوهم والسياسة في الحلول المطروحة، وما هي العقدة العربيّة والإسرائيليّة -من كلا المنظورين- على تلك الحلول: القوميّة، الدينيّة، والسياسيّة؟ وتلك مقالة أخرى.