نواصل مع ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية الفريدة للدكتور يارون أيالون، استاذ مساعد في التاريخ، جامعة بول ستيت، مدينة منسي، ولاية إنديانا، الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهو مؤلف كتاب «الكوارث الطبيعية في الإمبراطورية العثمانية: الطاعون والمجاعة ومصائب أخرى»، قسم النشر بجامعة ولاية إنديانا، عام 2014، 240 صفحة. ونشرت الورقة في ديسمبر 2009: ويتجلى تمسك حسين بأفكار كتاب «في الشعر الجاهلي» في الأقسام الإضافية الجديدة في كتاب «في الأدب الجاهلي». ويفتتح حسين الجزء الخامس بشكل يجدد النقاش العام السابق بتحليل منهجي لشعر مُضر وهي أكبر مجموعة قبلية عربية شمال الجزيرة العربية. (62) ويوضح حسين أن معظم شعراء مُضر، الذين نجت أعمالهم من الفناء كانوا ينتمون إلى وقت متأخر جدًا في الجاهلية وعاشوا في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين. ويضيف أن رسالة «أولئك الذين ماتوا قبل الإسلام كانت تالفة إلى حد كبير، وهناك أعمال قليلة من الشعر الذي يمكن أن ينسب إليهم وحتى هذا الشعر كان مليئًا بالأخطاء والهُراء». (63) ويجادل بأن الكثير من الشعر نُسب إلى جاهليي مُضر أكثر مما كتبوا في الواقع، وأن التحليل العلمي فقط «يمكنه التمييز بين شعر مُضر المنسوب والمزور وشعر مُضر الصحيح». (64) وإضافة إلى ذلك، ومثل دراسة الحديث، فإن مفتاح صدقية القصيدة كان وقتها السند، في حين أن محتواها لم يُفحص أبدًا. ووفقًا لذلك، فإن الذين زوروا القصائد تمكنوا من «تلفيق سند مقبول». (65) ولكن يؤكد حسين أن «فحص السند لا يقدم دليلاً على صحة المتن الذي أوصله إلينا». (66) وهكذا، يحتاج المرء إلى تطبيق طريقة المراجعة النقدية للسند نفسه على محتوى القصيدة؛ فيجب فحص كل قصيدة بتفاصيلها الدقيقة كافة ك بناء الجملة والنحو والزمان والمكان اللذين كان من المفترض تأليفها فيه، وفحص مسار حياة الشاعر، وإمكانية تأليفه مثل هذه القصائد. ولذلك لا يمكن للمرء أن يحدد صدقية القصيدة إلا عبر دراسة مثل هذه المسائل بعقلانية فحسب. (67) ولكن مشكلة هذا التحليل، كما يشرح حسين، هي أن المرء لا يستطيع تحديد ما إذا كانت لغة وبنية قصيدة ما هي جاهلية حقًا؟ لأن معظم الشعر الجاهلي الذي وصلنا يعكس لغة القرآن. (68) ومع ميل حسين لتحدي منطق الافتراضات الشائعة حول الشعر الجاهلي، يجادل أن «الجاهليين ككل وخصوصًا مُضر كانوا بدوًا يعيشون في الصحراء وإذا كان الشعر بشكله ومعناه يعد كمرآة لحياة الشاعر، ولسياقه الاجتماعي ولخبراته العامة، فإن السمات التي عبر عنها الشعراء الجاهليون في شعرهم ينبغي أن تمثل الحياة البدوية». وإذا لم يمثلوا تلك الحياة، يقول حسين، فيمكن للمرء أن يفترض أن الأشعار المنسوبة إليهم ملفقة. ومع كون كل الدلائل تشير إلى هذا الاتجاه، يتحول حسين إلى مزيد من المناقشات عن الجوانب الأدبية والتاريخية للشعر الجاهلي، وكذلك الدراسة الوافية لشعراء آخرين، وبعضهم سبق ذكرهم في كتابه الأول (69) وتوصل حسين إلى استنتاجات من دراسة أشعار أوس بن حجر وزهير وكعب بن زهير والنابغة، مماثلة لتلك الواردة في كتاب «في الشعر الجاهلي» فيما يتعلق بصحة شعرهم. (70) وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتعامل حسين بإيجاز مع النثر الجاهلي. ويستنتج، عبر تطبيق الأساليب نفسها التي استخدمها لتحليل الشعر، أنه من الصعب جدًا أو ربما من المستحيل التأكَّد من أصول الأعمال الأدبية المنسوبة إلى العصر الجاهلي. ومثل الشعر، يبين حسين أن عديدًا من تلك النصوص استخدمت لغة تطورت بعد عصر مؤلفيها المفترضين ولذلك لا يمكن أن تكون معروفة لهم. ويؤكد حسين أن اكتشاف النثر المزور في كثير من الأحيان أسهل من اكتشاف الشعر المزور، نظرًا إلى وجود آثار لغة قبائل ما قبل الإسلام فيه، وهو ما يبين أن كثيرًا من هذه الأعمال «لفقت بعد ظهور الإسلام، للأسباب المبينة في القسم الثالث»، مشيرًا إلى الحجج المقدمة في كتاب «في الشعر الجاهلي». (71) ويواصل حسين شرحه بأن النثر الجاهلي جرى تأليفه في الواقع في القرنين الثاني والثالث للهجرة للأسباب السياسية والدينية نفسها التي حفزت أناسًا على تزوير الشعر. (72) ويستخدم حسين الأقسام الجديدة في كتاب «في الأدب الجاهلي» ليس كمنبر لإعادة تأكيد أفكاره حول طبيعة الشعر الجاهلي فحسب، ولكن أيضًا لشن هجوم آخر على التقليد ممثلاً في علماء الأزهر. ويفعل ذلك عبر تصنيف قراء وأساتذة الأدب في مصر إلى ثلاث فئات رئيسة. وتشمل الفئة الأولى، أولئك الذين يقرؤون كل الأدب الأجنبي ويشيدون بشدة بإنجازات أوروبا مع تجاهل الإنجازات العربية. وتشمل الفئة الثانية، أولئك الذين يعتزون بالتقاليد العربية، ويعترفون بمساهمات الكتاب الأوروبيين. أما الفئة الثالثة، هي تلك التي ينتمي إليها علماء الأزهر وتتكون من أولئك الذين يعتبرون أن المصدر الصحيح والوحيد للمعرفة هو الشعر والأدب العربي. هؤلاء الناس لا يدركون قيمة الأدب الأوروبي ولا يقدرون أهمية دراسة اللغات بخلاف العربية. ويرى حسين أن جهل هذه الفئة مفزع لدرجة عدم تعليم تلاميذهم أعمال اليونان وروما والهند وبلاد فارس؛ فبالنسبة إليهم، يسخر حسين: امرؤ القيس هو شكسبير، وهذا التشبيه لم ينتج من قراءة شكسبير والقيام بمقارنة. ويضيف حسين أن الوضع سيء ويكفي أن نعلم عدم معرفتهم بالأدب الأوروبي. ولكن إذا كان العلماء لا يفهمون حتى شعرهم وأدبهم العربي، فإن هذا سيؤدي إلى خطرٍ حقيقي يتمثل في «نقل الجهل إلى الأجيال الشابة». ويضيف حسين: «ولعلك تعلم أن أول كلمة يسمعها الطالب الأزهري الذي هو عنصر المدرسة القديمة إنما هي قول الشيخ الكفراوي: «الحمد لله الذي جعل لغة العرب أفصح اللغات». والطالب الأزهري منذ ذلك اليوم يمضي في الاقتناع بأن اللغة العربية أفصح اللغات وأن الآثار العربية أرقى الآثار، وأن ما تنتجه الأمم الأخرى قديمة كانت أو حديثة من الآداب إنما هو رطانة وعجمة لا تغني شيئًا ولا تمثل جمالاً. والذين يتاح لهم من هؤلاء الطلاب أن يتصلوا بالثقافة الحديثة اتصالاً ما يدهشون أول الأمر حين يرون أن قد كان لليونان والرومان شعراء وخطباء يعدلون شعراء العرب وخطباءهم ويتفوقون عليهم أحيانًا إن كان للمقارنة بين أولئك وهؤلاء سبيل». (73) انتهى كلام طه حسين. يتبع ... ... ... شروحات الصور: 1- الدكتور يارون أيالون. 2- طه حسين: اكتشاف النثر المزور أسهل من اكتشاف الشعر المزور. 3- هاجم طه حسين خصومه في كتاب «في الأدب الجاهلي». ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء [email protected]