مجرد زر في المخ يتم إغلاقه وينطفئ كل الوجود ويسود الظلام، تمر خلالها الشخصية الإنسانية بحالة غرق تام، يحيلنا إلى شجرة، إلى نبات بدائي .. إلى شيء تستمر فيه الحياة على هيئة وظائف .. الدم يجري والتنفس يتردد والخلايا تفرز والأمعاء تهضم .. كل ذلك يتم بطريقة تلقائية والجسد متمدد بلا حراك، تماماً مثل نبات مغروس في الأرض .. إنها لحظة غريبة يسقط فيها الجسد في العجز ويستحيل عليه التعبير عن روحه، فيأخذ إجازة ليعيش بطريقة بدائية كما كانت تعيش الأشجار والنباتات .. حياة مريحة لا تكلّف جهداً .. كتاب د. مصطفى محمود رحمة الله «لغز الموت» هو من أعطى تعريف للإنسان النائم بأنه «شجرة» وفي الحقيقة أدهشني هذا التعريف وفتح لي الكثير من التساؤلات والآفاق .. يرى الدكتور مصطفى أن سر الموت يكمن في لغز النوم، لأن النوم هو نصف الطريق إلى الموت، فنصف الإنسان الراقي يموت أثناء النوم، فشخصيته تموت وعقله يموت ويتحول إلى كائن يتنفس وينمو بلا وعي وكأنه فقد الروح. إن النوم في الحقيقة يمحو الألفة بينك وبين الأشياء، فتبدو غريبة ومدهشة، لأن هذه اللحظة عميقة، العقل يخرج فيها من ظروفه وتصوراته ويتحرر من الألفة والتعود والأحكام العادية وينظر حوله من جديد .. ليصدر أحكاما جديدة أكثر تحرراً وإلهاما. فالأنبياء مثلاً كانوا يتلّقون الوحي في مثل هذه اللحظات بين النعاس والغيبوبة .. ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية وهو نائم تحت شجرة .. لذلك النوم يقظة عميقة، تتيقظ فيها الوظائف الأصلية، فينتظم التنفس ودورة الدم والهضم والامتصاص، فيتوقف الهدم ويبدأ النمو والبناء.. وتتيقظ الرغبات والغرائز فتنشر نشاطها في الأحلام.. لكن عندما يدخل الجسم في مرحلة النوم العميق.. هنا يدخل الإنسان مرحلة الظلام والعدم، تلك المساحة المشطوبة من الحياة ليس فيها وعي ولا زمن ولا مكان، فالساعات الطويلة تمر كلمح البصر بدون إحساس بالمدة، إنه زمن آخر غير زمن الساعة فالحلم قد يحتوي على إحداث سنين كاملة، كحب وزواج وطلاق وكل هذا لا يتجاوز ثواني معدودة .. إن النائم فنان يؤلف قصّة كما يريد فيعيش أروع أحلامه وهو نائم، لذلك النوم أرخص أنواع الحياة من حيث التكلفة والإنسان الذي يعيش مئة سنة بين نوم ويقظة يستطيع أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا أخذ في حسابه أن ينامها كلها.