ذكرت في المقالتين السابقتين أن الصورة البصرية والسمعية كانتا من أنماط التصوير التي يتوسل بها الناقد العربي قديماً لإبلاغ رسالته، وأن الصورة البصرية هي أكثر الأنواع من حيث حضورها في الخطاب النقدي، وتليها الصورة السمعية. أما هذه المقالة فهي عن الصورة الشميّة، ومجال هذا النوع من الصور يظهر من خلال العنوان، وهو الروائح، أو ما هو مصدر للروائح، كالأزهار، ونحوها، فتُبنى الصورة على ما يمكن شمُّه. وبتأمُّل الصورة الشمّية في الخطاب النقدي يستبين أنها تأتي أكثر في وصف سيرورة الشعر من عدمها، كقول ابن الأعرابي: «إنما أشعار هؤلاء المحدثين -مثل أبي نواس وغيره- مثل الريحان يُشمّ يوماً ويذوي فيُرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حرّكته ازداد طيباً»، فهو يصور أشعار المحدثين التي تُعجب القارئ إذا سمعها للمرة الأولى، ثم تفقد إعجابه بها، بالريحان الذي يحتفظ برائحته الذكية زمناً يسيراً ثم يفقدها، أما أشعار القدماء فهي كالمسك والعنبر اللذين يحتفظان برائحتهما مدة طويلة، ومحور الصورة هو مدى استمرار الرائحة في المشبّه به. ووجه الشبه هذا ظاهر كذلك في قول أبي عمرو بن العلاء: «إنما شعر ذي الرمة نُقَط عروس تضمحل عن قليل، وأبعارُ ظباءٍ لها مَشَمٌّ في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح البعر»، وقال الأصمعي: «إن شعر ذي الرمة حلو أول ما تسمعه، فإذا كثر إنشاده ضعف ولم يكن له حُسن؛ لأن أبعار الظباء أول ما تُشَم توجد لها رائحة ما أكلَتْ من الشيح والقيصوم والجثجاث والنبت الطيب الريح، فإذا أَدَمْتَ شمه ذهبَتْ تلك الرائحة». وقد وظف الحاتمي الصورة الشمية أيضاً، ولكن في سياق حديثه عن أن المنظوم أكثر سيرورة من المنثور، يقول: «والمنظوم ... أذكى مناسم». أما ابن طباطبا فإنه استلهم من أخلاط الطيب مصدراً لتصوير القصيدة التي ينشئها الشاعر بعد أن يكون قد حفظَ كثيراً من الأشعار، فهي «كطيب تركَّبَ من أخلاط من الطيب كثيرة، فيَستغرِب عِيانُه، ويغمض مستبطَنه»، ويقول في صورة أخرى مشبِّهاً الأشعار الحسنة المختلفة بالأراييح المختلفة: «وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقعُ لطيفةٌ عند الفهم لا تُحد كيفيتها، ...، كالأراييح الفائحة المختلفة الطيب»، فالناقد يحاول في تشبيه الشعر القديم بالمسك إثارة إحساس المتلقي، وترغيبه في شم هذا المسك/قراءة الشعر القديم، وإثارة إحساسه أيضاً بترغيبه عن شم أبعار الظباء/قراءة الشعر المحدث، ويحاول أيضاً أن يثير الشاعر بتذكّر رائحة الطيوب المختلطة، بأن قصيدته ستكون مثلها؛ إذا هو حفظ أشعاراً كثيرةً قبل أن ينشئها. وبهذا يظهر أن أكثر مواضع الصورة الشمّية إنما يكون في وصف سيرورة الشعر وذيوعه واستمرار بقائه، أو للتعبير عن قِصر أمده.