هل تعلم ان العطور كانت حكراً على الملوك والاباطرة ورجال الدين في العصور السحيقة؟ وان بلقيس ملكة سبأ وفراعنة مصر وملوك السند كان لهم وزراؤهم المختصون بالعطر يختارون لهم افضل الطيوب من مختلف اصقاع الارض؟ واليوم وعلى الرغم من تحول العطر سلعة استهلاكية يستخدمها الغني والفقير كل بما يتناسب وامكاناته المادية، فإنه يبقى سراً شخصياً في عالم تشتد فيه المنافسة ويجتاحه التلوث الذي يطاول كل شيء بما في ذلك مصادر المواد العطرية على اختلافها وتنوعها. للعطور في الجزيرة العربية مكانة تاريخية قديمة على مستوى الاستخدام ولعل ملوك اليمن القدامى كانوا السباقين الى تقديم هدايا من العطور لفتح قنوات جديدة من التجارة والسياسة مع محيطهم، وتجدر الاشارة الى ان اليمن وتحديداً مدينة عدن كانت مقر اول مصنع للعطور في الجزيرة كلها، وان عائلة الطاهر التي اشتهرت في هذا اللون من التجارة والتصنيع دأبت على جلب المواد الأولية الطبيعية من جميع القارات، لكن المصادر الاصيلة للمواد والخلاصات العطرية في شح دائماً حتى تكاد تكون نادرة الآن فكيف يتم انتاج العطور حالياً؟ حفيد عائلة يمنية تصنع العطور منذ اجيال عدة يروي لنا غرائب عن "الزباد" والعنبر الازرق واللبان وغيرها. تكنولوجيا التقطير يقول سليم طاهر عبده حسين وهو من الجيل السابع في عائلته والمختص بصناعة العطور: "اليمنيون اصحاب تاريخ طويل في صناعة الزيوت العطرية الطبيعية تنتج في الشرق لكن الاوروبيين تفوقوا علينا في تكنولوجيا التقطير. ان موقع اليمن وقربها من افريقيا وآسيا الجنوبية فتح لنا آفاقاً بعيدة دفعتنا الى الاستفادة من المصادر النادرة. فاليمن ينتج افضل انواع اللبان منذ القديم وأبناؤه صيادون مهرة استخرجوا من حوت العنبر. العنبر الازرق اغلى رائحة في العالم القديم، ومن الهند جاؤوا بأخشاب الصندل. ومن الحبشة التي كانوا اوائل من زارها من التجار العرب جاؤوا بالقهوة والقات و "الزباد" وهو عصارة عرق القط الحبشي المتوحش الذي يحمل الاسم نفسه ويعتبر "الزباد" من المواد النادرة جداً الآن اذ لا يعثر عليه في اي مكان في العالم سوى الحبشة. ولإنتاج هذا العطر يتم القاء القبض على قطتين من نوع الزباد توضعان في قفصين منفصلين وفي مكان حار من دون طعام لمدة يومين ثم يطلق سراحهما على الاثر لتلتقيا في مواجهة عنيفة يكثر فيها الكر والفر، وبعد ان يطمئن خبير كشط الزباد عن القطتين بتؤدة ويجمع هذا السائل اللزج الكريه الرائحة في اناء. والغريب ان كميات قليلة جداً من هذا السائل لا تتعدى الملغرامات تسهم في صنع اجود عطر في العالم. واذا زادت مقادير الزباد فانها تفسد العطر، ولا يزال الزباد موضع اهتمام من صناع العطور الغالية الخالية من الكحول في جميع انحاء العالم. ويضيف سليم طاهر: ان الخلاصات العطرية المشتقة من الزهور كالياسمين مثلاً كنا نأتي بها من اوروبا وفرنسا تحديداً ثم نستعين بما تنتجه صحراؤنا العربية وبلدان المغرب العربي كالمشموم نبات عطري والحنون اي الريحان والبعيثران نبات صحراوي والكادي او الكيدة. وزير العطور لقد كان جدي الاول وزيراً للعطور في بلاط احد مهراجات الهند خلال القرن السابع عشر فصنع خلطة عطرية فريدة جمع فيها ما بين الياسمين الاوروبي والورد الطائفي السعودي وغيرها من العصارات ثم اطلق العطر الذي اسموه فيما بعد "جنة الفردوس" وهو من العطور الاصيلة التي لا زالت تباع في الهند واليمن وافريقيا حتى الآن كذلك "رائحة السلاطين" وهي مزيج من العود والعنبر والورد والزعفران اضافة الى الزباد وكانت حكراً على الملوك والحكام ولا تزال بعض الأسر الغنية في الخليج تفضل هذه النوعية من العطور التي كانت تقدم هدايا من سلاطين اليمن الى اصدقائهم وجيرانهم. ندرة المصادر الأصيلة * ماذا عن المصادر الاصيلة للعطور اليوم في العالم هل هناك صعوبة في الحصول عليها؟ - في ظل المتغيرات المناخية والجغرافية في العالم حصلت امور كثيرة اثرت بشكل اساسي على مصادر الزيوت العطرية فالياسمين الطبيعي الخالص هو أغلى مادة عطرية في العالم الآن على الرغم من زراعة الياسمين في غير بلد وتوافر كميات هائلة من ازهاره فمصر مثلاً والمغرب والهند تنتج ازهار الياسمين لكن فرنسا وسويسرا تستأثران باستخراج زيوته. اما المسك فالجميع يعرف ان الياسال وهو اسم الغزال المنتج للمسك اصبح على وشك الانقراض ويعيش فقط الآن في شمال الهند وجنوب الصين واغلبه في الهمالايا والتيبت اما اللبان فمن المعروف انه عدة انواع معظمها لا ينفع للصناعات العطرية فاللبان البخور موجود وبكميات هائلة في السودان والصومال وعمان واليمن. لكن اللبان الصالح لصناعة العطور تنتجه اليونان فقط ويسمى لبان خيوس. اما العنبر الازرق فهو في تناقص مستمر بعد منع صيد الحيتان والعود هو الآخر اصبح نادراً. بسبب الاستخدام الجائر لغابات الصندل في بلدانها الأم. طغيان المواد الكيماوية * ماذا عن العطور الرائجة الآن...؟ - معظمها مواد كيماوية يتم استنباطها لتحاكي الروائح الاصيلة ولذلك تعتبر صناعة العطور الآن لغزاً فردياً ويحتفظ صنّاع العطور بأسرارهم عن طريق اعتمادهم على انفسهم في تصنيع معدات مصانعهم ووضع الخلطات واللمسات النهائية فالعطور مثل الازياء. زيت الصندل افضل منظف * ما هي علاقة العطور بالمناخ والبيئة؟ وهل لك من نصائح في هذا المجال؟ - اولاً نريد ان نوضح شيئاً هاماً وهو ان العائلات الكبيرة لها القدرة على استنباط عطور تخصها عن طريق الزيوت العطرية المتوافرة منفردة في المنطقة وهي اي العائلات مخلصة لعطورها وترفض استخدام العطور الحديثة خصوصاً "البخاخ" لوجود الكحول في معظمها ولا بد من لفت الانتباه الى المؤثرات الصحية والجنسية لكل عطر وأهل المنطقة اصبحوا على قدر كبير من الخبرة في هذا المجال. اما في البلدان الحارة فاننا ننصح بالعطور القوية الخالية من الكحول وذلك للقضاء على الروائح التي تنبعث من الجسم نتيجة عادات غذائية معينة، وعلى سبيل المثال يستغرب الكثيرون اصرار السودانيات على تدليك عرائس بلادهم بالدلكا والخُمرة وهي خلطة عطور قوية جداً. علماً ان الزيوت العطرية الخالصة هي افضل وسيلة لتنظيف الجلد وعلى سبيل المثال فان زيت الصندل يعتبر افضل منظف طبيعي لجلد الانسان ونقول للذين يشكون من رائحة العرق الكريهة ويحاولون ازالتها باستخدام كميات كبيرة من العطور ان حجر الشبه الابيض لا يزال خير وسيلة للتخلص من رائحة العرق واي روائح اخرى كريهة يفرزها الجلد بسبب نوعية الغذاء وهنا اود ان اعطي مثالاً على دور الغذاء في تحديد رائحة الانسان فشعوب كوريا واليابان والفيليبين والصين لا روائح نفاذة تصدر عنهم لأن غذائهم خال تماماً من الحليب والاجبان والحليب كما هو معروف يسبب الروائح الكريهة. وفي ختام اللقاء سألنا سليم الطاهر عن سر احتفاظه بامكاناته الشمية في العمل اليومي في مصنع العطور وادمانه شم الروائح قائلاً: عندما كنت ادرس في فرنسا كنت اشم الروائح المختلفة لمدة ثماني ساعات متواصلة. ومنذ العام 1979 وحتى الآن لا ازال احتفظ بقدراتي لاعتمادي على الاختبارات اليومية التي اجريها لنفسي. اذ على كل صباح شم رائحة اكثر من عشرة عطور يضعها احد العاملين لدينا في زجاجات متشابهة وبطريقة سرية ليمتحن قدراتي. * يذكر ان اشتمام العطور يقود الى ادمان روائح معينة فهل هذا صحيح؟ - نعم. لأن خبير العطور يجد حاسة الشم لديه قد اعتادت تلقائياً نوعيات معينة يكتشف وجودها حتى وان كانت ضمن خلطة معقدة.