كم يرهقني الفراق وكم يوجعني الوداع لأي ركن مألوف ومكان محبب لي وقد اعتدته أو كان لي فيه وجه صديق. أحيانا نترك بعض أرواحنا في الأماكن والمدن التي نعبر إليها ونرحل عنها. سأؤثث الحياة في كل زاوية وركن معتم وإن اختلف استماعي إلى إيقاعاتي الأخيرة والجديدة فهناك قلبي النابض الذي لن يتوقف في فنجان القهوة والأغنية المغلفة بذكريات البهجة والبكاء والكآبات فكل بداية حتمية لا تنقذني من بكائي البدائي فالدمعة ذاتها التي تدنو على خدي اليتيم إلا أنها زادت ببعض التجاعيد الجديدة فضلت دمعتي طريقها إلى وجنتي لتطيل التحديق في ملح بحر يتدفق بغزارة على وجنتي بكثير من الوحدة التي تعتقل مراهقتي. لم أعد تلك الصغيرة التي تتمناها القصص العاطفية بل تجاوزت الأربعين وفي انتظاري مراهقة أخرى أشد نضجا وجنونا. لا تظنوا أن الجنون يقل بعد الأربعين كما يقال، بل إن جنون أنثى لم تختبر أنوثتها بما يكفي يتجاوز جنون مراهقة في العشرين لكنه جنون عقله يزن أمة بكاملها. أتذكر تلك التجربة القديمة لي مع صديقة كانت تثور في كتابتها في كل حرف وكنت أثور في كل معنى لم يكتب بعد ونضحك بدمع رقيق ينتهي بمجرد أن تحل الكلمة في محلها وتهدأ. هل خلقنا من الكلمات الموجعة أم خلقت الكلمات الموجعة بنا منا؟. سؤال يستحق التأمل وفي انتظار رحمة البهجة التي تطرد عنه كدر الشؤم بما لا يليق بمنتصف لم ينتصف العمر ولم ينصفه كذلك. تعمل مشاعرنا التي تتشكل بعشوائية تشبه الحياة أحيانا؛ على انتزاع شيء منا بمعيتها.. وترحل ولكنها تبقينا في حالة من الذهول والتفكر في أننا ربما نكون فئران تجارب حتمية ونحن نتابع بشغف كبير تطورات المشهد وردود فعلنا ولا شعورنا!؟. إنها الفكرة التي نتصور أنها تلهمنا، ونسخرها لطاقاتنا المتفكرة، بينما تعي كيف تسخر بنا وتسخر منا كذلك وهي تقودنا إلى أدوار البطولة المؤقتة. إننا نتشكل بما فينا من تغيرات وبما يعبر بنا من مراحل، مع الكلمات ومن خلال الألفاظ والحروف التي لكل منها صوت ونغمة، صرخة وصمت كذلك يأخذ منا ويعطينا. إنها إنسانيتنا التي تتشكل في كتبنا التي نخرج منها لندخل في مثيلاتها من الكتب السابقة ونتشكل دون قصد خارجين من وعيهم مغمورين في لاوعينا لنتكون ونكون المشروع اللاحق لما تعنيه كلماتنا. فالتجربة الواقعية الإنسانية مستمرة يتمرن بها الكاتب على أن يكون أول ضحايا اشتغاله الإبداعي والنموذج الأمثل للخبرة في الصورة المتخيلة والواقع والراهن. أعتقد أن السبب في كون الذات الثقافية محشودة بالأوبئة هو أن الأضواء مسلطة عليها أي أنها تحت المجهر وهو ما سيجعلنا نشعر ببشاعتها أكثر من غيرها من الذوات التي لا تقل عنها أوبئة. سأحاول أن أعبئ هذه الفراغات الكثيرة في شغافي بالخواطر المنسربة مني مع الموسيقى إلى العلو والنزول . هكذا أنا طالما أن الأفكار تعيش فيَّ، وأغذيها بطاقات حسي، نعم إن لحسِّي وحدسي طاقات لا تتوقف عن الصداح بأعمق النغمات تستدعيني لأرتعش كليا بدءا من أصابعي وحتى أوراقي. أحيانا أتخيلها وهي تخرج من الكيبورد وتطير إلي كما الفراشات التي تستعذب بساتيني الملأى بألوان الحياة.