«وما الشعر؟.. غير أنْ نشعر أنّ اليقظة حُلم آخر يحلُم: أنه يحلم!» - بورخيس «أستعيدُ الشريطَ الطويلَ من البدءِ حتى النهايةِ.. أعجبُ كيف استطعتُ النجاةْ!» - محمد التركي 1 - رحلة سينمائية: للشاعر محمد التركي ديوانان، وهما: بريد يومي لعنوان مفقود، و: ما نسيتْه الحمامة، وفي الديوانين يمزج الشاعر بين القصائد الموزونة بلونيها: التناظري، والتفعيلي، والنصوص النثرية المبلّلة بالشعر: أسلوباً وتصويراً، ويبدو هذا المزج حذِراً في الديوان الأول، فقد بُني الديوان على سبعة أقسام - بعدد البريد اليومي لأيام الأسبوع - يتصدّر كلَّ قسم منها نصٌّ نثري، ثم تتسلسل القصائد الموزونة، أمّا الديوان الثاني فقد تخلّى عن هذا الحذر في الترتيب، وفي الديوانين ستلحظ أن الشاعر أمْيل إلى التعبير الشعري المكثّف، ومن هنا اتسمتْ معظم قصائده بالقِصَر النسبي، وقد يكتفي أحياناً بالومضة الشعرية الخاطفة التي لا تتجاوز بضعة سطور. حين تقرأ شعر محمد التركي تحتاج في البدء إلى أن تهيّئ المكان الذي أنت فيه لاستقباله: ابتعدْ أولاً عن الضجيج من حولك، ثم اخفضْ قليلاً ضوء الإنارة، اتخذ جلسة مريحة، وتنفّسْ بعمق، ثم ابدأ القراءة.. بعد زمن لن يطول قد تتفاجأ بأن الصفحات الهامسة بين يديك قد تحولتْ إلى مشاهد سينمائية نابضة بالحياة أمام عينيك!.. على الأقلّ كانت هذه هي تجربتي، وكان لا بد من تفسير، وليس هناك من كاشف لأسرار الشعرية أكثر غَناءً من: الحقول الدلالية، وهنا سنلحظ عدة أمور: أولاً: مفردة الطريق ولوازمها الدلالية؛ كالدروب، والخُطى، والسير، والمشي شائعة جداً في شعره، ويصعب إيراد شواهدها هنا، فهي أكثر الحقول الدلالية انتشاراً لديه، وقد يقول قائل: إن حقل الطريق شائع عند كثير من الشعراء؛ ولا سيما: المعاصرين منهم، وسأقول: إننا نتحدث هنا عن النسبة، ونسبة شيوع هذا الحقل الدلالي عند محمد التركي نسبة لافتة، وتتجاوز الحضور المعتاد له في الشعر المعاصر. خذْ إذن حقل: الطريق الممتد؛ لتبدأ الرحلة مع الحقول الدلالية الأخرى المكوِّنة للمشهد السينمائي؛ إذْ سترى أيضاً كيف تتردّد لدى الشاعر بتواتر لافت: الصوَر والمشاهد المرتبطة بالمطر: (ولا تنسَ جلْبَ المظلّةِ قد يُمطِر الكونُ أقدارَهُ ثم تجتمعانِ اتّقاءَ المطرْ، لا بأسَ أقضي ساعةً تحت المطرْ، والغيمُ يتلو ما تيسَّر من مطرْ.. وأنا ودمعي والمظلّة خلفها مترافقينَ على سفرْ، وها نحن كالمطر المستمر، يفتحون مِظلاتهم كنتُ أعرضُ روحي على الريشِ أسألُ عنك المطرْ، لعلّيَ أهربُ من شَرَكٍ في المظلّةِ ينتابني لحظاتِ المطرْ، لأنّا خُلِقنا تُراباً نُعِدّ مِظلّتنا للمطرْ). وعلى الطريق، وحين يُفاجئنا المطر الغزير عابثاً بمظلاتنا المتداعية: إلى أين نفرّ منه؟.. إلى المقاهي مثلاً؟.. حيث تتراقص أضواؤها الخافتة من بعيد: (في المقاهي إذا شَغَر المقعدانِ ونادتْكما قهوةُ الصبح، لقد كنتُ أشربُها وحدها: قهوةً للمساءْ، ولن نحتفيْ بالجديدِ من الكلماتِ.. الغناءِ، المقاهي، السبُلْ، كلّما ارتشفتْ في الصباحِ شِفاهُ الحبيبةِ قهوتَها، أُخبّئُ آخرَ طَرقٍ لديَّ لبابكِ.. آخر مقهى لديَّ لفنجانِ ليلِك). فإذا أضفتَ إلى هذا كله: شيوع الحقل الدلالي المرتبط بالشدْو والأغنيات، فقد اكتمل أمامك المشهد السينمائي بكلّ أبعاده ومؤثِّراته المصاحبة. ولم يغِبْ هذا التوجّه المشهدي حتى عن عناوين الشاعر، فعنوان ديوانه الأول مثلاً عنوانٌ سينمائي خالص: (بريدٌ يومي لعنوانٍ مفقود)، هذا حين تتتبّع خيوط هذه السمة التصويرية في شعر الشاعر بعامة، ولك بعد هذا أن ترصد هذه المشهدية السينمائية في القصائد المفْردة؛ لتراها تتجسّد أمامك نابضةً بخصوصيتها، ولا سيما في قصائده: أحقّية نبْض، و: غداً موعدٌ للكلام، و: هي لا تنام، و: نهاية. 2 - حلم الطائر المغترِب: في قصائد محمد التركي نفَس اغترابي لا تخطئه عين الراصد، ومن أبرز دلائل هذا الاغتراب: انتشار بعض الصِيَغ اللغوية الموحية بتشظّي الذات، وتعدّدها، وتهشّم كينونتها الأُحادية: (أفتِّشُ عني بكلّ المرايا، وأصبحَ بعضي على إثر بعضي، ألِفتُ ابتعاديَ عني، أحاولُ ألاّ أراني، أُعيدُ تعريفي، وضيّعتُ الأنا في الأنت، وما زلتُ أبحثُ عنّي)، وهي صِيَغ شائعة في الشعر الحديث؛ ولكنّ شاعرنا لا يزال يردِّدها، ويلحّ في تكرارها على امتداد شعره؛ حتى يُثير تساؤل القارئ، ومن دلائل هذا الاغتراب أيضاً: أن ضمير المخاطَب في كثير من قصائد الشاعر لا يُراد به غير الشاعر نفسه، وكأنما هو (مونولوج) خاص وممتدّ مع الذات، ومن دلائل الاغتراب كذلك: تردّد بعض الصوَر والتعبيرات الكئيبة التي تذكِّرك بسوداوية الوجوديين، وبأشعار فرناندو بيسوا خاصة، ومنها: (لديّ صرخة.. ينقصني فم، لسنا هنا نحيا لنخشى أن نموتْ، أين بوّابةُ هذا العالم؟.. أريد أن أخرج)، وفي نصّيه: حياة، و: ضياع جرعة مركّزة من هذه التعبيرات! لا شكّ في أنّ رهافة الإحساس وعمق التفكير يُورِثان شيئاً من الكآبة في النفس، وشعوراً أكبر بالاغتراب أمام مفارقات الحياة، ورغبةً ملحة في الانعتاق من القيود التي تُكبِّل الفرد بأرض الواقع، فهل هذه الرغبة الجارفة في الانعتاق من القيود هي التي تفسِّر: لماذا يتمدّد الحقل الدلالي المتصل بالطير والطيران بقدْر لافت في شعر الشاعر؟: (خذينيَ طيراً، وطفلاً بأجنحة الأمنياتِ يطير، أنا اليومَ مستعبَدٌ دون أيِّ خيارٍ سوى الطيران، أمشي أطيرُ وربما ما بينَ بين، كلّما قُص جناحاهُ يطير، هل تعودُ الفراشةُ للطيران، سربُ عصافيرَ ينقُرُ نافذتي ثم يذهبُ منتحِراً في المدى)، وهل كان من المستغرَب بعد ذلك أن يخصِّص الشاعر قصيدة مستقلّة تُترجم عن هذه الرغبة بعنوان: طيّار؟.. ألم يُعنْون ديوانه الثاني ب: ما نسيتْه الحمامة؟.. وما الذي نسيتْه الحمامة سوى مهارتها العتيقة في الطيران، والتحرّر من قيود الأرض؟ أمّا الشاعر فقد وجد أخيراً طريقه إلى الانعتاق من هذه القيود، ومن تلك الكآبة الوجودية، فإذا هو يبدأ بالصداقة الروحية، وينتهي إليها، وفي هذا ما يفسِّر كثرة القصائد المعنيّة بهذا الموضوع عنده، فهو شاعر الصداقة بامتياز: في انتصاراتها، وانكساراتها؛ حتى في قصائده الغزلية الموجّهة للمرأة يبدو الشاعر فيها صديقاً مُناجياً لروح المرأة؛ أكثر من عاشق متهالك على مفاتن الجسد، ومن هنا تتكرر لديه الصوَر المستقبلية عن الحب المثاليّ المنتظَر؛ كخيال أسطوري يُطِلّ من فجوة الحلم! بقي أن أقول: إنّ ديواني الشاعر لم يكونا خاليين من أخطاء لغوية يسيرة، ومن بعض الكسور في الأوزان، ومن اختناق القصيدة أحياناً بالصياغة النثرية، ولكنّ الروح الشعرية العميقة في قصائده ترفرِف بعيداً بالقارئ عن الانشغال بأحجار الطريق.