أكبر مساحة يهدرها السعوديون في منازلهم مجلس الرجال و»المقلّط» لتبقى معظم أيام العام مغلقة بلا جدوى، لكن عدداً من المثقفين والأدباء استغلها وحوّلها إلى صالونات ثقافية يدعو إليها أصدقاءه ورفاق دربه، ومن يسير على هواه، وبعض الإعلاميين بغية «التغطيات» ونشر الصور و«تسويق الذات» بعدة أشكال وفنون. زادت الظاهرة في الآونة الأخيرة يقودها رجال ونساء بشكل متقطع، وبرامجها وفق التساهيل لكن التغطيات تهطل علينا بعد كل نشاط بشكل تعجز عنه المؤسسات الثقافية الرسمية، ويحقق مآرب أصحاب الصالونات بمشالحهم البراقة والكراسي التي تعودناها في مواسم العزاء تنتظم بشكل أنيق بين «المقلط» والمطبخ، والسماعات الفخمة توجب الانصات، لكننا نبحث عن تسجيل لهذه اللقاءات فلا نجد، أو ملخصات وافية فنعجز رغم سهولة الإتاحة اليوم ومجانيتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لاذ كثيرون بالصالونات الخاصة بعد تراجع المؤسسات الرسمية مثل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة وغياب رسالتها الحقيقية وتحولت بعض نشاطاتها إلى ما يشبه الصالونات الفردية كما يحدث في نادي جدة أو جيزان، على سبيل المثال، يغلب عليها الارتجال، وكثير من الخصوصية، ولا يعلم عنها الجمهور إلا بعد انقضائها فهي صورة لطيفة للشللية وتقاسم المصالح بأشكال متعددة ولها مقاولون معلنون وآخرون من الباطن والمخرجات تتشابه، ولا تدوم كثيراً. النواة الأولى للأندية كانت عبر الصالونات الأدبية، لكن الرواد رأوا تعميم الفائدة وإدراجها تحت مظلة مؤسسية فأتت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة، ودارت الأيام فتراجع الدور المؤسسي وعادت إلى صورة الصالون الخاص رغم النوايا المعلنة التي مفادها إعادة المؤسسات الثقافية إلى صبغتها المدنية وتخفيف حدة الهيمنة الرسمية عليها، واللوائح الجديدة تقول إن الأندية مؤسسات ذات استقلالية إدارية ومالية، وربما لم يكن ذلك صريحاً بما يكفي، أو أن عكسه يجري في الخفاء أبعد كثيراً من المثقفين والأدباء عن بعض الأندية وسادت الصراعات أندية أخرى، وتصاعد غبار كيف في كثير من الأرجاء، ولم نر عملاً جماعياً، بل تصريحات وتصفية حسابات، وكثير من المثقفين لا يُحسن العمل الجماعي ولديه أنانية مفرطة ورغبة استحواذ، وتغيب عن أعماله مبادئ التخطيط والتنظيم أو الإيمان بقواعد الإدارة الحديثة، ويحضر حب الذات..كل ذلك عطّل انتظام المثقفين في المؤسسة الرسمية، أو جعلهم عاجزين عن الاستحواذ عليها ف«الصلاحيات تُنتزع ولا تُعطى» كما صرح أحد الأكاديميين المهيمنين على نادٍ أدبي مشهور!! أظن الأجمل أن تعمل الصالونات الأدبية إلى جوار المؤسسات الرسمية فتنافسها وتتآزر معها أحياناً لا أن تكون بديلاً عنها، والحقائق التاريخية تقول إن عدداً قليلاً منها عمل بشكل منظم ومؤسسي أكثر من المؤسسات الرسمية كلها رغم الأموال التي صرفت عليها والسنين التي عاشتها فمنتدى «الاثنينية» في جدة على سبيل المثال احتفى بالرموز والمثقفين وطبع عيون مؤلفاتهم، وهو ما عجزت عنه قطاعات شتى لا حدود لها. والمشهد الثقافي الحقيقي يستند إلى قواعد التكامل والتعضيد وتنوع التفاصيل وليس العمل الجزئي المنفصم عن سياقاته، أو المأخوذ بالفردية في ظل المجتمع الافتراضي الهائل المتاح الآن وسيادة أدبيات العمل المدني بشموليته وتنظيمه وامتلاكه مقومات البقاء والاستمرارية والجدوى التي يتساوى حيالها الجميع، مع حرية التعبير عن الرأي والمشاركة، وامتلاك حق الاعتراض أو الرفض. الصالونات الأدبية التي تزايدت اليوم مأخوذة بالفردية، وتسويق الذات، وعدم استثمار تقنيات المزامنة العصرية، وغياب تداخل الجمهور مهما كان فكره أو مكانه، هي انتكاسة للمشهد الثقافي، وتراجع واضح للمؤسسة، وبرهان مؤسف على فقد الأمل في القطاعات «الكبرى» المسؤولة عن الثقافة والتخطيط لها وإدارتها، وهي دعوة متجددة لإعادة النظر في المساحات المعطاة لمؤسسات المجتمع المدني الحقيقي.