ويبدو أن هذا العام سيكون للسينمائيين متسعاً، وفسحة، ومجالاً للتنافس والحضور الذي افتقدناه طيلة عقود مضت، وهي ليست نبتاً شيطانياً طارئاً، فالإفادات تقول إن ستينيات القرن الفائت كانت السينما حاضرة في بعض المدن عرضاً وإنتاجاً، ففي تقرير أعددته عام 2004 ونشرته صحيفة الشرق الأوسط قال عدد من أهالي جدة إنهم عرفوا مواقع وصالات عرض، وكانت الأجهزة تؤجر لمن أراد مشاهدة فيلمه الخاص في منزله، وشارك سعوديون في العروض السينمائية مثل الفنان الشهير طلال مداح وفؤاد جمجوم. ومن أشهر القائمين على مواقع العرض محمد أبو صفية في حي الهنداوية، وسراج سحاحيري في حي الشاطئ، وعبد الله صالح الغامدي في «كيلو اثنين» وسفيان فطاني في العمارية، ولم تسلم هذه المواقع من مطاردة المحتسبين الذين انتصروا في نهاية المشوار فغابت العروض وأجهزتها، وحلت في خانة الذكريات، ولم تنطفئ جذوة البحث عن مخرج من أجل استعادة الذاكرة لصناعة حالة مثلى يقتضيها العيش الطبيعي ومن مقوماته الفن والجمال والثقافة وإنتاجها والاحتفاء بروادها. واليوم يستعاد الحلم على يد مجموعة من الشباب، وأذكر منهم وائل أبو منصور حيث قدم فيلماً بعنوان «مزمرجي» يؤرخ ويبحث في جذور لعبة المزمار وفيه تتآلف المادة التاريخية والتقنية السينمائية وأطياف شتى من الحنين، وقد حاز إعجاب كثيرين رأوا فيه شيئاً مغايراً رغم غياب شركات الإنتاج الاحترافية والخبرات التراكمية لدى الكتّاب والمخرجين أو الممثلين. وفي سياق المشاركات الخارجية كان محمود صبّاغ يشارك بفيلم «بركة يقابل بركة» في مهرجان برلين السينمائي، وله في السياق نفسه فيلم طويل عن الشاعر والأديب المعروف حمزة شحاتة، وصبّاغ كاتب بارع يمتلك خزينة معلومات وإطلالة إبداعية على الماضي لم تنعزل في خانة التباكي بل جعلها حقلاً إبداعياً متجاوزاً بجهد فردي ومثابرة نادرة، ويبدو أن المؤسسات الثقافية والفنية لم تلتفت إليه بعد، أو لعلها عاجزة عن فهم الأعمال التي ينتجها أو يكتبها. المبادرات الفردية لا تتوقف لكن الحدث الأهم في الساحة الثقافية يتمثل في استمرار «مهرجان الأفلام السعودية» الذي تأسس قبل تسع سنوات عبر شراكة واعية بين نادي المنطقة الشرقية وفرع جمعية الثقافة والفنون، ورسم فلسفته ورسالته وآليات عمله القاص الجميل جبير المليحان والشاعر المستنير أحمد الملا، وهو مهرجان ظنناه تحدياً طارئاً ربما وأدته الأيدي والعقول الكارهة للفن المرتبط بالجماهير فالشرط المكاني وآليات العرض لا يمكن تحريفها أو التنازل عنها إرضاءً لفئات محددة وهذا ينذر بتصادمات متوقعة استطاع المهرجان تجاوزها ليؤسس حالة استثنائية ودرساً للقطاعات الفنية والثقافية المأسورة بالعمل النمطي التقليدي وهي تتعلل بهيمنة الوزارة حيناً وضعف الموارد حيناً آخر. المهرجان في دورته الأخيرة قبل أسابيع شاهد فيه الجمهور سبعين فيلماً متنوعاً طيلة خمسة أيام، وأكد مدير المهرجان أحمد الملا «أن غياب الفنون أضعف قيمنا الجميلة وأبدلها بأعراف جافة، منوهاً بأهمية الجهر بالفن ورفع صوت الجمال والحب في وجه القبح والكراهية».. هذه الرؤية يجب أن تكون بوصلة الجهات المسؤولة عن الفن ورعاية الشباب المبدعين والفنان وهي خير من لعن الظلام وتوزيع التهم على جهات داخلية أو خارجية تختطف الناس وتعيد صياغتهم من أجل طريق القمع ومعاداة الحياة و»تفخيخ العقول» بالتصنيفات والتصفيات وتأجيج الصراعات. المهرجان لا يكتفي بالعروض واستضافة الجمهور بل يقدم جوائز ويدفع للتنافس ضمن نسق احتفالي احترافي تؤمن إدارته أن «السينما رواية العالم» والفرص متاحة لنكون جزءاً حقيقياً من نسيج الصورة الثقافية العالمية التي تنتجها المجتمعات الطبيعية؛ وفيها الفن من مقومات البقاء ومعززاته وسلامة ضمائر أفرادته وسموهم.