الحديث عن فوارق هامة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إزاء المسائل الاستراتيجية للسياسة العامة وفي مقدمتها السياسة الخارجية ومن بينها التصورات حول ميل الجمهوريين إلى العزلة والانكفاء والسلبية إزاء متطلبات السياسة الأمريكية مقارنة بالديمقراطيين تبدو ضرباً من الأوهام الساذجة، بدليل ان الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت ظل الإدارة الأمريكية الجمهورية المحافظة في عهد بوش الأب ثم في عهد جورج بوش الابن خاضت حروبا خارجية عنيفة سواء تحت عنوان تحرير الكويت أو تحت عنوان مكافحة الإرهاب حيث تم غزو واحتلال أفغانستان والعراق. صحيح ان الرئيس الأمريكي الديمقراطي الحالي باراك أوباما عمل على النأي بالنفس عن التورط في عمليات أو مغامرات عسكرية في الخارج وهو قد يكون نتاجا لخليط من القناعات السياسية والعوامل الاقتصادية والاستراتيجية، في ضوء تراجع الهيمنة الأحادية والمكانة العالمية للولايات المتحدة، نظرا لأزمتها الاقتصادية المتفاقمة وصعود لاعبين دوليين جدد قد يبدو في الظاهر أن هنالك فوارق معينة في مواقف الحزبين، وقد توجد بالفعل بعض الفوارق ولكن إزاء قضايا داخلية بحتة وذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية كالضرائب ونسبة الفائدة ونظام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية والدعم المقدم لقطاعات التعليم والعمل والبيئة، ومسائل مثل احترام القيم العائلية والأخلاقية والموقف إزاء تشريعات مثل إباحة الشذوذ الجنسي وحمل السلاح، وهي قضايا تمس وترتبط بهموم واهتمامات الشعب الأمريكي، إذ من المعروف أن الشعب الأمريكي هو أقل الشعوب في البلدان الغربية اهتماماً بالتعاطي بقضايا السياسة العامة والسياسة الخارجية على وجه الخصوص ما لم تمس بشكل مباشر مصالحه وتؤثر على استقراره كما حصل في حرب فيتنام والصدمة النفطية التي أعقبت حرب أكتوبر (1973م)، وأحداث 11 سبتمبر الإرهابية. المعروف أن السياسة العامة للولايات المتحدة يصوغها بصورة مشتركة الرئيس الأمريكي والكونجرس والبتناجون (وزارة الدفاع) ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ومجلس الأمن القومي وإلى حد ما وزارة الخارجية. وبالطبع فإن هنالك دوراً بارزاً ومؤثراً لمراكز ومعاهد الأبحاث والدراسات والتخطيط ومراكز الضغط واللوبيات المختلفة في صياغة تلك المواقف. وفي هذا الصدد كتب الباحث الأمريكي جانيس تيرر من جامعة إسترن ميتشجين «الرأي العام تاريخياً لم يكن هو العامل المقرر في قرارات السياسة الخارجية الأمريكية وفي الحقيقة قلما يخفى العديد من نخبة المسؤولين العامين الازدراء لآراء الجماهير في حقل السياسة الخارجية والثابت أن معظم الجمهور الأمريكي ليس مهتماً بالشؤون الخارجية». غير أن تحرر السياسة الخارجية الأمريكية من قيود وتأثير الرأي العام الأمريكي لا يعني أنها غير مقيدة، فهنالك التأثير والنفوذ القوي الذي تمارسه الشركات الأمريكية العملاقة وكبار رجال الأعمال والأثرياء المتحكمين بالمفاصل الأساسية للاقتصاد الأمريكي والعالمي والذين يشكلون (إلى جانب شركائهم في دول المركز وتحديداً أوروبا الغربية واليابان) عملياً الحكومة الخفية التي تدير العالم في زمن العولمة ومن خلال الآليات المختلفة المتمثلة في صندوق النقد الدولي البنك الدولي للإعمار ومنظمة التجارة العالمية. الولاياتالمتحدة التي تفاخر بأنها مهد الديمقراطية ومغارة الحرية في العالم وتسعى إلى عولمة قيمها ومفاهيمها السياسية والثقافية من خلال الربط بين الديمقراطية وحرية السوق تبدو في ميدان الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية في أدنى درجات السلم مقارنة بالدول الغربية الأخرى، وعلى وجه الخصوص تفاقم دور الاحتكارات الكبرى واتساع حدة الفوارق الطبقية والاجتماعية وازدياد نسبة الفقر وتردي أوضاع الطبقة الوسطى وانتشار الجريمة المنظمة (المافيا) والعنف وتعاطي المخدرات على نطاق واسع، فالإحصائيات الأمريكية تؤكد أن عدد الأمريكيين الذين يعيشون تحت خط الفقر قفز إلى رقم قياسي بلغ 49 مليونا أو 16 % من السكان في عام 2010 م الجدير بالذكر أن مؤسسة «التقدّم الامريكي» اهتمت بدعم حركة «احتلال وول ستريت» فهذه المؤسسة التي يترأسها رئيس اركان البيت الابيض في عهد بيل كلينتون، وهي قريبة ايضاً من إدارة الرئيس الديموقراطي الحالي باراك اوباما وقالت في احد منشوراتها وهي تبرّر ما يعترض عليه المتظاهرون أن 1 % من الأمريكيين يملك 40 % من ثروة البلاد، أما الطبقة العاملة والفقيرة وتصل إلى 80% من الأمريكيين فتملك 7% من الثروة الوطنية بالإضافة إلى ذلك تقول الإحصائية الصادرة عن مؤسسة «التقدّم الأمريكي» إن 1 % من الأمريكيين يملك 50 % من الأسهم وسندات الخزينة وصناديق الاستثمار فيما يملك 50% من الأمريكيين 0.5 % من هذه الأسهم والسندات والصناديق. لقد اختصر جون جابي رئيس المؤتمر القاري وأول رئيس للمحكمة العليا الأمريكية المسألة برمتها عندما قال «إن من يملكون البلاد يجب أن يحكموها» ويعلق روجيه جارودي على هذا القول «النظام السياسي تماماً مثل النظام الاجتماعي صمم لكي يخدم حاجات الطبقات التي تحتكر الملكية فالسياسة في دوامة التسويق ولكل منصب ثمنه» وبالفعل فإن نفقات الحملة الانتخابية لعضوية الكونجرس الأمريكي تصل إلى عشرات وأحياناً مئات الملايين من الدولارات، أما انتخابات الرئاسة الأمريكية فإنها تكلف عدة مليارات من الدولارات. الانتخابات النيابية والرئاسية أصبحت في الولاياتالمتحدة والغرب عموماً صناعة تستند إلى المال والإعلام والدعاية وإلى المظاهر الشكلية أكثر مما تستند إلى البرامج السياسية الجدية. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نملك نحن شعوب العالم الثالث المغلوبة على أمرها والتي تعيش أوضاع التخلف والفقر والجهل والاستبداد والفساد والظلم بكل أنواعه ومعانيه ترف نقد الديمقراطية الأمريكية؟