تذمر البعض من عمليات استحواذ إذاعة «صوت الخليج» على جزء مهم من الأرشيف الفني السعودي ضمن احتفائها ورعايتها للفن وأهله وسعيها الدؤوب لسد خانات أهملتها مؤسساتنا الداخلية، أو جهلتها، أو لعلها خجلت منها، إن صح التعبير. ومرت الأيام فتناسى الكل الحادثة وأخلصوا الاستماع والاستمتاع بما تقدمه «صوت الخليج» وما تعيد تسجيله والبذل من أجله، وفي كلمة - وثيقة قال الدكتور حسين نجار ليلة تكريمه في مركز با ديب الثقافي بجدة قبل ثلاثة أسابيع إن جزءاً كبيراً من أرشيف إذاعة جدة تلاشى، ولم يعد موجوداً فتأسف معه كثيرون في الوقت الضائع، وليس بيده ولا بأيدينا جميعاً سوى ذرف كلمات الحنين والتعاطف. هنا قصتان فقط من مئات تشير صراحة إلى تفريطنا في إرثنا الثقافي والفني وزهد المؤسسات ذات العلاقة بقيمة الأرشيف فهو أداة لحفظ الإنتاج، وتسهيل عمليات البناء، وتعزيز الهوية ونقلها إلى أجيال أخرى، ودعم الباحثين بتوفير المواد الأساسية لقيام الدراسات والمراجعات.. وبناء الأرشيف لا يقع على كاهل الأفراد فهو عمل مؤسسي بامتياز يتطلب طواقم عمل وأمكنة وميزانيات ضخمة حتى مع ممكنات التقنية المعاصرة التي أفادت العمل الأرشيفي، وساعدت على تنظيمه، وتوسيع دوائر استثماره، وهي الآن تغطي كثيراً من عجز مؤسساتنا بإتاحة أرشيفنا عبر محركات البحث المباشرة لكنه لا يسلم من التحريف والتشويه واختلاط المصادر. وهذا الخلط والتداخل يفاقم حيرة المستفيد، أو قد يجعله مجبوراً على التعامل مع المتاح والقناعة به في ظل غياب غيره أو تغييبه الأمر الذي يؤكد أهمية تأسيس أرشيف وطني فني وثقافي هدفه جمع المصادر والتأكد منها، وتنظيمها، وإتاحتها بكل الوسائل والأشكال، وبناء قواعد المعلومات مع الاستفادة من تجارب مهمة قادتها مكتبة الملك فهد الوطنية لتسجيل التاريخ الشفهي وجمع المصادر التي أنتجها أبناء المملكة في الداخل والخارج لكن أعمالها باتت محدودة وكثير من خدماتها لم تستفد من تقنيات العصر، ولم تتبن أنماط الإتاحة المتعددة، وليتها في ذلك تحاكي جهود مكتبة الإسكندرية، إن لم تستطع تجاوزها!. عرفنا قليلاً من الدراسات على الحركة الفنية السعودية، أو الفن التشكيلي، أو الحراك الثقافي وتاريخ المؤسسات وإنتاجها لأن كثيراً من المصادر مفقود ومتداخل وغير متصل بمنابعه، وتكاثرت دراسات على الإنتاج الأدبي اعتماداً على المكتبات الأكاديمية، وهي ثرية جداً في جمع وتوثيق وإتاحة المصادر الثقافية والأدبية مثل مكتبات جامعة الملك عبد العزيز وجامعة الملك سعود وأم القرى. وليس الأرشيف وحده الذي جنينا عليه رغم ثرائه فقد ظنه البعض أطلالاً للتباكي وشكلاً من الحنين المُفرط الذي لا ينسجم مع إيقاع العصر والتوق للغد فكانت الضحية متعددة الأبعاد بين أمس تلاشت معطياته من فرط الإهمال وعمل راهن ضعيف غير متراكم يدور حول نفسه أحياناً، ويحدث هذا في جمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية على سبيل المثال. ولا يمكن الحديث عن قيمة الأرشفة دون ذكر «مركز الوثائق والمحفوظات» الذي كنا نلوذ به عند البحث عن وثيقة، أو قرار رسمي، أو بحث عن الأعداد القديمة من صحيفة أم القرى منذ نشأتها، وقد احتجب موقعه على الإنترنت قبل ثلاث سنوات تقريباً من أجل الصيانة، ولم ير النور بعد ذلك، وهو جزء من أعمال مجلس الوزراء، وله نظام صادر بمرسوم ملكي، وكان حضوره الإلكتروني رافداً مهماً للدارسين والإعلاميين.. أرجو ألا يطول غيابه فهو يسد نقصاً كبيراً في مجال المعلومات الوطنية ولا يتوفر بديل آخر جدير بالثقة، ووجوده قد يكون دافعاً ودليلاً للمشاريع الأخرى التي تشمل كل المجالات الإدارية والاجتماعية والثقافية.