يُظْهِرُ النظر في الجهد البحثي والتطبيقي في حقل اكتساب اللغة الثانية وتعليمها مواكبة جادَّة للمجالات والحقول المعرفية المتعددة؛ فإذا بدأ هذا المجال متأثرًا بالدراسات اللغوية التقليدية فإنه تسرَّب شيئًا فشيئًا إلى حيز اللسانيات النفسية على اختلاف توجهاتها وصارَ ثمة إسهام واضح للأنظار اللسانية النفسية في تطوير تعليم اللغة الثانية اعتمادًا على رؤى وأفكار مهمة تتعلق بطبيعة شخصية المتعلم بأبعادها المتعددة (العمر والجنس وأسلوب التعلم....)، وعملية التعلم ذاتها بوصفها نشاطًا ذهنيًا معرفيًا ينجزه المتعلم وفق عمليات وإجراءات محددة. ثم بدأت الحقول الجديدة تتضافر وتتآزر في تسيير دفة البحث في تعليم اللغة الثانية؛ فالعناية بالجانب النفسي المعرفي والإدراكي اقتضى أحيانًا كثيرة استعارةَ مفاهيمَ وإجراءاتٍ منهجيةٍ من اللسانيات الاجتماعية؛ فالحديث عن المدخلات والمخرجات يستدعي بالضرورة دراسة التعرُّض اللغوي ومقدار المدخلات لمراقبة أثر هذا الكم والنوع من التعرض في بناء كفاية لغوية وتداولية تضاهي كفاية الناطق الأصيل أو تكاد. ثم كان الحاسوب! وكان ما كان! ومما كان أن الحاسوب دخل حقل اكتساب اللغة الثانية وتعليمها على وجوه متعددة؛ فهو أداة بحثية مهمة في دراسة موضوعات كثيرة في تعليم اللغة الثانية ومراقبة اكتسابها وحساب ذلك كميًّا. وتارة ثانية هو أداة تعليمية مباشرة؛ فهو وسيلة نستعين بها لتيسير تعليم اللغة الثانية وتوفير بيئة تعليم مستمر ودائم طوال اليوم؛ بما ننجزه من برامج تخزين حاسوبي للنصوص والتدريبات والاختبارات الإلكترونية، ومواقع التعليم المجانية المتنوعة... إضافة إلى مصادر التعلم المفتوحة على الشابكة؛ كالمواد الأصيلة من الأفلام والمحاضرات والندوات.... ومع كل ما تقدَّم فإن مجال تعليم اللغة العربية لغةً ثانية ما يزال بحاجة ماسة إلى استثمار الحاسوب واللسانيات الحاسوبية استثمارًا فاعلاً، والحاجةُ أمسُّ في مجالات تأسيسية ينبني عليها كثير من العمل المستقبلي اللاحق. إن ما أقصده على وجه الدقة هو استثمار لسانيات المدونات (المتون) وما تتيحه من خيارات وإمكانات فذة يمكن أن تُحْدِث تحولاتٍ جذريةً في مجال تعليم العربية لغةً ثانية، وسأعتني هنا بالحديث عن نوعين من هذه المدونات: مدونة لغة المتعلم: وهي مدوَّنة شاملة تبنيها الهيئة المسؤولة عن تعليم اللغة الثانية تتضمن إنتاج الطلبة واستجاباتهم للمهمات والواجبات التعليمية المسندة إليهم، على أن تتضمن هذه المدونة أداوتٍ حاسوبيةً تمكِّن من بلوغ الغايات المرسومة لها على المدى القريب والبعيد. إن إنجاز مدوَّنة للغة المتعلم على نحو منظَّم ومدروس يمكِّن المعلم الباحث والقائمين على تدريس اللغة العربية لغةً ثانيةً من اتخاذ قرارات مهمة تتعلق بعملية التدريس وعناصرها كلها بدءًا من تصميم مواد تعليمية وانتهاءً بتنفيذ المهام التعليمية المتنوعة. ويمكن لنا أن نستفيد من مدونة لغة المتعلم في جوانب تطبيقية متنوعة منها: - مقارنة لغة المتعلم بلغة ناطق أصيل من أبناء العربية للوقوف على وجوه افتراق لغة المتعلم عن لغة الناطق الأصيل وتعرُّف أسباب تلك الاختلافات، ومحاولة تبيُّن الصعوبات التي يواجهها المتعلم. - ويتصل بالنقطة السابقة رصد تطوُّر اللغة المرحلية( البينية) التي يسلكها متعلم العربية لغة ثانية، ولعله يمكننا تتبع مسارات عدة لمتعلمين ينتمون للغات أم مختلفة؛ لعلنا نبلغ من ذلك مسارًا مشتركًا لِ»لغة مرحلية عربية عالمية» يسلكه جميع متعلمي العربية من الناطقين بغيرها. - مقارنة الأداء اللغوي الذي ينتجه متعلمو اللغة الثانية المنتمين إلى خلفيات لغوية وثقافية متنوعة قصدًا إلى الوقوف على وجوه الشبه بين أداءاتهم اللغوية العامة، والوقوف على وجوه الاختلاف بينهم. وظاهر أن وجوه الاختلاف هذه ستقودنا إلى مراجعة أثر اللغة الأم في اكتساب العربية لغةً ثانيةً وتعلمها، وستقودنا وجوه الاتفاق إلى رؤى عامة في بحث الأنماط العالمية المشتركة للاكتساب بصرف النظر عن اللغة الأم. - إعادة النظر في دراسات اكتساب اللغة الثانية التقليدية التي اعتمدت على عينات ونماذجَ يسيرة؛ ذلك أن كثيرًا من الأنظار والرؤى الكلاسيكية المؤسِّسة في هذا المجال اعتمدت على عينات ونماذجَ محدودة، فإذا توفرَّنا على عينات متعددة ومتنوعة وكبيرة أمكننا أن نؤكِّد افتراضاتٍ سابقةً بأدلة علمية وإحصائية مقنعة، ولعلنا نزحزح أنظارًا أخرى لم تعتمد عيناتٍ كافيةً وأثبتت الإجراءاتُ الجديدةُ قصورها الوصفي أو التفسيريّ. 2- مدوَّنة تحليل الأخطاء و قد نُفرِّعُ من مدوَّنة لغة المتعلم مُدونةَ تحليل الأخطاء؛ أما وجه تفرعها من مدونة لغة المتعلم فماثل في إمكانية بناء برمجيات لتحليل أخطاء النصوص التي تضمنتها المدونة من أعمال المتعلمين وإنتاجهم. وأما الوجه الآخر، وهو أيسر منالاً وأخصر وقتًا، فهو بناء مدونة من المنجز الحاضر في تحليل الأخطاء؛ ذلك أننا نتوفر على عدد كبير من البحوث والدراسات والأطروحات الجامعية التي اعتنت بتحليل أخطاء متعلمي اللغة العربية غير الناطقين بها على مدى سنوات طويلة من البحث والدراسة والتدريس في هذا الحقل. وأحسب أن بناء هذه المدونة أيسر من بناء برمجيات لتحليل الأخطاء؛ ذلك أن الأمر يتوقف على إدخال نتائج الدراسات الناجزة وتصنيفها وفق متغيرات عدة، منها: نوع الأخطاء (صوتية، صرفية ، نحوية....)، ولغة المتعلمين الأم..........؛ فما الذي يمكن أن نجنيه من هذه المدونة؟ إن دعم هذه المدونة بأدوات تحليل وتصنيف سيوفر لنا فرصة عظيمة للحصول على بيانات مهمة يصعب علينا الوقوف عليها في الأبحاث الورقية، ومن المؤكَّد أنها ستكون بياناتٍ على قدر كبير من التنوع والسعة والشمول. إنه يمكن أن نستخلص من هذه المدونة عددًا كبيرًا من البيانات، منها: - الأخطاء المشتركة التي يرتكبها الناطقون بلغة أم معينة (التركية مثلاً). - الأخطاء المشتركة التي يرتكبها الناطقون بمجموعة لغات أُمّ بينها صلات محددة (الإنجليزية والإسبانية والإيطالية). - الأخطاء المشتركة التي يرتكبها جميع متعلمي اللغة العربية على اختلاف لغاتهم الأم. - الأخطاء النادرة جدًا التي يمكن ردها إلى أخطاء فردية مثلاً. ويمكن لنا إضافة متغيرات تفصيلية يمكن من خلالها الوقوف على كثير من وجوه التطور والنمو في تعلم اللغة العربية واكتسابها؛ فمثلاً يمكننا إضافة متغير العمر، ومتغير عدد اللغات الأجنبية التي يعرفها المتعلم، ومدى التعرض للغة العربية........ هذه المتغيرات كلها من شأنها تزويدنا برؤى مهمة في مراقبة اللغة المرحلية وسيرورتها لدى متعلمي العربية لغة ثانية....إلخ. وذلك كله سيقفنا على إعادة النظر في كثير من المقولات الشائعة والراسخة في تحليل الأخطاء وتعليم اللغة الثانية، من أهمها إعادة النظر وبطريقة أدقَّ وأعمقَ في أثر اللغة الأم في تعلم اللغة الثانية ومدى سلبيته أو إيجابيته. ولا شك أن تحصيل هذه النتائج من تحليل الأخطاء سيترتب عليه نتائج مهمة وكبيرة في بناء مناهج تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات محددة، وستتميز هذه المناهج باعتمادها على نتائج دقيقة إلى حد بعيد بالنظر إلى اعتمادها على مئات الدراسات والبحوث والحالات. ولا شك أن الأفكار السابقة إنما هي أفكار عامة تَصْلُح أن تكون مِقْدَحًا لمشروعات أكثر تفصيلاً وأجدى نفعًا؛ فقد تنبه المشتغلون بتعليم اللغات الثانية إلى أهمية بناء مدونات من هذا النوع ولاسيما في الإنجليزية، وأسهم ذلك في توفير بياناتٍ هائلةً تخدم الباحثين الآن، وسيكون لها صدى مستقبليٌ قريب في مجال اكتساب اللغة الثانية وتعليمها بوصفه حقلاً بحثيًا ما يزال ينتظره كثيرٌ من النظر والتمحيص والتطبيق. وأحسب أنه آن الأوان لتبني مشروعات، كهذه، تكون أساسًا مرجعيًا يفيء إليه العاملون في تعليم العربية لغة ثانية، ويقصده المنظِّرون في نظريات اكتساب اللغة وتعليمها؛ فلعلها تكون المدخل العريض لإسهام اللسانيات التطبيقية العربية في النظرية اللسانية الكونية وتطبيقاتها. ويقيني كاملٌ أن المملكة العربية السعودية، وهي الدولة الأولى في العناية بالعربية وتعليمها لغةً ثانية، هي أقدرُ وأجدرُ وأحقُّ بهذه الفضيلة من غيرها. أ.د وليد العناتي - أستاذ اللسانيات التطبيقية - قسم اللغة العربية بجامعة قطر