في ملاحظة كتبها أحد أصدقائي في الفيس بوك ذكر فيها أنه ينظر للقصة القصيرة على أنها حبيبته بينما ينظر للرواية على أنها الزوجة! وكاتب الملاحظة هو الكاتب ا لمصري شريف صالح، وهو كاتب نشيط جدا وله خط متميز وفريد في الكتابة خاصة في كتابة القصص القصيرة، وله قفشات جميلة في الفيس بوك تجبرك على النظر بزاوية جديدة لأي موضوع يطرحه، والجميل في ما يكتبه في صفحته بالفيس بوك أنها كتابات غير مفلترة وغير معاد تصنيعها في داخله، يكتب ما يخطر على باله دون تزويق وعادة أتفق كثيرا مع هذا النوع من الكتاب لأني أجد فيه الصدق الذي هو معيار الكتابة الحقيقية. لكني توقفت كثيرا أمام مقولته تلك مع أني ضد أن أتعامل مع الكتابة ككائن بشري وضد أن تتحول المرأة لأنموذج لتقريب وجهة النظر في أي موضوع، ومع ذلك تماهيت معها وفكرت في الصورة النمطية للمعشوقة (القصة القصيرة) فهي الحرية بكل أنوارها الخفية وهي الأثيرة والمرغوبة والممتعة وربما السهلة المنال، بينما الصورة النمطية للزوجة (الرواية) فهي الالتزام بكل ثقله المادي والمعنوي، الاتجاه الإجباري المضاد للحرية، هذه هي الحمولات النمطية للمفردتين. فهل حقا تبدو القصة القصيرة كرفيق سهل الحمل ممتع الصحبة، تستطيع أن تبدأ معها وتنتهي بلحظات، بينما الرواية هي هيكل كبير مترامٍ يتطلب شخصيات وحوارا وبناءاً محكما يربط بينهما ووقتا طويلا يستوعب هذا الكيان الكبير ؟! هل فعلا الرواية تتطلب التزاما ثقيل الوطأة على النفس؟! وهل القصة لا تتطلب ذلك؟! أتحدث هنا عن الكتابة الحقيقية والكتاب الحقيقيون لا الذين وجدوا في الكتابة مآرب أخرى لهم فهؤلاء لا أظنهم قادرين على خوض هذا الجدل أو حتى فهم مراميه، فالرواية والقصة لديهم سواء مادام المقصود سيحدث. في ظني أن عملية خلق النص تتطلب الالتزام كما تتطلب المتعة، لايمكنك أن تكتب نصا لاتلتزم فيه بالمعايير العامة للكتابة كما لايمكنك أن تقوم بهذا الالتزام كارها، عملية الكتابة عملية ممتعة وأثيرة ومرغوبة، لأنك تمارس الخلق فيها وتضع القوانين وترسم النهايات وقد لا تعجبك فتعود تشطبها وتكتب شيئا آخر، هذه الحرية في الهدم والبناء في النص هي ما يجعل الكتابة أمرا مرغوبا دائما. بل إنك أحيانا تثور على المعايير وتكتب نصا مغايرا للسائد وهذه الثورة في الخروج عن النمط هي التمرد الذي يجعل منك كاتبا مختلفا. لذلك فكل ماسبق من مشاعر متناقضة تجاه العشيقة والزوجة هو حاصل مع القصة ومع الرواية، فالكاتب ملتزم مع القصة وملتزم مع الرواية وهو الثائر مع الصنفين إن أراد لأنه الخالق الأوحد لهما، لكن الفرق هنا في عملية الخلق نفسها الخاصة بكل نوع، فالقصة لايمكن أن تخلقها على مراحل، أو دفعات، تتم في قبضة واحدة أو تفنى في الحال، لاتضع القصة على نار هادئة حتى تنضج لكنك قد تفعلها مع الرواية، القصة لا تحتاج خيوطا كثيرة وشخصيات وحوارا متشابكاً بين هذا وذاك خاصة مع النمط السائد في أن الرواية لابد أن تحوي كل ذلك مع تحليل نفسي وخلفية تاريخية واجتماعية وكل الكلام الكبير الذي ألصقوه بالرواية بحيث حولوها لوثيقة وشاهد على العصر ! وذلك صنيعة تاريخ الرواية وتراكم نماذجها. أعتقد أن الرواية هنا ظلمت بالقدر الذي ظلمت فيه الزوجة (في التشبيه) فالكتابة هنا واحدة، سواء أكانت رواية أو قصة فهو سرد في نهاية الأمر وله معاييره التي لاتتناقض كثيرا، السرد فكرة أو مشهد أو حدث، أحيانا يتطلب الحدث أن تتعمق فيه فتخلق شخصيات تبرزه وتتحدث عنه وأحيانا يتطلب هذا الحدث أن تستعين بالخلفية التاريخية أو الاجتماعية أو عن ظرف سياسي هكذا تتخلق الرواية، رؤيتك في العمل تتطلب منك هذا الحشد من الشخصيات والحوار والخلفيات والبناء والتداخلات، كلها تضعها لتقول ما تود قوله بطريقة توصل رؤيتك للقارئ. وأحيانا أخرى لا تتطلب الرواية كل ذلك كل ما تطلبه أن تغوص عميقا في ذاتك وتطرح رؤاك دون مزيد من الشخصيات أو الخلفيات، في القصة هو ذات الحدث وذات المشهد لكنك لا تحتاج كي توصله أن تستدعي كل ذلك الحشد أو أن تطرق كل الأبواب السابقة. وهذا لايعني أن القصة هي الأسهل بل على العكس القصة يحكمك فيها أشياء كثيرة تتطلب منك أن تكون موجزا وموجعا في ذات الوقت، وسهلا في إيصال المعنى وممتنعا في الطريقة، ولأنها تتخلق دفعة واحدة فذلك يتطلب منك ككاتب أن تنجزها دفعة واحدة وأن تكون راضيا عنها وهذه لا تحدث دائما في القصص القصيرة لذلك كثير من القصص يكون مصيرها الفشل. كاتب الرواية يصنعها على دفعات وهو في ذلك يشبه صانع الفخار، فهو الخالق المتأني، يفكركثيرا، ويرسم ويرش الماء ويدوزن الهيئة ويديرها بيديه وعندما لا تعجبه يطفئ النار ويعاود نفخ الفخار حتى يعجبه النموذج، يتوقف إذا تشتت والفخار ينتظره ويقول له أنا قابل للتشكل متى ما شعرت أنت بالرغبة بذلك. القصة باختصار تتطلب الحكمة بينما في الرواية أنت تحتاج كثيرا للصبر..