منذ أطلت الرواية على القراء وجدت مساحة واسعة من الاهتمام، وبدت جاذبة، رائقة بتفاصيلها وسردها. وبقيت الرواية الطويلة بمفهومها التقليدي في صدارة الأجناس الأدبية، لكنها تجد اليوم منافسة ضارية من الرواية القصيرة التي تتأرجح بين الرواية والقصة الطويلة. ويثور الجدل حاليا بين أنصار ضرورة الإبقاء على الرواية بشكلها وعدد صفحاتها ومتعة تفاصيلها، وبين من يعارض ذلك، ويجنح إلى أن الرواية القصيرة بديل أكثر ملاءمة ومواكبة للعصر الحالي، بعيدا عن الحشو في التفاصيل الذي قد يأخذ القارئ إلى ما لا يريد، وقد يدفعه إلى ترك الكتاب. ويتهم البعض الروائي التقليدي بالحشو واستنزاف وقت القارئ في التفاصيل، وإضاعة بوصلة السرد أحيانا، فيما يُتهم كاتب الرواية القصيرة بمحاولة زعزعة القديم، وتأصيل مفهوم يتناسب والعصر الحالي للقارئ، مع ما ينتج عن ذلك من عجز عن الإلمام بالتفاصيل، والميل إلى الاختزال غير المفيد للرواية. وتتحكم ثمانية عوامل تنقسم بين النوعين في سوق الصراع بينهما على تسيّد الساحة، حيث يتحلى كل نوع بأربع نقاط قوة، دون أن يلغي ذلك معاناته من بعض المآخذ والمثالب.
تغريدة على انفراد
الرواية كنسق بنائي - سردي ليس فيه "طويل" و"قصير"، لأن مصطلح (رواية قصيرة) مرتبط بما هو معروف الآن، بالقصة القصيرة. هذا من الناحية المبدئية. أما إذا تجاوزنا عن هذه النقطة واعتبرنا أن وصف "قصير" و"طويل" هنا وصف مرتبط بحجم الكتاب، فإننا سنجد أنفسنا في مواجهة مباشرة مع سؤالين مهمين ووجوديين للغاية: لماذا نكتب؟ ولماذا نقرأ؟، وهو ما يجعلنا أمام استجوابين أحدهما متعلق بالكاتب، والآخر بالقارئ. في اعتقادي، ثمة إملاءات من نوع ما، تتم ضمن الإطار التفاعلي بين عناصر الأدب (النص، الناص، المُتلقي)، أو فلنقل تسويات خفية؛ فالمُتلقي في كثير من الأحيان يملي على النّاص ماذا يكتب، وكيف يكتب، والنّاص في بعض الأحيان يملي على المُتلقي ماذا يقرأ، وكيف يقرأ. وقد يبدو ذلك غريبا، ولكن على المستوى الواقعي لفعل الكتابة والقراءة فإن هنالك كتابا يكتبون ما يريد قراءته المتلقون. وهنا يتضح أن المتلقي يبحث عن موضوعات بعينها، هي ما تثير اهتمامه، وتسترعي انتباهه، وهذا يجعلنا نتذكر محنة المتلقي العربي الذي في اعتقادي ليس ناضجا كفاية، (وأنا هنا أتكلم عن السواد الأعظم، ولا أتكلّم عن الجميع)، وإذا سعينا إلى محاولة معرفة أسباب ذلك سوف نتوه كثيرا في سبيل تفكيك خيوط المنابع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تلك الخيوط المتداخلة والمترابطة كشبكة عنكبوت، ولا غرو أن كثيرا من المتلقين يتعاملون مع النصوص الروائية باعتبارها نصوصا حكائية، ويتخذونها للتسلية، في مقابل مواد أخرى عصية على الهضم، فهو نوع من استسهال المادة القرائية. أما فيما يتعلق بعنصر الناص، ففي اعتقادي الشخصي أيضا، أن عددا كبيرا من الكتاب انتقلوا إلى الكتابة الروائية لسببين رئيسين: أولهما استسهال هذا النوع من الكتابة للسبب الذي ذكرناه سابقا، وثانيهما سبب يمكن أن أسميه بغواية الرواية؛ فالرواية تعد كاتبيها بشهرة أكثر مما تعدهم بها الأجناس الأخرى، بالإضافة إلى حمى الجوائز المخصصة لجنس الرواية، والسبب الأول هو ما يسمح باحتمالية أن تكون الروايات العربية المعاصرة مليئة بالحشو والاستغراق في التفاصيل (حتى على مستوى الروايات القصيرة)، وتعامل المتلقي مع فن الرواية باعتباره فنا حكائيا، يجعله يستثقل الروايات الطويلة، فهي عوامل متداخلة بعضها داخل بعض، ولا يمكننا الفصل بينهما أبدا. وقد نضيف إلى ما سبق، عامل غياب الحركة النقدية، فغياب النقد أسهم كثيرا في تشويه مفاهيم كثيرة كان يجب مراعاتها ونحن ندخل ونتعامل مع الحداثة وما بعدها، فأصبحتا ذريعة لتهجين الأجناس الأدبية أو تخليق أجناس جديدة كليا دون رقابة نقدية واعية، وأقول "واعية" ولا أقول منهجية أو أكاديمية، لاعتراضي المبدئي على فكرة النقد المنهجي أو النقد الأكاديمي؛ لأنني أرى النقد فنا، لا علما. الروائي السوداني هاشم آدم الفكرة هي الأساس وليس الحجم
أعتقد أنه عندما يكتب الكاتب نصا فإنه لا يفكر بحجمه، بقدر ما يركز على الفكرة، وكيفية تناولها، وبقناعاته، وإلى أي مدى وصل بها إلى النهاية المرضية. الرواية بالنسبة لي كالقصة القصيرة من حيث التكثيف والبناء والسرد، أحاول جاهدا ألا أدلف في تفاصيل دقيقة حتى لا أرهق القارئ، أكره الحوارات الطويلة والسرد الزائد والمتكلف.. لماذا أعذب القارئ وأنا أقدم له متعة، فالإبداع يحقق المتعة كشرط رئيس. أعترف بأن من دفعني إلى كتابة الرواية القصيرة هو الكاتب الراحل، شيخ الحكائين والروائيين خيري شلبي، فقد قرأت أعماله كلها، ولكن توقفت كثيرا عند روايته القصيرة "موت عباءة" وقد أسرني سردها، وتكثيفها، وعلى الفور أمسكت روايتي الأولى "رايحين على فين؟" واختصرتها من 170 صفحة إلى 50 فقط.. أنهكتني التجربة، ولكن وضعت قلمي على بداية أسير عليها بخطى ثابتة حتى الآن. أما بالنسبة للمنافسة بين النوعين من الرواية، فليس هناك منافسة حقيقية.. الواقع يضعنا في مأزق، فالمكتبات ترحب بالرواية ذات الحجم الكبير بحجة أن القارئ يقبل عليها أكثر، لكني طالعت أكثر من 80% من الروايات المطروحة في السوق والتي تعاد طباعتها بصورة ملفتة "هكذا يقولون" ولم أستطع أن أكمل معظمها، وأنا الذي ألتهم الكتب التهاما، فلماذا يقبل عليها القارئ؟.. سؤال يحتاج فك شفرته. المشكلة أن الرواية ترهلت، وقريبا سنجد عصرا يواريها، يقولون إنه عصر المقال، ربما، ولكن الرواية لن تستمر في المشهد طويلا، بعد أن استبيحت من الجميع، ما لم يتدارك فرسانها وكتابها الموقف ويسارعون لإنقاذها من الترهل. الروائي المصري محمود رمضان الطهطاوي المتن والكثافة السردية يحكمان الرواية
الرواية وليدة مرحلتها التاريخية، ولكل مرحلة طبيعة تلق خاص، وهذا ما ينسحب على مساحة الرواية، لذا من الطبيعي أن تكون لكل مرحلة روايتها، إضافة إلى عدة عوامل تحكم طول الرواية أو قصرها، منها ما يتعلق بالمتن الحكائي وكثافة المادة السردية، وهذا يرتبط بالنوع الأسلوبي المتبع في الكتابة، فالرواية الدرامية تتصف بالطول، عكس الغنائية والسينمائية. اتهام الرواية الطويلة بالحشو واستنزاف الوقت والتفاصيل من قبل الكاتب وارد جدا في المرحلة الحالية، فإن كانت تلك التفاصيل الدقيقة في السابق لا يمكن أن تصل إلى القارئ إلا عن طريق عرضها تفصيليا في المتن الروائي، فإنها حاليا حاضرة للجميع عن طريق وسائل التكنولوجيا الحديثة، لهذا فإن إرهاق القارئ بالتفاصيل قد يترك أثرا سلبيا على مزاجه، وهو الباحث عن الاسترخاء في هذا الزمن الصارم. وأعتقد أن الرواية القصيرة هي الأنسب للمرحلة الحالية استنادا لنظريات (التلقي) التي تحدد مدى استجابة ذهن القارئ لحجم المادة المفروضة عليه داخل المتن الروائي في ظل التزاحم الذي يحيط بذلك الذهن، خصوصا نحن في زمن الميديا والتكثيف الإعلامي، لذا يبتعد القارئ عن المادة السردية المرهقة لوعيه. بناء على ذلك، على الروائي مهمة صعبة، فهو مطالب بخلق وإيجاد رواية قادرة على إثبات وجودها والوقوف بموازاة الرواية التقليدية الطويلة التي أرست دعائمها عبر قرون سابقة، ولا أرى في كتابة الرواية القصيرة عجزا من الكاتب عن خلق التفاصيل، إنما تكون مهمته أكثر عسرا لكونه ملزما بتقديم نموذج روائي حديث قادر على الاختزال والتكثيف والترشيد السردي، والاطلاع على نتاج كبار الروائيين العالميين يؤكد أنهم بدؤوا الميل إلى الرواية القصيرة في مراحل حياتهم الأخيرة مثل ماركيز في روايته (ذاكرة عاهراتي الحزينات) التي تعد رواية قصيرة قياسا برواياته السابقة. الروائي العراقي شهيد شهيد ضيق الوقت يعارض الرواية الطويلة
كانت الرواية الطويلة في القرنين ال18 وال19 في أوروبا مرغوبة، خاصة عند الطبقة الأرستقراطية، وعند النساء المرفهات والمدللات البرجوازيات، وهن يطالعن الروايات في المنازل بسبب الفراغ. وفي القرن العشرين، وبعد ثورتين صناعيتين كبيرتين باتت الرواية الطويلة غير مرغوب فيها لضيق الوقت وانشغال الناس بأعمالهم، وبعد ثورة الاتصالات (الثورة الثالثة)، وفي زمن السرعة أصبحت النصوص السردية القصيرة هي المفضلة، خاصة القصة القصيرة بحدود أربع أو ست صفحات، والقصة القصيرة جدا.. الآن القراء كما أرى يفضلون (النيوفيلا) الرواية القصيرة أو القصة القصيرة الطويلة. الكاتب والصحفي السوري باسم عبدو الحشو الزائد يسيء إلى البنية السردية
كل رواية تحمل حشوا زائدا ستخرب بنيتها، ولكل رواية بيئتها وبنيتها السردية.. وعندما تكتب رواية طويلة فأنت بحاجة إلى أدوات تساعد قارئ النص على استيعاب الحدث والدخول فيه، ومن ثم وضعه ضمن دائرة الفعل الروائي، لكن لهذا شروط قاسية، إذ عليك في الرواية الطويلة أن تدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة ومتابعة التفاصيل، أما إن فشلت فسيلقي بعملك جانبا شاعرا بالملل. تقنيات الرواية الطويلة تختلف عن تقنيات القصيرة، وعليك ككاتب إدراك هذا، وعليك ألا تنسى أنه كانت للرواية الطويلة مكانة خاصة في كل مكان وزمان. والرواية القصيرة ليست اختزالا، لنقل إن هناك تفكيكا للحدث ومن ثم معالجة المفككات كبنيات سردية منفصلة.. تستطيع أن تكتب عن سيرة شخصية، وتستطيع تفكيك هذه السيرة والكتابة عن أجزاء منها.. وربما ضيق الوقت ووسائل الاتصال الحديثة يسهمان في تفضيل الرواية القصيرة. الروائي العراقي صلاح صلاح